وصلت الانتفاضة الفلسطينية في شهرها السابع الى أقسى مراحلها وأشدها خنقاً للفلسطينيين. والواضح ان قادة اسرائيل مصممون على ان يقوموا بما يقومون به دوماً، أي تحويل حياة هذا الشعب المضطهد الى جحيم. آرييل شارون لا يعرف حداً في اندفاعه في هذا الاتجاه، وكل ذلك باسم "مبدأ" وافقت عليه الولاياتالمتحدة، يتلخص بعدم القيام بأي شيء طالما استمر "العنف". ويبدو ان هذا يخول شارون محاصرة مجموعة سكانية تعدادها ثلاثة ملايين نسمة، في الوقت الذي يشكو فيه هو وشمعون بيريز - المرائي والكذّاب الأكبر في اسرائيل - للعالم من "الارهاب" الفلسطيني. لذا، لا داع لاضاعة الوقت في التساؤل عن السبب في تمكنهم من استخدام تكتيكات حقيرة كهذه. فالواقع انهم يتمكنون، وسيواصلون العمل بها في المستقبل المنظور. لكن الاعتراف بهذا الواقع لا يعني الاستكانة له ولنتائجه. لذا، علينا أن ننظر الى الوضع بهدوء على المستويين التكتيكي والاستراتيجي - وهذا ما نلاحظ: 1- القيادة الفلسطينية التي دخلت في عملية أوسلو وقبلت بالطوق الأميركي المدمر وقدمت كل تنازلاتها البائسة من ضمنها ازاء حملة الاستيطان المستمرة، لا تستطيع القيام بأكثر مما تقوم به الآن - أي مهاجمة اسرائيل كلامياً والايماء لها تحت الطاولة بأنها مستعدة للعودة الى المفاوضات السابقة العديمة الجدوى، وفي الشكل القديم نفسه تقريباً. عدا ذلك ليس لها قوة أو صدقية تذكر. ان عبقرية ياسر عرفات في الحفاظ على الذات قد أوصلته الى الحد الأقصى الممكن، وهو يدرك، من دون شك، انه وصل الى نهاية الخط، لكن من المؤكد أيضاً انه لا ينوي التخلي. والسبب وهمه العميق بأنه يجسد فلسطين، وان لا وجود لها من دونه. وسيبقى عرفات مؤمناً بذلك طيلة حياته مهما كانت الظروف. والصعوبة الاضافية هنا أن كل خلفائه المحتملين أقل شأناً منه، والارجح انهم سيزيدون الوضع سوءاً. 2 - معاناة الفلسطينيين، مهما اشتدت، لا تؤثر في سياسة الولاياتالمتحدة، والرئيس جورج بوش لا يقل عن بيل كلينتون في مساندته تل أبيب. كما ان اللوبي المؤيد لاسرائيل في اميركا وأوروبا سيواصل دون هوادة سياسته في الكذب والتضليل، على رغم السنين الطويلة من جهود العرب للتقارب مع الادارة الاميركية، وأيضا وهو أمر غريب مع اللوبي الاسرائيلي. مع ذلك، هناك في الولاياتالمتحدة وأوروبا الكثير من التعاطف الذي لم تتم تعبئته، اذ لم تقم أبداً حملة فلسطينية منظمة لكسب مجموعات مهمة مثل الأميركيين الأفارقة والهسبانيين، وغالبية الكنائس خارج الكنائس الأصولية في الجنوب الأميركي، إضافة الى الدوائر الأكاديمية. بل أن هناك في أوساط يهود أميركا انفسهم من لا يقل عنّا استبشاعاً لايهود باراك وشارون، كما تجلى في الاعلان المدفوع المثير المساند لحقوق الفلسطينيين الذي نشرته أخيراً صحيفة "نيويورك تايمز" حاملاً تواقيع مئات الحاخامات. 3 المرجح ان الدول العربية لن تقدم اكثر من الدعم التكتيكي الهامشي المعتاد. فلكل منها مصالح مباشرة تربطها بسياسة الولاياتالمتحدة، وليس لأي منها القدرة على ان تكون حليفاً استراتيجياً للفلسطينيين. البرهان القاطع الأخير على ذلك كان قمة عمان. في المقابل، هناك هوة عميقة بين الحاكم والمحكوم في العالم العربي، وفي هذا ما يكفي من التشجيع للقضية الفلسطينية، اذا ما تم توجيه تلك الطاقات نحو التحرر وانهاء الاحتلال. 