ما من احد في العالم العربي الا يتذكر مسرحية عادل امام عن الشاهد الذي لم يشاهد حاجة، وتأتي فكرة الشاهد الذي لم يشاهد في كل لحظة تتداعى فيها طلبات تقديم الشهادة، وهي بالدرجة الأولى سخرية من الذات التي تمنح نفسها حق تقرير مصير الآخرين والاحداث، تلك الذات الفحولية التي اذا قالت حكم القانون وانحسم الامر. وليست حالتي اليوم ببعيدة عن هذه الصورة الذاتية الفحولية، وانها لوجبة دسمة فعلاً ان يطلب من المرء التحدث عن تجربته النقدية ومشروعه النقدي والثقافي، فهي لحظة من لحظات الأنا لا يوازيها اي حضور اخر، فهذه الأنا سوف تنطلق لا يحدها قيد ولا يحاسبها محاسب، بل ان المحاسب طلب منها ان تأخذ اقصى حريتها في ان تنسب لنفسها كل ما تريد نسبته، وان تقول عن ذاتها كل ما تريد ان تقوله، ويكفي ان تقول وان تدعى، فهي هنا للقول والادعاء. ولكن المعضل يأتي من حيث ان ضيف هذه الوليمة الدسمة فعلاً، هو من قال القول ضد الفحولة والأنا المتعالية وفسر الخلل النسقي الثقافي بها، وهو لهذا بين ان يكون نسقياً وفحولياً، ويشهد شهادة الذي ما شافش حاجة، ويصير فحلاًَ كغيره من فحول الثقافة ونسقياً كغيره من صناع النسق - والأمر ولا شك يغري بهذه الفحولة المتاحة - او ان ينصاع لشرط الطرح الثقافي النقدي، ويحيد الذاتية الأنوية الفحولية، ويكون متسقاً في نقده. ولكن، كيف للمرء ان يتجنب الحديث عن الأنا في موضوع يقوم اصلاً على الحديث عن الذات بذاتيتها وعن تجربتها النقدية والفكرية - كما هو خطاب الدعوة - ؟ هل نستطيع ان نتحدث عن فعل من دون فاعل او هل نستطيع الغاء الانا الفاعلة في امر قد فعلته فعلاً، ألا يكون هذا ضرباً من فعل التستر وهو فعل اجرامي؟ في جو من اجواء هذا الخطاب النقدي، يطل مشكل الانا الفحولية بقوة وصرامة لا يمكن تجاهلهما، وانه لمن غير المقبول ان يقع المرء في مأزق ارتكاب إثم كان هو بذاته قد حاسب الآخرين عليه. وفي سبيل الغاء الأنا الفحولية قد نقع في عملية استئصال كاملة للانا ذاتها، خاصة اننا في ثقافة تندر او تقل فيها الامثلة العملية الواضحة والمسلكية عن الذات الانسانية الحيادية، بل انها لتغرقنا بأمثلة الأنوات الفحولية الضاربة والمتمكنة، ومن الطريف ان بعض الخطابات الشعبية تبدأ بالاستعاذة من الانا، قبل الشروع في الحديث عن الانا وما لها من امجاد محسوبة او مدعاة، وكان المرء لا يبرأ الا بمصاحبة ممارسة الاثم المستعاذ منه، الا يكون هذا واحداً من حالات تجلي النسق المضمر...!؟ يستعيذ الناس من الانا مثلما استعاذ واصل بن عطاء من الراء، وهذان مثالان لمواجهة غير المرغوب فيه مع الاضطرار اليه، وان كان العامة يقعون في الانا مع استعاذتهم منها، وهو فعل من حيل الثقافة وفحوليتها، فان واصل بين عطاء حينما عابه نطق الراء راح وألغى هذا الصوت من ابجدية اللغة، وهذا حل فحولي لا شك في فحوليته لأنه يقوم على الغاء الخصم وسحقه. وكأننا هنا لا نفر من الفحولية والتسلط الا بمزيد من الفحولة والتسلط، اما بالالغاء او بالامعان. وفي حالتي اليوم اجدني امام موقف فيه من التقريع مثل ما فيه من الاغراء، واول وجوه التقريع يأتي من ان الخطاب النقدي - عادة - هو خطاب عن الآخرين وليس خطاباً عن الذات، وان اعتادت الذات الشعرية ومعها الذات السياسية والاجتماعية ان تتمركز حول ذاتها وتخاطب باسم الذات، فان النقد لما يزل منذ بداياته خطاباً عن الاخر ولغة الاخر وليس عن الذات، وهذه اولى المنازلات لان الناقد/الشاهد سيحكي عن نفسه، وسيصطنع لهذه النفس ذاتاً، وان لم يتنبه لخطابه فستكون هذه الذات ذاتاً فحولية لا تختلف عن الفحل الشعري والسياسي والاجتماعي، ويا خسارة كل ما قيل عندئذ، حيث سيرسب الناقد في اول امتحان يدخله، كما رسب الثوري الذي قال بالديموقراطية والحرية ثم صار اكبر الطغاة واطغى من سالفيه، هذا هو ما يفعله النسق فينا متوسلاً بما نتمتع به من عمى ثقافي. اذاً لا مفر من تحييد الأنا من دون الغائها، ما دام الغاء الخصم فعلاً فحولياً وهو امعان في ترسيخ الذات، ولا شك ان في الخطاب السردي مناصاً للخلاص من الشعرنة، ولعل في ذلك منجاة حيث تصير الذات شخصية روائية ضمن حبكة جماعية لا تتخلى فيه الذات عن خصوصيتها، لكنها تفعل وتعمل ضمن خطة واعية بالاخرين ومتيقظة في الوقت ذاته لعيوبها الشخصية التي تجعلها مثل غيرها من اهل زمانها، لها ما لهم وعليها ما عليهم، فيها مثل ما فيهم من عيوب نسقية، لا تتخلص منها الا بالاعتراف بها وتسميتها وفضحها، وهذه اولى المكاشفات. ان تكون ذاتاً في حبكة هو ما يمكن لنا ان نتصور فيه موقع الذات في الفعل الثقافي، ومكان الأنا الشاهدة في هذا الفعل، والمرء ليس سوى جزء من وعي كلي بالخلل الماثل، ونحن لو تمعنا في الواقعة الثقافية والاجتماعية العربية المعاصرة لوجدنا ان الخلل الاكبر فيها هو نقص التصور النظري من جهة، وانفصام التطبيق عن التنظير وربما تعارضهما، ويصحب ذلك الخلل ويتواطأ معه صورة فحولية مترسخة ترشح المؤلف ليكون معلماً اول وتضع القراء في صف التلاميذ، وهذه هي سيرة المؤلفات قديمها وحديثها، وهي مؤلفات تصنع اجيالاً من التلامذة القصر الذين هم عالات على الآباء المؤلفين من الاوائل وورثة الاوائل. ان غياب الوعي النظري وتعمد تغييبه يورث ولا شك ثقافة سطحية كما يصنع آباء وهميين ويجعل الفعل الثقافي اشبه باجروميات محفوظة، كما تحول عندنا علم اللغة وحتى المنطق، وصرنا كائنات تحفظ وتصدق المحفوظ، مما غيب الوعي النقدي والوعي الابتكاري والتجاوزي، وكاننا في ثقافة الهزيمة لا ثقافة الحكمة. من هنا وعبر الاحساس بهذا الخلل الثقافي ذي التمثل السياسي والاجتماعي كان هم كتاب الخطيئة والتكفير هو البدء بالنظرية وتسليح القارئ والقارئة بها ليكون القارئ حكماً وناقداً لما يأتيه من تطبيق وتصور، وهذا حوار مفتوح مع القراء، ولقد جربت الحوار في التأليف بعد ذلك في كتاب الكتابة