ليست الهجرة حكراً على فئة معينة من فئات المجتمع العراقي. فالسعي الى مغادرة البلاد الى مناطق آمنة توفر حياة باتت عسيرة في الوطن الذي صار نهباً لأزمات الحروب والحصارات لازم موسيقيي العراق ومغنيه الشبان في العاصمة الأردنية التي صارت نافذة العراقيين على العالم يمكن تشكيل اوركسترا موسيقية من عازفين على مختلف الآلات، مثلما يمكن التعرف على مجموعات صغيرة تعنى بالموروث الموسيقي العراقي وأخرى تذهب الى مغامرة التجديد فتعرض ألواناً موسيقية عراقية ضمن اشكال موسيقى الجاز الأميركية أو حتى موسيقى الروك. مثلما نجد مطربين يغنون في ليالي عمان كل الأشكال بدءاً من "المقام العراقي" وصولاً الى رومانسية غناء فرانك سيناترا! رحلات في المجهول هؤلاء الموسيقيون الشبان يحلمون بالهجرة ومنهم من هاجر فعلاً وآخرون أكملوا الاستعدادات في ملف اللجوء. ومن بين من غادر عمان أخيراً المطرب اسماعيل الفروجي الذي عرفه العراقيون جيداً في العقد الماضي عبر اغنيات عاطفية رقيقة مثل "شي ما يشبه شي" و"يا جرح" حمل صوته "الدافئ" الى "صقيع" كندا ليبدأ من هناك رحلة مجهولة، غير ان الوطن سيظل يلاحقه لا من خلال المعجبين بصوته من المنفيين والمهاجرين العراقيين في كندا، بل من خلال ساقه المقطوعة التي ظلت مؤشراً على محنة المطرب العاطفي في ساحة المعركة، حيث كان الفروجي اصيب بقذيفة في حرب الخليج. المطرب الشاب سيف شاهين المأسور بأسلوب عزف دافيد غيلمر أحد اعضاء فريق الروك الشهير بنك فلويد وعازف الغيتار الكهربائي فيه سعيد بنجاح شريطه الغنائي الثاني "حتى هي" وباتت أغنياته المصورة تبث في غير فضائية عربية. وأسلوبه الغنائي والتلحيني يتضمن مغامرة من نوع خاص: نقل المعاناة الإنسانية العراقية في كلام دارج مغنى ضمن ألحان لا تبتعد كثيراً من موسيقى الروك. سيف شاهين يستعد للهجرة الى كندا ايضاً وأحلام التعبير عن أزمة الشباب العراقي في أشكال حرة ترافقه املاً في أن يجد المؤازرة على وضع عمل موسيقي يختصر سنوات عذابه التي لم تكن إلا شبيهة بسنوات عذاب ملايين من شبان العراق. عازف البيانو ترافليان ساكو الذي قضى أكثر من سبع سنوات في العاصمة الأردنية وتتلمذ على يديه مئات من محبي الآلة الموسيقية الرقيقة وتدرب بحسب معرفته وموهبته الكثير من عازفي البيانو في الأردن وأشهرهم العازف خالد أسعد. وصل قبل فترة الى مدينة فانكوفر في أقصى الغرب الكندي وبدأ عملاً جاداً على وضع مؤلفاته حيز التنفيذ، تلك التي قاربت روح بغداد أو التي حاولت ان تقيم مقاربة جديدة للموروث النغمي العراقي حين احيا اكثر من حفل موسيقي في عمان قبل هجرته وزاوج بين البيانو وآلتي القانون والجوزة العراقية التي تعتبر أساسية في الفرقة الموسيقية المؤدية لألحان "المقام العراقي". وإذا كانت الفرقة المصاحبة للمغني والموسيقي العراقي المعروف إلهام المدفعي تضم مواهب موسيقية عراقية شابة، فإن من أبرز تلك المواهب عازف الغيتار الكلاسيكي روبرت الذي غادر العاصمة الأردنية قبل فترة مقيماً في سويسرا فيما ظلت مؤثرة محاولته الجريئة في إقامة "جلسة موسيقية" تضم آلته الغربية والقانون والجوزة وإيقاعات الكونغا والغيتار الكهربائي يمكن من خلالها تقديم الموروث النغمي العراقي وفق أشكال ليست بعيدة من روح موسيقى الفلامنكو