ارتأت لجنة جائزة "المجمع العربي للموسيقى" وهي تعلن فوز الموسيقار اللبناني توفيق الباشا في اختتام المؤتمر السادس عشر للمجمع في الجزائر الثالث من ايار مايو الجاري ان صاحب موسيقى "بساط الريح" قدم من الأعمال الموسيقية الآلية والألحان ما جعله علامة في مسار الحداثة الموسيقية العربية الحقيقية. وأشارت في هذا الصدد الى قيام الباشا بالاتفاق مع شركتين لإنتاج الأسطوانات المضغوطة على تقديم مجمل أعماله. ونوهت بثلاثة كتب أصدرها الباشا أخيراً آثرت النهج الأكاديمي الرصين ضمن منشورات "المعهد الوطني العالي للموسيقى" الكونسرفاتوار في لبنان: ولم تنسَ لجنة الجائزة ان تثني على الباشا لحيرته الفنية عموماً. الموشحات الأندلسية في كتاب "المختار من الموشحات الأندلسية" يوضح الباشا ان المجموعة المختارة تضم ستة موشحات بكتابة اوركسترالية كنماذج عن السعي الى تطوير عرض الموشح التقليدي والحديث عبر لغة العصر. ويؤكد في لفتة تقصد نقل الموشح الى أجيال الشباب. ولعل كتابة الموشح اوركسترالياً تأتي للدلالة على أن الطريقة التي ما زالت متبعة منذ ما يقارب مئة عام، أصبحت "لا تليق بهذا التراث الغني بعمق ألحانه المقامية والإيقاعية". ويضيف في مقدمة الكتاب: "نحن مطالبون بتوفير كل الإمكانات الغنية لتقديمه في شكل يرضي ذوق محبيه وأجيال الشباب جميعاً، الذين يتلاقون على اعتزازهم بتراثهم الثري". وحين يقدم الباشا رؤاه التطبيقية لفن الموشحات، فإنها تبدو رؤى محكمة وثابتة فيها من الرصانة مقدار ما فيها من الإبداع ولا سيما، أنه أغنى بتأليفه هذا الشكل الموسيقي العربي الأصيل. فلحّن موشحات مثل: "سلم الأمر للقضا" و"ترى دهر" و"ما لذّ لي" و"عين حبي" و"يا نازح الدار" و"جادك الغيث" و"الوجه زين" و"أهوى الغزال الربربي" و"أيامن طرفه سحر" و"رميت قلبي" و"عهد البين" و"ما ناحت الورق" و"قل لكرام" و"وقع المحبوب في شركي" و"بالله يا قلبي" و"اللقاء". أما الموشحات "الأوركسترالية" فهي ثلاثة من تأليف توفيق الباشا وثلاثة أخرى من الموروث الموسيقي القديم مثل "زارني المحبوب" و"لما بدا يتثنى" ومن ألحان سيد درويش "يا شادي الألحان". الآلة الغربية وربع الصوت وضمن منشورات "المعهد الوطني العالي للموسيقى" في لبنان صدر للفنان توفيق الباشا "الكمان والأرباع الصوتية - 21 دراسة عالمية". ويصف الباشا جهده هذا قائلاً: "محاولتنا، ما هي إلاّ فتح طريق العزف المتقن والمميز أمام عازف الكمان الذي يكون استنفد دراسته تقريباً في المؤلفات التي وضعها كبار المؤلفين والعازفين في العالم للسلمين الكبير والصغير فقط". وكي يبدو جهد الفنان الباشا مكتملاً في إبراز قدرة الكمان والعازف على إظهار أرباع الصوت، تضمن الكتاب اسطوانتين مضغوطتين فيهما 21 مقطوعة أظهرت مقاربة نغمية لمقامات "الرست"، "البيات" و"السيكاه". والعمل الأكاديمي الثالث للباشا، هو "إيقاعات الموسيقى العربية" الذي يمهد له