ضد الكتابة حيث يتحول الناقد الى ذات منقودة والمشرح الى ذات مشرحة. وكذا كان كتاب النقد الثقافي حيث كانت المقدمة التنظيرية مدخلاً لدعوة سافرة للقارئ لكي ينقد متسلحاً بسلاح المؤلف نفسه. ان الخلاص من الفحولية والابوية وطغيان الذات المفردة هو بتحويل الناقد الى منقود، والسبيل الى ذلك هي النظرية، والنظرية هي مشروع في المكاشفة، وبما انها كذلك فهي اداة للسؤال والتصور والحوار، ومن المهم ان ننتج قارئاً فاعلاً ومحاوراً على عكس ما تعودنا عليه من فكرة القطيع والقراء الرعية، كما كان التأليف التقليدي وما فيه من نسقية متحكمة .... ليس من خلاص الا بطرح السؤال النظري واستخلاص التصور من عصارة الفعل الانساني، قديمه وحديثه، ثم تزويد القارئ والقارئة بهذا الزاد الفكري الذي يجعل عقل الذات المستقبلية على قدر من الحرية والمعرفة مماثل لما لدى المؤلف من حرية اختيار ومعرفة، وهنا تتساوى الاطراف في لعبة لن تصح شروطها الا اذا تساوى اللاعبون في فرص اللعب وفرص التحكيم .... لقد جعلت النظرية دائماً تسبق التطبيق، وسعيت ان اجعل الخطاب النقدي يتكلم بالعربية، لا بالرطانة المستعصية، وهذه كانت نيتي المبيتة بوعي وقصد، فان كنت حققت ذلك فهذا هو المطلب، وان كان غير ذلك فهو اخفاق في بلوغ المراد وليس اغفالاً له. ومما هو من ضرب المفارقات الطريفة ان عدداً من زملاء المهنة تبادروا حال صدور كتاب النقد الثقافي الى الانتساب الى هذا التيار قائلين انهم هم ايضاً نقاد ثقافيون، وانهم كانوا كذلك منذ ولدتهم امهاتهم، وان كل ما كتبوه من قبل هو نقد ثقافي. وانا لن اتعامل مع هذه المقولة سلباً، وان كان فيها ما يقال، ولقد اشار الصديق الدكتور عبدالسلام المسدي في مقالة له، الى ان هذه الدعوى تضمر الرغبة الفحولية في استحواذ الذات على المجد والتمركز حول ذاتيتها ونفي الاخر، وفي هذا تحديد للبعد الكامن وراء لغة الادعاء، غير اني اود ان انظر الى الامر من زاويته الايجابية، اذ ان مبادرة عدد من الزملاء الى نسبة انفسهم الى النقد الثقافي يكشف عن ان هذا الخطاب النقدي هو فعلاً لغة المرحلة وان ما جاء عندي كفرد هو خطاب للمجموع تكلم به واحد منهم، وما مبادرتهم لنسبة انفسهم اليه الا عملية تماه مع المشروع وايمان به، وهذا ايجاب من حيث بدا وكأنما هو سلب للمشروع من صاحبه القائل به. على ان ما تجب عدم الغفلة منه هو ان الافكار تتسمى بما لها من اسس معرفية اصطلاحية ونظرية، ولا يكون مسمى النقد الثقافي الا بأساسه النظري والمنهجي المحدد، وليس مجرد التحدث عن شأن ثقافي هو ما يجعل الخطاب نقداً ثقافياً، مثال ذلك ان من تكلم عن المعلم الاول لن يكون فيلسوفاً بمجرد ان حكى في موضوع فلسفي، وان شرط الفيلسوف والخطاب الفلسفي يحتاج الى اصول معرفية ومصطلحية خاصة، وكذا هي حال النقد الثقافي التي هل اصل معرفي وليست مجرد ممارسة للكتاب في ما هو ثقافي، ولو كان كل من كتب عن شأن ثقافي