فيما تواصلت "تبرعات الكتب" من اتحادات الأدباء والكتاب العربية في سورية والامارات والمغرب وتونس واليمن لأدباء العراق وأكاديمييه في الجامعات ومراكز البحوث، تبرعت سفارات روسيا واسبانيا وفرنسا بآلاف الكتب الجديدة التي حُرمت منها أقسام دراسات آداب اللغات الروسية والاسبانية اضافة الى الانكليزية والفرنسية والألمانية في الجامعات العراقية. واطلق كاتب أردني في عمّان ما وصفه "حملة التبرع بمليون كتاب للعراق" ينتظر ان تؤازره فيها مؤسسات ونقابات مهنية واتحادات "تتحدث كثيراً عن تضامنها مع الشعب العراقي ومساندتها مثقفيه". غير أن "تبرعات الكتب" وإن حملت ما افتقده العراقيون من كتب جديدة في شتى مجالات المعرفة منذ سنوات طويلة أسبق من عام 1990 حين بدأ تطبيق الحظر الدولي على العراق، لا يمكن أن تلبي "نهماً" للقراءة لم يفتر حتى مع أشد فترات الحظر قسوة وبالذات حين قاربت العملة الوطنية على الانهيار وقبل البدء في تطبيق قرار النفط مقابل الغذاء. نهم العراقيين للقراءة يجيب الناشر العربي عن السؤال اللافت فيه: "تعثر المطبوع العربي لافتقادنا أكبر سوق للكتاب وهي السوق العراقي"، في الوقت الذي يتبرع أكثر من مهتم بالكتاب في تذكيرك ب"الحكمة" اياها: "القاهرة تكتب، بيروت تطبع وبغداد تقرأ". و"شارع المتنبي" في بغداد المتفرع من الشارع الذي اكتسبت منه العاصمة العراقية شكلها المعاصر مع أوائل القرن الماضي، وهو "شارع الرشيد"، كان سوقاً للكتب: طباعة وتسويقاً وتجليداً يوم كانت بغداد مثلما يقول الناشر "أكبر سوق للكتاب" ومثلما تقول "الحكمة" عن نهم أهلها للقراءة. اليوم أصبح "شارع المتنبي" سوقاً لبيع الكتب، بل لبيع مكتبات بأكملها: مكتبات نادرة، أفنى أصحابها في تجميعها وطراً كبيراً من سنواتهم، مكتبات لرجال أدب وفكر، رجال سياسة، مكتبات أساتذة جامعة، أطباء ومهندسين، ومكتبات اعلام القانون والاقتصاد، كلها معروضة للبيع، فلا مكان لحكمة "أثيرة" أخرى: "خير جليس في الزمان كتاب" مع إيقاع الضنك والاحساس المتعاظم بالفاقة. الجوع وأشكال الألم كأنه وحش يمد أذرعه الضخمة الى الأمكنة التي تشغلها الكتب في البيوت ويستلّ منها مجموعة قيّمة من الكتب ويرميها في الفراغ علّها إذ تطير، تتحول الى رغيف خبز!! لا تبحث عن كتاب وتضيع الكثير من الوقت في ذلك، إذهب فقط الى شارع المتنبي واسأل أحد الرجال ممن يقفون عند مجموعة من الكتب المفروشة على جزء من الرصيف/ المكتبات فعنده السبيل الى ما تبحث عنه، فهو وإن كان لا يعرف إلا مجموعة من الكتب، فهو لديه من الخزين ما لا يخطر لك على بال، يشتري بأسعار بسيطة ممن يحمل كتبه مذعوراً من صوت الجوع في بيته، ثم يبدأ بعرضها للبيع وكما يريد، فهو هنا بائع وببساطة عليه أن يحقق ربحاً كأي بائع آخر. أخيراً دخل على قائمة الباعة في شارع المتنبي، كتاب ومثقفون عراقيون، بدأوا بمكتباتهم الشخصية وتعثروا في البدء. غير أن الحال مشى في المرات اللاحقة، وتلقفوا تقاليد البيع والشراء في هذا المجال واقتناص الزبائن، لا بل انهم تخصصوا، كل في حقل محدد: ذلك في كتب التراث، وهذا في الطب، وآخر في الأدب المعاصر، في الموسوعات وفي الكتب الممنوعة التي نشط سوقها على طريقة الاستنساخ التصوير. بعضهم ظل "أديباً" و"مثقفاً" حتى وإن أصبح "يبيع ويشتري" والآخر أصبح "شايلوكاً" حقيقياً. ويكاد "شارع المتنبي" في أيام الجمعة، يصبح منذوراً للكتب، حتى ان المركبات تختفي وتتعطل الخدمات الأخرى، ليظل الوقت من الصباح حتى الغروب متناغماً مع حركة حاشدة للمولعين بالكتب والقراءة، الذين ما فتّ في عضدهم يأس، تأتي به أيام العقوبات وأحزانها. وإذا كانت الأرصفة تشهد معارض الكتب على الطريقة العراقية، فإنها في يوم الجمعة