تهدمت معالم روحية في العراق بحكم سنوات الحرب والحصار غير أن نهم العراقيين الى القراءة ما زال حاضراً وإن أخذ أطواراً تختلف عن تلك التي كانت معتادة من قبل. ومن تقوده خطاه الى "شارع المتنبي" وسوق المعارف والكتب والقرطاسية أي "سوق السراي" المتجاورين سيجد نشاطاً لا يهدأ لباعة كتب مستعملة "يخفون" الجديد والممنوع من الإصدارات. وهذه تتحول الى مئات النسخ المصورة عبر "الفوتوكوبي". فيما تصبح مكتبات خاصة لمثقفين وأكاديميين عراقيين مهاجرين أو رجال قانون ومهندسين وأطباء "كنزاً" يتنازع عليه باعة الكتب ويدفعون أثماناً كبيرة مقابلها على أمل استعادة تلك الأثمان بأضعاف مضاعفة في بيع الكتب في طريقة مفردة. ومن بين الكتب والمراجع التي تلقى رواجاً كتب التراث والأدب العربي القديم مسجّلة أرقاماً كبيرة في البيع لكنها تظل دون اثمانها الحقيقية إذا قورنت قيمة الدينار العراقي حالياً بقيمته قبل الحصار. ولأنها كتب ومراجع "ثابتة" القيمة ومطلوبة داخل العراق وخارجه نشطت أخيراً حركة "تهريب" كتب التراث ومجلات التأريخ والاثار التي عرف العراق بنشرها وأبرزها مجلتا "سومر" و"المورد". المجلتان من المجلات العلمية والرصينة التي تعنى بالآثار والتراث العربي والإسلامي والتنقيبات وأعمال الصيانة، مما جعل المجلتين "مطلوبتين" وتباعان بأسعار خيالية في سوق الكتب البغدادية على حد وصف صحيفة "نبض الشباب" الأسبوعية التي شككت في تلك الظاهرة مشيرة الى وجود "شبكة تهريب تسعى الى إخراج هاتين المجلتين ضمن خطة لإفراغ العراق من كل ما هو ثمين وقيم من آثار وتراث. وتذهب الصحيفة الأسبوعية البغدادية الى اتهام "التجار العرب" في تهريب مجلات الآثار وكتبها قائلة: "تزاحمت أيدي التجار العرب من أجل الحصول على أعداد من مجلة "سومر" و"المورد" وخاصة الأعداد القديمة النافدة من الأسواق وبأسعار مغرية جداً لأصحاب النفوس الضعيفة". وفي حين يباع العدد الواحد من اعداد المجلتين القديمة بنحو 80 أو 100 ألف دينار عراقي 40 أو 50 دولاراً يتحول بيع المجلتين الى "تجارة رابحة" بين باعة الكتب في "شارع المتنبي". وهؤلاء تتهمهم الصحيفة بالتغاضي عن هدف هذا الإقبال على مجلات الآثار والتراث "تهريب المجلتين يهدف الى تفريغ العراق من كل ما هو ثمين و"آثاري" ونفيس. وهذا الأمر تقف خلفه جهات مغرضة تسعى الى مسخ كل معالم الحضارة العراقية" وهو امر يؤكده مدير عام دائرة الدراسات والبحوث والتدريب الآثاري دوني جورج فيقول عن تهريب مجلة "سومر": "لأنها حاوية أسرار الكنوز العراقية وعلى كم هائل من المعلومات عن آثار العراق والوطن العربي، استهدفت من أجل التخريب ولإفراغ البلد من كل ما هو ثمين من بعض التجار العرب". ويرى رئيس تحرير مجلة "المورد" الفصلية العراقية المتخصصة بالتراث العربي والإسلامي ان خطة لإيصال المجلة والمطبوع العراقي عموماً الى القارئ العربي كفيلة بوضع الحد لظاهرة تهريب المطبوعات المهمة والمطلوبة ومنها مجلته التي يظل سعرها متدنياً داخل العراق إذا قورن بأسعار مثيلاتها من المجلات العربية. المطبوعات العراقية للكتاب المقيمين خارج البلاد والعربية الجديدة تصل في نسخ محدودة لكنها لا تلبث ان تتحول الى مئات عبر تصويرها في اجهزة "فوتوكوبي". وصارت لهذه الطريقة سوقها الخاصة والرائجة. وفي هذا الصدد حققت الكتب السياسية التي تناقش مستجدات القضية العراقية ومعظمها ممنوع من دخول البلاد، رواجاً كبيراً إضافة الى دواوين شعر وروايات لسعدي يوسف وفوزي كريم وفاضل العزاوي وسليم مطر وشوقي عبدالأمير وهاشم شفيق وعبدالخالق كيطان وفيصل عبدالحسن وابراهيم احمد. وتحتل المجلات الأدبية العراقية الصادرة في الخارج حيزاً لافتاً من اهتمام رواد "شارع المتنبي" ومنها "المدى" و"عيون" و"المسلة". وتظل "المطبوعات الكويتية" ضمن اهتمام جمهرة القراء التي تضم اعداداً وفئات بصورة متجددة. فما زال موقع "العربي" محفوظاً بينما الأكاديميون والباحثون يفضلون "سلسلة عالم المعرفة" ول"عالم الفكر" موقع مهم من اهتمام القراء والمشتغلين في الثقافة على وجه الخصوص. وبينما تعاني القراءة في بلدان عربية بل وحتى في العالم تراجعاً ملحوظاً فالحال في العراق تبدو على النقيض من ذلك. فثمة نهم للقراءة لا يتوقف! ويرجع كتاب وناشرون وأكاديميون عراقيون ذلك الى ان "الوسائل المنافسة للقراءة أصيبت في العراق بتراجع كبير" مشيرين الى أن ساعات انقطاع التيار الكهربائي الطويلة تفقد شاشة التلفزيون وأجهزة الفيديو نصيباً مهماً من تأثيرها. كما ان تلقي المعرفة عبر وسائل الاتصال الأخرى وأبرزها الكومبيوتر وشبكة المعلومات شبه معدوم في العراق وهو يعاقب مواطنيه بالسجن في حال قيامهم بنصب صحون لاقطة للبث التلفزيوني، بينما يظل استخدام الإنترنت محدوداً وتحت رقابة حكومية صارمة إضافة الى ما يكلف من أعباء مالية لا يقدر على إيفائها معظم العراقيين. "تاجر" من بين تجار الكتب الجدد في "شارع المتنبي" يقول إن عزلة العراق وحرمانه من وسائل الاتصال المعاصرة أبقتا القراءة في مكانتها البارزة وظل الكتاب "خير جليس في زمن الحصار" يرحل العراقي من خلال عوالمه، الى أمكنة غير قادر على الوصول إليها في واقعه على رغم المنافسة التي بدأت تشكلها محلات بيع الاسطوانات المضغوطة وما توفره من أفلام وألعاب وقواميس وكتب مختزلة.