صار ناقداً ثقافياً لصارت قائمة الاولية طويلة جداً حتى لا تقاس بالامتار ولا تحدها الازمان، من الجاحظ وابي حيان الى طه حسين وعلي الوردي، ولو كان الموضوع المبحوث هو ما يقرر هوية الباحث وخطابه لكان كل من كتب عن الصين صينياً ومن كتب عن الاوثان وثنياً. ان مقولة النسق المضمر وما يقتضيه ذلك من منظومة اصطلاحية حول التورية الثقافية والجملة الثقافية والعنصر النسقي المستل من عناصر الاتصال، كل ذلك اسس معرفية/ نظرية ومنهجية تجعل المشروع نظاماً في التفكير وفي النقد، وليس مجرد تفكير في ماهو ثقافي، وهذا فارق جوهري يتقرر به مصير المشروع ومسماه، له ما له وعليه ما عليه، ومن الضروري هنا ان نفرق بين مصطلحين، هما متمايزان بالشرط النظري، وهما مصطلح نقد الثقافة ومصطلح النقد الثقافي وتحت مصطلح نقد الثقافة ظهرت اعمال كثيرة في مغرب الوطن وفي مشرقه، وعلى مدى القرن العشرين كله، غير ان النقد الثقافي، كنظرية وكمنهج وكمقولة في الانساق المضمرة والعمى الثقافي، يأخذ لنفسه موقعاً يستمد وجوده من هذه الابعاد، وتجب محاسبته والنظر اليه من هذه الزاوية، ولكني، ومع هذا فانني ما زلت اقول ان مبادرات الانتساب هي ما يعني ان النقد الثقافي يمثل لغة المرحلة وخطاب الجيل، وهذا ما ارجوه فعلاً، وما اروع ان تتكلم بلسان جيلك ومرحلتك، وتكون صوتاً لجماعة، وفعلك يكون فعلاً سردياً في حبكة جماعية، ولا تكون فحلاً في نسق ذاتي متشعرن، ارجو ذلك، فإن كان فأنا قد تمكنت من تخليص نفسي من الأنا الفحولية. واخيراً لا بد من الاشارة عما صاحب ظهور الناقد الثقافي كبديل عن الادبي، وهو الامر الذي أثار جملة من النقاشات التي عجزت عن تفهم التحول الجذري هذا، وراح البعض يشهرون بهذا التحول مستنكرين وغير قابلين، ولست اشك في ان التخوف من التحول واستنكاره ما هو الا وجه من وجوه لعبة النسق، وهو نسق يعزز فكرة الثبات والسكينة والتسليم بما هو اولي وعرفي، وينزعج من التحولات والتغيرات الجذرية، واذا ما جاء ناقد ادبي عرف بهذه الصفة، ثم اعلن تحوله وانقلابه على ما هو معهود عنه فان هذا خطر نسقي يهدد بال الثقافة وحراسها من الفحول الاشاوس، وهذا ديدن بدعي لا تطمئن اليه اي ثقافة نسقية. هذا ما يفسره صدمة البعض من هذا التحول الذي يظنون ازاءه ان الثبات على الكلمة رجولة وفحولة، والرجل هو من ثبت عند كلمته - كما هو التعبير العمومي في تعريف الرجولة - لكننا في الثقافة سنجد ان الرجل الحق هو من لا تحكمه كلمته ولا تستعبده مواقفه الظرفية، ولكنه ذلك الكائن القادر على التحول والتنوع وتوجيه نظره نحو المستقبل، والرجل هنا ليس من هو عند كلمته، ولكنه الذي ليس عند كلمته، هو من تعجز كلمته عن تقييد فكره، والتحول شهادة حياة وحيوية، ولذا فانني ابن التحول والتنوع حيثما تطلب الامر، والثقافة ليست سوى معركة دائبة مع التحول والتجدد، وارجو ان اكون حياً بهذا المعنى وبهذه العزيمة. * كاتب سعودي.