الإسبانية. وفي حين عرف عصام الحكيم مؤلفاً للكثير من القطع والأعمال الموسيقية الناجحة من بينها الموسيقى والمؤثرات المصاحبة للعرض الافتتاحي في "مهرجان بابل" 1992 و"بغداد حبيبتي" التي عزفتها الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية، كان أقدم في بغداد على مغامرة من نوع آخر حين وضع ألحان أغنيات "هيفي ميتل روك" بصحبة أعضاء فريق حمل اسم "سكير كرو" ويقتدمه المغني وعازف الغيتار بيرج مايكل. تفريق "النازيين الجدد" ولأنهم شكلوا "ظاهرة في غير أوانها" وأقدمت السلطات العراقية على تفريق آخر حفل لها في بغداد عام 1994 بعد اغنيات تحريضية من نوع "النازيون الجدد" توزع اعضاء هذا الفريق بين عمان وعواصم اوروبية عدة. غير ان أنغامهم الغاضبة وقمصانهم السود وكلمات الرفض "يريدون السيطرة عليك/ يريدون اطلاق النار عليك/ يريدون ضربك وإرسالك الى السماء/ احتفظ بإيمانك/ لا تكن ضعيفاً في دفاعك/ ضع محاولات العدو في احتوائك". جعلت من حضورهم لافتاً وحملت جرأة غير عادية أكان ذلك في شكل اغنياتهم ام في مضمونها. شيراك وآرمين ميناس من بين عازفي الفريق "سكير كرو" تركا العراق واشتركا قبل اكثر من عام في تجربة لافتة جمعت ايقاعات الروك والموروث الغنائي العراقي وإيقاعات البحر الكاريبي غير ان تلك التجربة ظلت "شهقة يائسة" قبل ان يتحولا الى مكان بعيد لن يعبأ بمعنى الموروث الغنائي والموسيقي العراقي لاسيما وأنهما سيفتقدان "التحريض الوطني" الذي يوفره وجود عازف القانون والمؤلف فرات حسين قدوري الى جانب المجموعة التي تضمهما. وعازف القانون قدوري الذي يحرص على استحضار الأثر الذي طبعه بقوة والده الموسيقي والباحث في الموروث النغمي العراقي وصاحب الإنجاز البارز في أغنية الطفل، الفنان حسين قدوري، جرب الهجرة وحاول ان يجد ذاته في بلجيكا غير ان مثل هذا السعي لم يتأكد ليعود فرات الى الأردن محتضناً انغامه العراقية والعربية وساعياً الى تأكيد نجاحه الذي برز في أسطوانة "قانون ما بين النهرين". ومن بين أبرز المهاجرين من موسيقيي العراق الشبان عازف العود البارز عمر منير بشير الذي يمتد عميقاً الى مدرسة والده الفنان الشهير الراحل منير بشير في عزف على الآلة العربية قارب الإتقان والابتكار في آن. وإذا كانت بودابست تحتضن عمر فإنه يتردد على بيروت والرباط وتونس مبتكراً من الألحان ما هو رصين وعميق ويدل على الأثر الغني للراحل بشير والذي جاء عبر اكثر من عمل ناجح ضمته أسطوانة "من الفرات الى الدانوب". وخلال العقد الماضي كان اسم الفنان رائد جورج من بين أبرز الملحنين والمغنين الشبان في العراق، وتكفي أغنيته "لا ترحلين" اذ كانت واحدة من افضل عشر اغنيات عراقية في السنوات الماضية. فهي انطوت على بناء موسيقي متين صاغته موهبة جورج الذي غادر العراق الى أميركا قبل نحو سنتين، فخسرت الموسيقى العراقية برحيله تجربة متمايزة حققت حضوراً حتى على المستوى العربي حين فازت الموسيقى التصويرية لرائد جورج في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون بجائزة أفضل موسيقى تصويرية في عمل درامي عام 1998. كما ان موسيقاه التصويرية لمسرحية "الإنسان الطيب" للمخرج المعروف عوني كرومي جعلته اصغر مؤلف موسيقي عراقي وذلك أواسط الثمانينات. ورائد اليوم يعيش في ديترويت.