4 - الاسرائيليون لن يوقفوا سياسة الاستيطان، ولن يرفعوا الحصار عن حياة الفلسطينيين عموماً. لكن شارون، على رغم تبجحه، ليس مفرطاً في الذكاء أو المقدرة. لقد اعتمد على القوة والخداع طوال حياته العملية، ومارس الجريمة والارهاب كلما اعتقد انه لن يتحمل النتائج. ازاء ذلك لم نحاول التوجه الى الرأي العام الاسرائيلي، خصوصاً المواطنين القلقين من التطورات الحالية التي تأتي الى اسرائيل بصراع لا نهاية له. كما ليس لنا حتى الآن ما نقوله الى المئات من جنود الاحتياط الاسرائيليين الذين رفضوا الاستدعاء الى الخدمة خلال الانتفاضة. هناك قطاع من الرأي العام الاسرائيلي علينا التوجه اليه، مثلما تبنى المؤتمر الوطني الافريقي بثبات سياسة التوجه الى البيض في الصراع ضد نظام الفصل العنصري. 5 - الوضع الفلسطيني نفسه قابل للاصلاح، لأن البشر هم الذين يصنعون التاريخ وليس العكس. هناك ما يكفي من الشبيبة الفلسطينية في انحاء العالم، وكذلك الفلسطينيين الأكبر سناً، الذين نفد صبرهم وضاق ذرعهم في شكل كامل من وجود قيادة فلسطينية تخبطت من كارثة الى اخرى من دون أي مساءلة أو اقرار بالحقيقة أو توضيح للاهداف عدا هدف الاستمرار كقيادة. إن منظمة التحرير الفلسطينية، كما وصفها مرة الراحل اقبال احمد، كانت دوماً مرنة الى حد كبير استراتيجياً لكنها بالغة التحجر على صعيد التكتيك. وتشكل سياسة القيادة واداؤها منذ 1993 برهاناً عملياً على هذا الرأي. فعلى صعيد الاستراتيجية بدأ عرفات بالموافقة على قراري مجلس الأمن 242 و338، ثم أظهر مرونة خلال السنين التالية بقبوله إدخال تعديل بعد آخر على هذه الاستراتيجية: مثلاً، كانت هناك أولاً ضرورة وقف الاستيطان، وعندما لم يتوقف تم الرضوخ لذلك. وحصل الشيء نفسه مع القدس، واستعادة "كل" الاراضي. لكن عرفات بقي ثابتاً على تكتيكاته، التي تلخصت بالبقاء في عملية السلام والاعتماد على الأميركيين مهما حصل. انها المرونة استراتيجياً مقابل التحجر تكتيكياً. 6 - اذن، تتطلب المرحلة بالحاح شيئاً يقاومه كل اللاعبين: طرحاً حقيقياً للاهداف والغايات. ولا شك ان من بين الأولويات انهاء الاحتلال العسكري الاسرائيلي وازالة المستوطنات، اذ لا سبيل من دون ذلك الى سلام عادل للفلسطينيين والاسرائيليين. وليس هناك شيء يسمى السلام "المرحلي" كما أصرت عليه عملية أوسلو دوماً وألحقت من خلاله ضرراً كبيراً بالشعب الفلسطيني. ولا يمكن أن يكون للفلسطينيين بعض الحقوق ولكن ليس غيرها، لأن هذا هراء مرفوض. المطلوب منظومة واحدة للقوانين والحقوق، ومنظومة واحدة للاهداف والغايات. ويمكن على هذه القاعدة تنظيم حركة فلسطينية للسلام لا بد لها أن تضم يهوداً اسرائيليين وغير اسرائيليين، خصوصاً ممن يمتلكون، افراداً ومنظمات، تلك البطولة المتمثلة بحركة "الحاخامات من أجل حقوق الانسان" بقيادة جيف هالبر المطالبة بوقف عمليات هدم المساكن. 