هل تقود الظواهر السياسية العربية الجارية من حولنا في منطقة الشرق الأوسط إلى انفجار كبير يشبه ما كان يحدث في أوساط القرن العشرين الفائت والعقود القابلة اللاحقة له، بمعنى: هل تقود هذه الظواهر إلى تغييرات جذرية أو شبه جذرية على قاعدة أن "معظم النار من مستصغر الشرر؟" أم أن هذه الظواهر هي مجرد انفجارات محلية سريعاً ما تخبو جذوتها أو تزول آثارها؟ وهل من المستحب أن نقرأ هذه الظواهر بمنطق العاطفة أم المصلحة أم العقل؟ خصوصاً أن كل زاوية من زوايا القراءة تلك لها نتائجها في المحصلة النهائية، وأيضاً حيثياتها، فمثلاً تجميد القناعة وتمجيد المصادفة وإلغاء العقل، هي أدوات في التحليل ركن إليها كثيرون في ثقافتنا السياسية. ولكن ليسمح لي القارئ بأن أنحاز للقراءة العقلية والاجتهاد القريب إلى دائرة المنطق. فقراءة المصلحة لها طريق وقراءة العاطفة لها طريق آخر مختلف. ولكن ما أحوجنا إلى المقاربة العقلية التي لا بد منها لتقدير الأمور وتقويم المعوج. وأمامي في الأسابيع الأخيرة أكثر من ظاهرة سياسية، لعل آخرها هو الانفجار الإعلامي الذي حدث على خلفية نشر صور فاضحة لراهب مصري سابق من الأقباط، وردة فعل طائفة منهم على ذلك، وتفاعل الكثير من أهل الرأي والسياسة تجاه ما حدث. هذا على الجانب المصري، أما على جانب آخر، فهناك إبراهيم غوشة الأردني وعودته إلى بلاده على متن طائرة قطرية آتية من الدوحة، وهو المتحدث الرسمي لحركة "حماس" الفلسطينية، بعدما كانت السلطات الأردنية أبعدته خارج حدودها باتفاق "جنتلمان" بين عمّان والدوحة. هذان حدثان بارزان جديدان، إلى جانب كثير من المواقف المزمنة، مثل ما يحدث في لبنانوالجزائر والسودان والعراق، إن اكتفينا ببعض الأمثلة من دون التعميم المطلق. فهل لهذه الظواهر خيط واحد يجمعها، ولو كان خفياً لا يلوح إلا للأعين الواعية؟ وهل هناك رابط يربطها معاً؟ أم هي "ظواهر معزولة"، كما يرى البعض؟ في البداية أريد أن استبعد من التحليل نظرية "المؤامرة الأجنبية"، ليس فحسب لأنها لم تعد مقنعة، ولكن لأنها تضفي الكثير من الضباب على قدرتنا على التحليل المنطقي الذي يقود إلى معرفة الحقائق، وبالتالي وصف العلاج الناجع لها أو القريب من أن يكون ناجعاً، لأن هذه النظرية - نظرية المؤامرة - كثيراً ما تريح العامة والخاصة، فيركنون إلى أنهم لا ذنب لهم في ما يعانونه، ويصورون الأحداث كما لو كانت قدراً لا مفر منه، وهو ما يعفي البعض من التفكير، والبعض الآخر من اتخاذ القرارات الواجبة. في حالة إبراهيم غوشة، يتخطى الأمر محاولة الإجابة عن السؤال: من المخطئ أو من المصيب؟ ولكن الحقائق تقول إن الرجل مواطن أردني، أُبعد عن بلاده بالتراضي نتيجة نشاطه في صفوف "حماس" التي تنادي بتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، في الوقت الذي تربط الأردن بلاده مع إسرائيل معاهدة سلام شهد عليها العالم، ولها شروط واجبة التنفيذ بين البلدين، أقلها أن تحول سلطات كل بلد بين أي نشطاء منظمين على أراضيها دون الاخلال بالأمن في البلد الآخر. ولما كان الأمر صعباً وعسيراً على الأردن