شكل الحفل الغنائي الذي أقامه قبل أيام الفنان مارسيل خليفة في قاعة "أرينا" في مدينة "السلط" القريبة من العاصمة الاردنية، نقطة بدء لتحويل العرض الغنائي الذي لا يخلو من "مباشرة تحريضية" الى عرض موسيقي ينطوي على أكثر من معلم حداثة. ومثل هذه الانعطافة وفّرتها الفرقة الموسيقية الأقرب في آلاتها الى شكل فرقة موسيقى جاز محترف. فإلى جانب البيانو واللعب الحر على مفاتيحه بحسب مهارة رامي نجل خليفة الأكبر كانت هناك النحاسيات: الساكسوفون والأبواق اضافة الى الايقاعات: الغربية الحديثة درامز واللاتينية والشرقية الطبلة التي ضرب عليها برشاقة بشار النجل الأصغر لخليفة. واعلان موسيقي لافت تمثل في افتتاح مقطوعتين، كان بؤرته عازف البيانو رامي خليفة الذي تحيل مهارته الى مقارنة ليست قسرية بين طريقته في اللعب المرن على المفاتيح وطريقة أساطين عازفي البيانو في فرق الجاز، اعلان يكشف عن منطقة اتصال في تجربة الفنان خليفة بين ما هو غنائي محض قائم على حث مشاعر المقاومة عبر الكلام: قصائد للشاعر محمود درويش حصة بارزة فيها وبين ما هو موسيقي يميل الى نقل الاطار الموسيقي العربي في القوالب التلحينية - وإن تضمنت ابتكاراً - نحو تعبيرية محدثة توفرها الارتجالات النغمية والتنويعات على الجمل الموسيقية. الافتتاح الموسيقي لجهة "حداثتها النغمية" أحدثت مفارقة مع الحال النفسية للجمهور الذي كان "سخّن" ايقاع الحفل بالهتافات الوطنية والأناشيد لما يزيد عن الساعتين قبل بدايته، كأن خليفة حرص على الاشارة في أن "الفن الغنائي المغاير" لا يرتكز على "هتاف المقاومة" ولا "الغضب الوطني" ولا "صورة الاحتجاج"، إنما هو في عمقه أيضاً تدريب على تعميق "الذائقة الجماهيرية" عبر احاطة الأغنيات بجو موسيقي تتراجع فيه اللغة ومفرداتها: الفصيحة والدارجة لمصلحة النغم الصرف. الأغنية الجديدة التي افتتح بها خليفة حفل وكان حضره أكثر من خمسة آلاف شخص، لم تكن على عهد الأغنيات السابقة التي تحفل عادة بتصويرية لحنية، تتأجج أحياناً في تعبيرية غاضبة أكان ذلك في أداء خليفة منفرداً على العود أم في مصاحبة الأوركسترا العادية. وجاءت "أنا الأرض" التي كتبها الشاعر محمود درويش في مزيج من روحية شرقية تظهر بجلاء بعد تمهيد ايقاعي يذكر ب"ثقل النوائب التي تحتملها الأرض" وتعبيرية محدثة تناوب رامي في التنويه لأنغامها على البيانو مع نبض ايقاعي شجي ل"الكونترباص" وآهات تكشف الجانب الروحي والانساني تولت اظهارها الآلات النحاسية. ولم تتوقف الملامح الموسيقية لعمل خليفة عن حدود الأعمال الجديدة وبينها أيضاً أغنية "عابرون في كلام عابر" وإنما شملت الإرث الغنائي المعروف، كما في التوزيع الموسيقي الذي أحال نص المقاومة الذي كتبه الراحل توفيق زياد "يا شعبي" الى عرض نغمي حر، رقّت فيه مفاتيح البيانو لأصابع رامي خليفة الذي خرج على النص الموسيقي وارتجل ما هو غني ومفعم بالحيوية من الأنغام الايقاعية. والتداخل اللحني الذي جاء في معظمه دونما فجاجة واستعراض مجاني، واجتمعت فيه الجملة الموسيقية العربية والشرقية الى تعبيرية محدثة، وجدناه أيضاً في قوالب كانت مرجعاً عربياً ثابتاً، كما هو الحال في "الموشح". فقدم خليفة في القالب الذي اراده لنص مأخوذ من درويش "ديوان أحد عشر كوكباً" اقتراحاً تمثل في حوار بين عوده وبيانو نجله. واللافت في الحوار ان الآلتين احتفظتا بمرجعياتهما، حتى ان البيانو لم يؤدّ جملاً موسيقية عربية أو شرقية إلا في ما ندر. وتنويعات رامي خليفة على الألحان الأساسية لأغنيات والده لم تتوقف عندالأغنيات الضاجة بالايقاعات السريعة، بل ذهبت الى أغنيات هادئة الألحان، كالتي حوتها أغنية "ريتا" التي توصف بأنها واحدة من "أغنيات الحب الأخرى" غير التي يتداول سمعها المتلقي اليوم. وإذا كان رامي يؤكد براعته في تحويل اللحن الغنائي الى عرض موسيقي حر يستدعي التلوين الشيق لبقية الآلات الموسيقية، فإن شقيقه بشار على الايقاعات لا يقل ذكاء ورهافة حس. فهو بدأ في مقطوعة موسيقية دفع موجة ايقاعية على "الطبلة" الى آفاق تعبيرية يتولى إغناءها رامي بتنويعاته الحرة على البيانو، وتلونها الأبواق ويشجيها الساكسوفون. البرعم النضر لخليفة - وأقصد هنا رامي - أحال ترنيمة عذبة كالتي توافرت عليها اغنية "ليما" الطفلة التي ترمز الى ضحايا "مجزرة قانا" والذين "سقطوا على أرض نظيفة"، وأدتها بروحية عرفت عنها، أميمة الخليلة، أحالها الى عمل موسيقي أشرقت فيه الارتجالات بما تشير اليها من عناصر روحية، وصنع من مدخل نغمي معروف "نغمة هابي بيرث داي" سلسلة من التنويعات جعلت من ليما تتنفس بيننا وتعيش وتحلق وتحتفل ب"عيد ميلادها" الذي أطفأ الموت شموعه. الشكل الموسيقي الجديد، أوجد قناة تناسب الذائقة المتغيرة لجيل شاب من المتلقين ما زالت فكرة الحرية تشتعل في ثناياها مثلما اشتعلت عند من سبقوه أيضاً، وهو ما حصل في تقديم أغنية "جواز السفر" فمع العود والبيانو والكونترباص أمكن الاستماع الى لحن الأغنية ولكن في بناء متغاير لم ينفصل عن الاتقان. وحميمية البناء الموسيقي الجديد لهذه الأغنية تثير سؤالاً: ماذا لو اكتمل الجانب الروحي الحميم حين تغني أميمة الخليل نصّها . وينسحب مارسيل خليفة مكتفياً ببراعته اللحنية؟