7 - ما هي أهداف حركة كهذه؟ أولاً، أن تكون حركة منظمة تركز على التحرر الفلسطيني والتعايش، حيث يكون كل فرد جزءاً من كل، وليس متفرجاً خاملاً ينتظر صلاح الدين جديداً أو أوامر تأتي من الأعلى. يجب التركيز على المجتمعين الآخرين اللذين يؤثران في شكل رئيسي على فلسطين: الولاياتالمتحدة، مصدر الدعم لاسرائيل الذي لولاه ما كان للاحداث الدائرة اليوم في فلسطين أن تحصل، ذلك ان دافع الضرائب الأميركي يقدم لإسرائيل مساعدة سنوية مباشرة بقيمة ثلاثة بلايين دولار، اضافة الى ذلك السيل الذي لا ينقطع من الأسلحة من بينها المروحيات التي تقصف المدن والقرى الفلسطينية العزلاء، لكي يصل مجموع المساعدات الى ثمانية بلايين دولار. هذه المساعدات يجب قطعها أو تعديلها في شكل جذري. ثانياً، المجتمع الاسرائيلي، الذي استمر في الانسياق السلبي وراء السياسات العنصرية التي تعتبر الفلسطينيين "أدنى انسانية"، أو في الدعم الايجابي لها عن طريق الخدمة في الجيش أو أجهزة مثل "موساد" و"شين بيت" لتنفيذ تلك السياسات المرفوضة انسانياً واخلاقياً. والغريب اننا تحملنا هذه السياسات طيلة هذا الوقت، مثلما تحملها الكثيرون من مواطني اسرائيل الذين يجب اشراكهم في تغييرها. 8 - المعروف أن كل اعلانات حقوق الانسان في العالم اليوم من ضمنها شرعة الأممالمتحدة تعطي للشعوب حق مقاومة قوى الاحتلال بكل وسيلة متاحة، وكذلك حق اللاجئين في العودة. لكن الصحيح ايضاً ان التفجيرات الانتحارية في تل أبيب لا تخدم القضية سياسياً أو اخلاقياً، وهي مرفوضة تماماً. فهناك فرق هائل بين حركة للعصيان المنظم أو الاحتجاج الشعبي من جهة، وأن تنسف نفسك وبعض الأبرياء من جهة ثانية. علينا ابراز هذا الفرق بوضوح واصرار، واعتباره مبدأ ثابتاً في أي برنامج فلسطيني جدي. 9 - المبادئ الأخرى واضحة الى حد كبير: تقرير المصير للشعبين، التكافؤ في الحقوق، لا احتلال ولا تمييز ولا استيطان، والتسوية تشمل الجميع. هذا هو الأساس المطلوب لأي مفاوضات، ويجب ان يعلن بوضوح من البداية، وليس أن يغفل أو يبقى قيد التضمين مثلما في عملية أوسلو برعاية الولاياتالمتحدة. ولا بد للأمم المتحدة من أن توفر اطاراً تلك المفاوضات. أثناء ذلك، علينا كلنا، فلسطينيين وعرباً ويهوداً وأميركيين وأوروبيين، مسؤولية حماية الذين لا حامي لهم ووقف جرائم الحرب، مثل العقوبات الجماعية والقصف والاضطهاد، التي يتعرض لها الفلسطينيون يومياً. هذه هي حقائق الوضع اليوم، ويقع في جوهرها التفاوت الهائل في القوة بين اسرائيل والفلسطينيين. لهذا علينا الاسراع في احتلال موقع التفوق الاخلاقي، بوسائل سياسية لا تزال متاحة لنا - أي القدرة على التفكير والتخطيط والكتابة والتنظيم. انها مهمة لكل الفلسطينيين سواء كانوا في فلسطين أو اسرائيل أو الشتات. وليس هناك من يمكن استثناؤه من تحمل قسط من المسؤولية تجاه تحررنا. المؤسف ان القيادة الفلسطينية الحالية تبدو عاجزة تماماً عن فهم ذلك، ولهذا عليها التنحي، وسيأتي بالتأكيد الوقت الذي يضطرها الى ذلك. * استاذ الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا الاميركية.