في السابق، شرعت إسرائيل في اغتيال خالد مشعل ناشط آخر بالاتجاه نفسه، وحدثت وقتها أزمة عميقة، نتجت على إثرها رسالة مفادها أنه اذا لم تقم السلطة الأردنية بما تعتقد إسرائيل أنه يتعين عليها القيام به، فهي - أي إسرائيل - ستكون مطلقة اليد بالتصرف المباشر في الأرض الفلسطينية. وهما أمران كان أحلاهما شديد المرارة. ذلك أن تعريض أمن الأردن لأخطار مزدوجة هو آخر ما يفكر فيه عاقل، وهكذا انتهى الأمر بإخراج الناشطين الأردنيينوالفلسطينيين من "حماس" إلى مكان بعيد، على ضفة الخليج، وكان هذا المكان هو الدوحة، ولأسباب ما، ربما خاصة بالدوحة، أو ربما بحركة "حماس" وناشطيها، عاد إبراهيم غوشة إلى الأردن من جديد، لكنه لم يسمح له بالدخول، فبقي في مطار عمّان ولا يزال حتى كتابة هذه السطور. والواضح أن القرار ربما نتج من ضغط مارسته الدولة الأكثر تضرراً من "حماس" ونشطائها، أو ربما - وهو الأقل في التقدير العقلي وإن كنا لا ننفيه تماماً - من الحركة نفسها للاحراج أو لتسجيل المواقف. ومهما كانت الأسباب، فإن الكرة تعود من جديد إلى الأردن الذي يتوزع منقسماً على نفسه، فهو يقف بعاطفته مع القضية الفلسطينية، وبعقله مع الاتفاقات الدولية، واقعاً في مرمى سهام الحرج، مع معرفة أكيدة بأن هناك ما بين أربعين وخمسين في المئة من المواطنين ذوي الأصول الفلسطينية يعيشون في الأردن، فهل هناك من يحسد الأردن على هذا الموقف الذي يعانيه في مهب العاصفة، بينما يتنازعه من ناحية، وضعه الداخلي المتشابك، خصوصاً من الناحية الديموغرافية. ومن ناحية أخرى عاطفة عربية تدعو إلى القيام بدور فعال تجاه القضايا المتعددة. ومن ناحية ثالثة اتفاقات دولية تملي عليه التزامات سياسية وقانونية لا قبل له بالتنصل منها. ولا شك في أن الخلل في الوضع المتشابك ذي المعادلة الصعبة، قد يعرض النسيج الوطني الأردني للخطر، والأكثر من ذلك هو صرف النظر عن المشكلة الأم في فلسطين إلى المشكلة الفرع في مطار عمّان، أو حتى في شوارعها. وباليقين يجسد هذا الوضع واقع التناقض العربي الحاد بين مستوى الخطاب ودلالات الواقع، بين القدرة والإمكان... والأردن مجرد مثال، ولكنه ليس الوحيد! وصورة هذا التناقض قد تتضح جزئياً في قول لبناني واضح وعلني، جاء هذه المرة من السياسي وليد جنبلاط - وهو يتحدث مدركاً أن لبنان أيضاً يقف في عين عاصفة أخرى، وإن بلون مختلف - اذ نقل عن جنبلاط قوله مخاطباً مواطنيه: "أي لبنان نريد؟ هل نريد أن يصبح هونغ كونغ، أم يغدو لبنان هانوي؟". قد لا يكون جنبلاط منتظراً الإجابة أو باحثاً عنها، بمقدار ما يدحرج في الساحة العربية السياسية، وبالأخص اللبنانية ذات العذاب المستمر، معضلة تستحق أن ينظر فيها الجميع بالجدية التي تستحقها، وهو يراقب - عن قرب - تشابك لبنان وعلاقته بالجارة الكبيرة سورية من جهة، وبالجيران الجنوبيين في إسرائيل من جهة أخرى، وما أفرزه في السابق ويفرزه هذا التشابك في الوقت الحالي، في الساحة اللبنانية التي تمور أيضاً بمجموعة من القضايا الاقتصادية والسياسية الخاصة بتركيبتها السكانية وطموحاتها الاقتصادية، والتي