الفنان قائلاً: "الإيقاع في الموسيقى هو الهيكل الأساسي الذي يركّب تركيباً فنياً ليصير صالحاً لأن تؤلف عليه الألحان، أو بالتالي ليكتسي بالنغم المناسب له". ويشبه الباشا الإيقاع في الموسيقى بأنه "الخط العمودي" واللحن ب"الخط الأفقي". والإيقاع كما يكتب الفنان الباشا في تمهيده: "هو العنصر الأول في الموسيقى منذ وجدت، ولو أننا في بعض المؤلفات أو في بعض القوالب اللحنية لا نستمع الى نقراته المميزة، لكنه موجود ومتغلغل في الجملة اللحنية". ويرى أن "البعض حوّل خاصيته الجمالية الإيقاع النابضة بالحياة، الى قرقعة تضرب الذوق والإحساس وتطغي بصخبها الأهوج على ما تبقى في الموسيقى من جمال أراده الله للإنسان تهذيباً ورقياً". وفي تعريفه "الهيكلية الفنية للإيقاع الموسيقي العربي" يوضح ان الإيقاع مؤلف من ثلاثة عناصر، هي: النقر الثقيل ويسمى دُم" و"النقر الخفيف ويسمى تَك" و"السكوت أو السكون ويسمى إس". وفي أبواب الكتاب يقدم الباشا نماذج منوطة ل"الإيقاعات الرباعية" و"الإيقاعات الثلاثية" و"الإيقاعات السداسية" و"الإيقاعات المركبة" و"الإيقاعات الأحادية المركبة" و"إيقاعات النقش". في "كتاب الراوي" للشاعر والناقد اللبناني عبيدو باشا نقرأ عن توفيق الباشا وقيمته الفنية: "توفيق الباشا، أحد أبرز الذين أرسوا النهضة الموسيقية في لبنان والعالم العربي، مع آخرين تلازموا في أوقات، وتفرقوا في أوقات أخرى: زكي ناصيف، عاصي ومنصور الرحباني، عبدالغني شعبان، فيلمون وهبي وغيرهم". وحين نتأمل في هذا القول "أحد أبرز الذين أرسوا النهضة الموسيقية في لبنان والعالم العربي" عبر أعماله الموسيقية، نجد أن الباشا حقق في هذا المعنى أشياء كثيرة ولافتة لا يمكن الناقد والمؤرخ والباحث الموسيقي إلا ان يتوقف عندها طويلاً. في عمله على قالب "الموشح" كتب الباشا وأعدّ ألحاناً باتت تشكل ركناً في هذا القالب الأساسي من قوالب الموسيقى العربية. فلو أخذنا أسطوانته: "في رحاب الأندلس" لوجدنا انها تضمنت أعمالاً تمتد في وقت كتابتها من منتصف الخمسينات حتى منتصف السبعينات. فهناك عمله "مغناة" من شعر ابن خفاجة، والذي كتبه الباشا في عام 1954 وغنته وداد بالاشتراك مع زكي ناصيف، ومغناة من شعر ابن زيدون في أداء وداد ووديع الصافي في العام 1955 وموشح "ملأ الكاسات" الذي لحنه محمد عثمان وأعدّه توفيق الباشا مثلما اعد موشح "ما احتيالي" الذي لحنه احمد أبو خليل القباني وأدته باقتدار المطربة سعاد محمد عام 1972. وتضمنت الاسطوانة مغناة "يا ندامى الأندلس" من شعر نزار الحر وغناء وداد وحسن عبد النبي. وضمن اتجاهه في كتابة الموشح نجد أسطوانة توفيق الباشا: "موشحات حديثة" التي تضمنت 15 موشحاً، بينها "حلم الأزل" بصوت نجاح سلام، "سكب الورد" لنور الهدى، "من هام بالغيد" بصوت فدوى عبيد و"أيها الساقي" بصوت نازك وغيرها من الموشحات التي برعت فيها موسيقى الباشا. وانطلاقاً من مزاوجته