في الإسبوعين الماضيين إتخذت الحكومة الأردنية قرارين يحملان الكثير من الجرأة، لكنهما يعكسان، في الوقت نفسه، مأزقاً سياسياً مزمناً ما فتىء الأردن يواجهه منذ أكثر من خمسين سنة: الأول يمنع فلسطينيي الضفة من دخول الأردن من دون إذن سابق، إلا في حالات إستثنائية مثل المرض أو الزواج. والثاني يرفض عودة إبراهيم غوشة أردني، الناطق بإسم حركة "حماس" الفلسطينية إلى الأردن من منفاه في قطر. كلا القرارين ذو صلة مباشرة بالقضية الفلسطينية، وبعلاقة الأردن المصيرية والمتداخلة معها على كل المستويات. وهي علاقة تختلف عن علاقة الدول العربية الأخرى مع هذه القضية. بعض الهواجس الأردنية هنا ذو طبيعة سياسية، وبعضها الآخر ذو طبيعة أمنية. لكن هذه الهواجس تعود في النهاية إلى التركيبة الديموغرافية للمملكة الأردنية ومضاعفاتها السياسية من ناحية، وإلى الدور الإقليمي لهذا البلد في المنطقة، خصوصاً في إطار الصراع العربي - الإسرائيلي، من ناحية أخرى . أعداد كبيرة من سكان المملكة هم من أصول فلسطينية. ما مصدر الحساسية في ذلك؟ الحساسية تأتي من تقاطع هموم الأردني ذي الأصل الفلسطيني بين ما يحدث غرب النهر وإنتمائه وهويته الأردنيين. على الجانب الآخر تأتي هموم الدولة الأردنية ملترسيخ هويتها الوطنية، ومحاربة كل مظاهر الإزدواجية في هذه الهوية. وهي مظاهر يرى القائمون على الدولة أنها تؤثر سلباً في ولاء مواطنيها الذي تريده أن يكون مطلقاً غير منقسم بين دولة قائمة وأخرى لا تزال في طور التحقق على أرض الواقع. ولعلنا نتذكر في هذه المناسبة اللازمة التي لم يكن يخلو منها خطاب للملك الراحل حسين، اذ إعتاد على ترداد مقولته المشهورة "أي عدو لوحدة هذا الوطن هو عدو لي إلى يوم الدين". وهي مقولة تعبر عن شعور قوي بأن مسألة الهوية الوطنية في الأردن لم تحسم، وبالتالي تشكل مصدر حساسية لا يمكن مداراتها. من الواضح أن هذه الخصوصية الأردنية، وتحديداً ما يتعلق منها بمسألة إزدواج الهوية هي الصيغة الأكثر غرابة، ثم الأكثر حساسية وخطورة من بين صيغ التجاذب والصراع بين القومي والوطني في المجتمعات العربية. قد يكون وجود حال التجاذب والصراع هذه أمراً طبيعياً، أقله نظراً الى مسار التطور السياسي الذي أتخذته هذه المجتمعات. ما ليس طبيعياً هو التباطؤ وعدم الجرأة في مواجهة هذه الحال بكل ما تتطلبه من شجاعة وواقعية وحس رفيع بالمسؤولية تجاه المتطلبات الوطنية والقومية في الوقت نفسه. وهو ما يصحّ على الحالة الأردنية قبل غيرها. وبما أن كل دولة عربية اكتسبت، ضمن مسار تطورها السياسي، الحق في المحافظة على هويتها الوطنية، فإن الأردن لا يمكن أن يكون الإستثناء الوحيد هنا، خصوصاً بالنظر إلى حساسية حال التجاذب وخطورتها في هذا المجتمع. إن من حق الأردن عمل كل ما من شأنه للمحافظة على هويته وسيادته الوطنية، وعلى استقراره السياسي. تزداد الحيرة والإرتباك إزاء هذين القرارين بملاحظة عمق التداخل بين القضايا المتعلقة بكل منهما. فقرار منع فلسطينيي الضفة من دخول الأردن من دون إذن سابق مصدره الخوف الأردني المزمن من هجرة فلسطينية جماعية قد تستغلها إسرائيل، أو تدفع بإتجاه فرضها لتحقيق ما يعرف إسرائيلياً بأن الأردن هو "الوطن البديل" للفلسطينيين. وظروف الإنتفاضة الحالية تثير مثل هذه المخاوف، خصوصاً تدهور الأوضاع الفلسطينية نتيجة للحصار، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل، والإغتيالات. وهي إجراءات تهدف