تصبح أكثر اتساعاً لتنزل الى الشارع ذاته ولتضييق الممرات حتى يكاد الناس يتقافزون ما بين مجموعة وأخرى من الكتب وهم ينشغلون في البحث عن ضالتهم. كتّاب العراق وأكاديمييه من بغداد وغيرها من المحافظات يحجون الى "شارع المتنبي" يوم الجمعة، وعلى هامش البيع والشراء والتطلع والانشداد الى الكتاب، تنشط لقاءات وأحاديث. ووسط هذه المشاهد كان القاص يوسف الحيدري مات بالسكتة القلبية ما إن رأى صديقه وزميله القاص أحمد خلف يبيع مكتبته درءاً للحاجة. ومن بين ارصفة بيع الكتب في الشارع اختفى القاص حميد المختار الذي اعتقل بتهمة التحريض على قتل مسؤول أمني عرف بشراسته في اضطهاد الناس. وكان المختار عاد الى بغداد بعد أن جرب حظه العاثر في عمّان وعمل مدققاً ومحرراً في صحيفة اسبوعية اردنية أكلت حقه على رغم مانشيتاتها وصراخ مسؤولها في التضامن مع العراق ومؤازرة مثقفيه. الى فترة قريبة كانت "المكتبات العامة" في بغدادوالمحافظاتالعراقية تتمتع بمهابة واحترام خاص، لا من الجهات الرسمية التي تشرف عليها، بل من عامة الناس الذين استمروا في النظر الى المكتبات والعاملين فيها بوصفهم "اصحاب رسالة" يؤدون "عملاً فاضلاً". لكن في ظل انهيار بنية الدولة العراقية وتفكك عناصر الخدمة حتى الأساسية منها الغذاء والصحة، بدا النظر الى رعاية ما ممكنة ل"المكتبات العامة" أشبه بنكتة، بل هو هكذا فعلاً. ويقول القائمون على هذا الجانب ان كتاباً واحداً لم يدخل المكتبات العامة منذ عام 1990. ويوضح جاسم محمد النعيمي مدير المكتبات العامة في محافظة بغداد ان هذا يعني نقصاً يعاني منه آلاف من الطلبة والمستفيدين. ويعني أيضاً عزلتنا وعزلة مكتباتنا عن التطورات العلمية والفكرية والثقافية وبقاء موجوداتها على ما فيها من مصادر أحدثها قد أصبح بعيداً عن تغييرات كثيرة طاولت المعرفة: مصادرها ومناهجها. ويوجد في بغداد 22 مكتبة عامة من بينها مكتبتان للأطفال تفتح يومياً للرواد لمدة عشر ساعات، وهي تضم مختلف انواع المعارف والعلوم مع مجموعة متميزة من المراجع العربية. ويبدو عدد المكتبات هزيلاً أمام عدد سكان بغداد البالغ خمسة ملايين نسمة، حيث تصبح هناك مكتبة عامة واحدة لكل 227 ألف مواطن. وتبدي "الجمعية العراقية للمكتبات والمعلومات" قلقها من حال المكتبات وترى ان الاجراءات التي فرضتها سنوات الحظر مثل تقليص الانارة، غياب وسائل مكافحة الفئران والأرضة والرطوبة التي تنهش في كتب بعضها لم يطبع مجدداً ويعدّ مما ندر، أوصلت المكتبات وذخيرتها من الكتب الى حال مزرية. ان تخصيصات شهرية لم تزل قائمة لادامة العمل في المكتبات العامة، تدفع اجهزة محافظة بغداد مبلغ 50 ديناراً فقط خلال الشهر لكل مكتبة، تصرفها على "الادامة"، لكن المبلغ يعني ببساطة أقل من "سنت" واحد!! ومثل هذه الارقام الأشد ضآلة من الضئيلة دعت محافظة بغداد للقيام بحملة لصيانة عدد من هذه المكتبات بعد "تبرعات من الأهالي"، ودعت للقيام بحملة وطنية لمد هذه المكتبات بالمصادر والمراجع الحديثة اضافة الى الدوريات المتخصصة التي يستفيد منها المواطنون. ولا تخفي مصادر من "جمعية المكتبات" من أن موجودات المكتبة العامة تعرضت للسرقة، وخصوصاً المجموعات النادرة والثمينة من الكتب والمراجع. ووصل كثير منها الى عواصم مجاورة. أمهات الكتب، ومجموعات تراثية كاملة، لا بل ان مخطوطات بيعت في "شارع المتنبي" بأسعار هي "برخص التراب" لو قورنت بمثيلاتها في الدول العربية التي يأتي منها كتّاب وصحافيون وأكاديميون وباحثون في زيارات الى العراق "للتضامن معه ضد الحصار الظالم" ويتفنون في اغتنام الفرصة، فيحملون نفائس ونوادر من الكتب والمخطوطات مقابل رزمة من الدنانير العراقية الرخيصة جداً هذه الأيام.