بين كتابة أعمال للأوركسترا السيمفونية وتوقه الى جماليات الموسيقى العربية وأشكالها ومن بينها الموشح، جاءت أسطوانة "متتالية أندلسية" وفيها نجد مقاربة عربية في الروح والنغم لأشكال لحنية غربية مثل "المقدمات" و"الرابسودي". وعلى رغم الاستعانة بالشكل الغربي إلا أن عمله يظل إيماءة عربية غنية، إضافة الى أنه محاولة في تقديم الروحية الموسيقية العربية بتراثها الغني الى جمهور غربي يبدو له مهيأً لتلقي أشكال موسيقية قريبة له. ولو توقفنا عند اسطوانة "موشحات اندلسية" لوجدنا في توفيق الباشا براعة أخرى، هي براعة الإعداد الموسيقي، حين وزع عدداً من الموشحات الأندلسية مثل: "اسق العطاش"، "لما بدا يتثنى"، "يا ليل الصب"، "زارني المحبوب" وغيرها. ويتصل هذا المسعى عند الباشا بما كان ثبته في كتابه "المختار من الموشحات الأندلسية". وضمن اتجاهه في الإعداد الموسيقي، يمكن محب الأعمال الموسيقية الرصينة ان يكسب وقتاً نافعاً ومثمراً وهو يستمع الى أسطوانة "ألحان من بلادي"، وفيها يعيد الباشا صوغ ألحان غنائية شعبية ومقطوعات موسيقية صارت جزءاً من الذاكرة الموسيقية العربية كما في إعداده البارع لمقطوعتي "زوروني" و"طلعت يا محلا نورها" لسيد درويش ومقطوعات شعبية مثل "يا ام العبايا" و"أوف مشعل" وأغنيات مثل "يا مايلا عالغصون" إضافة الى بعض المقطوعات التي كتبها الباشا ذاته مثل "شرقية" و"بيروتي في باريس". وأوجد الفنان توفيق الباشا نمطاً جمع بين الغناء الجماعي والأوبريت عبر سياق لحني خاص اسماه بالإنشادية، وهكذا جاءت أعماله: "الإنشادية النبوية" التي وضع موسيقاها اعتماداً على شعر احمد شوقي مع مختارات من شعر محيي الدين بن عربي والحسن بن هاني، وعزفت الإنشادية اوركسترا القاهرة السيمفوني بالاشتراك مع كورال أوبرا القاهرة مع أداء خاص من الممثل محمود ياسين. كذلك عمله "إنشادية عظماء الدنيا وعظماء الآخرة" الذي كتبه مصطفى محمود عن تراث الشيخ محيي الدين بن عربي وعزفته اوركسترا القاهرة السيمفوني وأدت مقاطعه الإنشادية أصوات من كورال أوبرا القاهرة. وضمن هذا الاتجاه وضع الباشا موسيقاه لعدد من "الابتهالات" التي جمعتها أسطوانة خاصة وأدتها أصوات: وداد، نجاح سلام، نازك، سعاد هاشم، وغيرها. وفيها يبرع الباشا في اجتراح شكل غنائي يقارب "الغناء المتقن" محققاً رفعة روحية غامرة ليست أقل من تلك الرفعة التي زاوجت بين الروحي الديني والإحساس الوطني، وكما جاءت عليه أعماله في اسطوانة "إنشاديات وقوميات"، وضمت عملاً دينياً هو "دعاء الحق" أدته سعاد محمد ونشيد "بلادي" الذي أدته نور الهدى. وبراعة توفيق الباشا في صوغ ألحان لافتة دينية ووطنية، لم تكن اقل من تلك البراعة التي صاغ فيها الباشا "قصائد حديثة" حين وضع ألحاناً لقصائد من عيون الشعر العربي أدته أصوات: نجاح سلام، نازك، نور الهدى، سعاد هاشم وسعاد محمد. وتواصلاً مع "الغناء المتقن" الذي نمت به