إلى خنق المجتمع الفلسطيني إقتصادياً وسياسياً. بل إن تجربة الأردن تبرر خوفه من فكرة "الوطن البديل". فطوال نصف القرن الماضي ظلت هذه الفكرة مطروحة خياراً إسرائيلياً جاداً في أكثر من مناسبة. حدث ذلك مثلاً أثناء الأزمة التي فجرها إنقلاب 1958 الدموي في العراق. ثم حدث مرة أخرى أثناء إنتفاضة 1987، عشية أزمة الخليج التي فجرها الغزو العراقي للكويت. وكان موقف الملك حسين المؤيد لبغداد في تلك الأزمة مثار إستغراب ودهشة لدى كثيرين داخل المنطقة وخارجها. وقد غاب عن بعضهم أن من أهم العوامل التي حدت بالملك إلى اتخاذ هذا الموقف كان التلويح الإسرائيلي المستمر آنذاك بخيار الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين. ولعل الملك رأى آنذاك أن تحالفه مع الرئيس صدم حسين سيجعل من العراق قوة ردع إلى جانبه في مواجهة التلويح الإسرائيلي. وبما أن آرييل شارون هو أكثر قادة ليكود حماسة لتبني خيار "الوطن البديل"، وهو الآن يرأس الحكومة، والإنتفاضة الفلسطينية الثانية تكمل شهرها التاسع، وعملية السلام تتداعى يوماً بعد آخر، فإن الأردن يجد نفسه، بعد غياب الملك حسين مدفوعاً الى إتخاذ قرارين تحت تأثير العامل نفسه. في المقابل بمقدار ما أن قرار منع ابراهيم غوشة من العودة يمثل التمسك بوحدة هوية الدولة، إلا أنه لا يمكن إخفاء تقاطع هذا الهم الأردني مع متطلبات الأمن الإسرائيلي. فهذا القرار يحمل أكثر من مؤشر الى أنه إلتزام بمقتضيات إتفاق وادي عربة مع إسرائيل عام 1994 التي تنص على محاربة الإرهاب. وبالتالي فهو قرار يبدو كما لو أنه إستجابة لمتطلبات وشروط إسرائيلية. هل هناك مصلحة أردنية في إتخاذ مثل هذا القرار؟ وإذا كانت هناك مصلحة، فإن لذلك إشكالية سياسية، اذ يبدو أن تحقيقها مرتبط بمصلحة إسرائيلية أولاً، مما يعطي الإنطباع بأن إلتزامات السلام مع إسرائيل قد تكون في واقع الأمر إلتزامات من طرف واحد. عودة غوشة وأعضاء "حماس" الآخرين تشكل، في نظر إسرائيل، تهديداً لأمنها مصدره الأراضي الأردنية. والأردن يعرف أنه إذا لم يتصرف إزاء هذا الموضوع فإن الدولة العبرية ستتصرف بالنيابة عنه، رضي بذلك أم لم يرضَ. هنا تأتي المفارقة: لإسرائيل الحق في تبني الخيارات التي ترى أنها تخدم أهدافها الأمنية والسياسية حتى وإن شكلت تهديداً إستراتيجياً لوجود دولة مجاورة لها مثل الأردن. اما الدولة الأردنية فلا تملك سوى التزام معالجة أصغر ما يمكن أن يهدد الأمن الإسرائيلي، حتى لو جاء ذلك على حساب مواطنيها ومنطوق وثيقتها الدستورية. وعودة أعضاء "حماس" لا يمكن أن تشكل تهديداً يطاول الوجود الإسرائيلي، كما هي الحال مع فكرة الهجرة الجماعية بالنسبة الى الدولة الأردنية. ثم هناك طبيعة الدور الذي يضطلع به الأردن في بيئته الإقليمية. فالدولة الأردنية تقوم في الأساس على أداء دور العازل الإقليمي بين أربع دول، هي من بين أكبر دول المنطقة وأغناها وأقواها: العراق والسعودية وسورية وإسرائيل. في حين أن الأردن من بين أفقر الدول العربية. والمفارقة هنا أن الدور الذي لعبه كل من الملك عبدالله، مؤسس الأردن، والملك حسين صاحب أطول حكم في هذا البلد، تجاوز حجم المملكة التي جلسا على عرشها. ولا شك في أن ذلك ساهم في عدم إستقرار علاقتها بجيرانها العرب، بمن فيهم الفلسطينيون. لكن الأردن ظل، ضمن بيئته الجغرافية السياسية، يعتمد على التوازنات الإقليمية اعتماداً أساسياً لضمان أمنه والمحافظة على بقائه. إسرائيل - أو