هي ليست أقل من المعضلات التي تواجه بلداً كالأردن. فالجانب المسيحي للبنان في الغالب له علاقات ما، وعن طريق هذه العلاقات يبحث لبنان المسيحي عن مخارج للمشكلات التي تواجهه، غير تلك التي يبحث عنها لبنان المسلم بالطبع، وتتقاطع المصالح أو تتباعد، ليجد لبنان - بوجهه الشيعي - نفسه في مظهر المقاومة التي يعتز بها في الخطلب الرسمي، فالجماعات السياسية اللبنانية بعلاقاتها الخارجية المتعددة وباستحقاقاتها الداخلية المتراكمة، يُخشى من أن تمزق لبنان أو على الأقل تلقيه في لجة جدل سياسي مستحكم، ومراوحة اقتصادية تستنزف ما بقي له من طاقة على الاحتمال، يعطل شفاءه. وفي مصر تفجرت فجأة قضية الأقباط على خلفية تبدو، للوهلة الأولى، قليلة التأثير، وهي نشر صور فاضحة لرجل دين قبطي سابق. ويرى الكثير من المحللين أن القضية هي مجرد صاعق التفجير فقط، فقد تراكمت في السنوات القليلة الماضية أحداث، شكلت وقوداً للمتفجر وأسلاكاً لتوصيل الجذوة من دون أن ينظر البعض إلى الموضوع الوطني نظرة جادة بعيدة عن التهوين من جهة أو التهويل من جهة أخرى. وإذا انتقلنا إلى مكان آخر، فلعل المنظر في الجزائر لا يحتاج إلى مزيد من الوضوح، فقضية الأمازيغية يغذيها عجز تاريخي في دور النخبة الجزائرية، التي فشلت في استنباط حلول سياسية واقتصادية في سنوات الوفرة، لتتفجر الأوضاع في وجه الحكم والدولة في سنوات الندرة، فتدفع الجزائر إلى وضع يقربها من حافة حرب أهلية. والسلسلة تطول في أكثر من بقعة على امتداد المجتمعات العربية، التي تجد نفسها في بداية القرن الواحد والعشرين واقفة في حيرة تنظر إلى المشكلات المتفاقمة التي خلفتها سياسات سابقة أو حالية أصرت - مع كثير من الدعاوى السياسية والنفخ الايديولوجي - على ألا تواجه القضايا الحقيقية، إلا بالتسويف أو بإحالة أسبابها إلى عوامل خارجية، فكان ان وقع الجميع في فخ التناقض بين التصريحات العاطفية العلنية من ناحية، والواقع المعيش على الأرض من ناحية أخرى بما يتطلبه من معالجات مختلفة، على رأسها قراءة الواقع كما هو، لا كما يجب أن يكون في مخيلة بعض السياسيين أو المنظرين الإعلاميين. إنه الفارق بين متطلبات الوطن ومتطلبات الوطنية، بين أن أحارب وأتحمل نتائج الحرب، وبين أن أدعو الآخرين الى الحرب والتضحية بينما أقف أنا بعيداً !، بين العدو الحقيقي والعدو المختلق، بين العروبة بشعاراتها العاطفية والعروبة بتجلياتها الواقعية، بين فترة الخطبة ومعاناة الحياة الأسرية !. ولعلي لا أجد نصاً يجسد هذه الثنائية المتناقضة لواقعنا العربي الراهن، أفضل من نص قصير في رواية نعمات البحيري المشبعة، والتي صدرت عن "دار الهلال" تحت عنوان "أشجار قليلة عند المنحنى". تقول البطلة التي تزوجت من شخص من بلد عربي آخر غير بلدها: "غابة من المحاذير والممنوعات أوقعني فيها منذ دخلت المدينة، حتى قاموس الكلمات العامية، الذي جئت به من بلدي جعله عائد يحمل الكثير من المحاذير، ربما حملت نفس الكلمة معنى مغايراً وقبيحاً عنهم". ترى كم مما نتصور أنه خيال إنما هو مطابق للواقع... بل على مقاسه! * كاتب كويتي.