تلك القصائد المغناة جاءت أسطوانة "المختار من أغاني الطرب" والتي ضمت ستة أعمال أبرزها "رباعيات علي محمود طه" بصوت المطرب محمد غازي. ولو انتقلنا الى أسطوانة "أغاني شعبية" لوجدنا ان توفيق الباشا وقّع من الألحان ما هو ناعم وشجي وقريب الى النفس كما الحال في لحن أغنية "أنا وردة" بصوت نهى هاشم. وما هو من الألحان شيق وتطريبي وخفيف ولكن من دون ابتذال كما في لحن أغنية ستظل مؤشراً على رشاقة اللحن العربي الأصيل وهي أغنية "أجمل سلام" التي أدتها المطربة سعاد محمد بصوتها العذب. ويعتبر الباشا ايام عمله مع مجموعة من فناني لبنان وموسيقييه ومع "فرقة الأنوار العالمية" و"مهرجانات بعلبك" أيام عمل خلاّقة ويقول: "بتواضع أقدر ان أقول إنني أوجدت أول مسرح منوعات في الشرق العربي". ولعل أسطوانة بعنوان "المختار من المهرجانات" تؤكد هذا المسعى عند الباشا فهناك مقطوعات موسيقية تظهر حيوية وابتهاجاً روحياً كما في "افتتاحية بعلبك" و"دبكة الفرسان" وأغنيات احتفالية كما في "رقصة السيوف" و"الحياة في القرية" بصوت وديع الصافي ونخبة من المطربين والمطربات. لم يبقِ توفيق الباشا شكلاً لحنياً وموسيقياً إلا وقاربه باقتدار، فله اعمال عدة يسميها "أغاني راقصة" نجدها وقد تأثرت بقوالب موسيقية غربية كما في أشكال الفالس والرومبا والسامبا والتانغو وأدتها أصوات سعاد هاشم ونجاح سلام ونازك. مثلما للباشا دور في "أغاني الأطفال" حين غنت له نهى هاشم اغنيات مثل: "عيد ميلادي" و"لعبتي الجميلة" وغيرها. ويطرح توفيق الباشا اكثر من تساؤل عن الشكل الموسيقي عبر أعماله الأوركسترالية كما في "بساط الريح" و"سيمفونية السلام" و"بيروت 82" و"سيمفونية فوق البنفسجية". فهو حين حاول تسريب الجمل اللحنية العربية الهوية الى الشكل السيمفوني بدا وكأنه ينظر الى الموسيقى العربية نظرة قاصرة، غير التي كان ينظر إليها في مقتبل حياته وفي أوان نضجها التلحيني، فبدت الأنغام العربية تلوذ بالحضور الساطع للأوركسترا السيمفوني. والسؤال الذي تطرحه أعمال الباشا في هذا الجانب يذهب الى التدقيق في مدى تحقيق أعماله السيمفونية اي حضور بين متلقي هذا الشكل الموسيقي في الغرب إذا كانت تقصد التوجه إليهم؟ ومن بين هذه الأعمال السيمفونية التي تستحق الانتباه لمتانة تركيبتها النغمية، سيمفونية "السلام" والحركتان الأولى والثانية في عمله "بيروت 82". وهناك من يقرأ توجه الباشا نحو كتابة أعمال اوركسترالية بصفته إظهاراً لقدرات غير محدودة للرجل، وليس بالضرورة نكوصاً للجانب الموسيقي العربي فيه. ومثل هذا الرأي يبدو أقرب الى تمثل حقيقة هذا الفنان الذي هو بحسب عبيدو باشا في كتاب "الراوي": "عصامي لا يهادن، حين لا يني يقيم عقد الاشتباك مع كل ما يقف في وجه تطور الموسيقى. إنه عصامي تنويري، حتى في لبوسه الأميل الى الكلاسيكية. أما حداثته فهي تأليفية ونابعة من الصدام مع التراث التركي في حياتنا".