على الأقل حزب العمل - تعتبر الأردن حيوياً لأمنها. وهذا الموقف يمثل ضماناً أمنياً للدولة الأردنية ضد الدول المجاورة الأخرى، تحديداً الدول العربية. لكن هناك وجهاً آخر لإسرائيل يمثله تحالف ليكود، يعتبر أن الأردن في النهاية ليس أكثر من وطن بديل للفلسطينيين. وإصرار الأردن على وحدة هويته الوطنية إصرار مشروع، خصوصاً في ضوء تمسك الفلسطينيين بهويتهم الوطنية أيضاً. لكن الإشكالية تكمن في الإطار الذي يتم فيه ذلك الإصرار، والخيارات التي يطرحها. فالسياسة الأردنية في هذه المجال لا تتم دائماً بمعزل عن إسرائيل. بل إن هناك تهاوناً أردنياً حيال تجاوزات إسرائيلية تهدد أمنه وسيادته، ووجوده ايضاً. وليست محاولة الموساد قبل سنوات إغتيال خالد مشعل داخل الأردن إلا آخر هذه التجاوزات. قبل ذلك كان الهجوم الإسرائيلي القاسي والبشع بلا مبرر على قرية السموع عام 1966. وبعده بأقل من سنة في 1967 ، وعندما لم يصغ الملك حسين لتحذيرات الإسرائيلين إياه، كان العقاب إقتطاع كل الضفة الغربية، بما فيها القدسالشرقية، من مملكته. التهاون الأردني مع الإسرائيليين يقابله تشدد حيال التجاوزات الفلسطينية، و هو تشدد مبرر، ولكن لماذا لا يكون على الجانبين؟ وهل بمقدور الأردن أن يتبع سياسة متوازنة في هذا الصدد؟ ليس صحيحاً في الضرورة أن التهاون الأردني حيال التجاوزات الإسرائيلية هو نتيجة لتواطؤ، لأن الأقرب أنه نتيجة لضعف مزمن مرتبط بنشأة المملكة، وبضعف مواردها الطبيعية والبشرية، وبطبيعة الدور الإقليمي الذي اضطلعت به منذ نشأتها. وفي هذا الإطار بقيت علاقة الأردن مع إسرائيل غير متوازنة بل تعاني من الإختلال. ىضاف إلى ذلك إختلال العلاقات العربية ذاتها، وإفتقادها إلى قاعدة من الثقة والمصداقية. ولا يمكن تبرئة الملك الراحل من مساهماته في ذلك. ولعل الشاهد هنا هو دوره في حرب الخليج الثانية. كما أنه لا يمكن تبرئة القيادات الفلسطينية بمختلف توجهاتها من المساهمة في ذلك أيضاً. ولذا فإن مسؤولية الخلل هنا ليست أحادية بل مشتركة، حتى وإن إختلف حجمها بين طرف وآخر، ومن زمن إلى آخر. هناك إختلاف واضح بين منطق عملية السلام التي التزم فيها الأردن معاهدة، ومنطق النضال الفلسطيني في سبيل الإستقلال كشرط جوهري لذلك السلام. لكن الإشكالية تكمن في أن المفهوم الذي قام عليه ذلك السلام لم يتجاوز حتى الآن مفهوم الأمن الإسرائيلي. ومن هنا تتقاطع هموم الأردن الأمنية والسياسية مع الهموم الأمنية الإسرائيلية، بغض النظر عن النيات. وكذلك هناك إختلاف بين منطق دولة تريد المحافظة على إستقرارها وعلى وحدة هويتها، وحقيقة أن كثيرين من سكان هذه الدولة يعودون في أصولهم إلى فلسطين، مما يفرض عليهم إلتزامات عدة تجاه أهليهم الذين يرزحون تحت الإحتلال، ويتوقون إلى تحرير أرضهم التي أرغموا على الهجرة منها. السؤال هنا: هل هناك طريقة للتوفيق بين المنطقين، منطق الدولة ومنطق النضال، وللمحافظة على وحدة هوية الدولة، مع الحفاظ على حقوق مواطنين تتجاوز همومهم السياسية حدود هذه الدولة؟ هذا سؤال تقع مسؤولية معالجته، والإجابة عنه على الأردن والسلطة الفلسطينية معاً. والمحزن حقاً أن الهموم الأردنيةوالفلسطينية التي نجمت عن قيام الدولة العبرية تحولت إشكالية عربية - عربية تنطوي على كثير من الحساسية، وتغلفها طبقة سميكة من العواطف والشكوك المتبادلة، وتهدد دائماً بالإنفجار. وهذه واحدة من علامات الضعف العربي في لجة الصراع. * كاتب سعودي.