في متحف مدينة شهبا في جنوب سورية رأس منحوت بعناية يعود الى العصر الروماني في القرن الثالث الميلادي هو رأس الامبراطور فيليب العربي... وفيليب العربي هو واحد من السوريين الذين صاروا أباطرة وحكموا روما، وأثروا حضارتها منذ فجر تلك الحضارة... كان فيليب العربي يحلم بتحويل مدينته السورية: شهبا، التي ولد فيها الى روما ثانية. واذا كان التاريخ أبرز روما، وجعل مدينة شهبا السورية في الظل، فإن الآثار الشامخة الآن قادرة على التذكير بقيمة ذلك الحلم الذي جسد فيليب العربي شيئاً منه عندما حول الحجارة السود الى صروح حضارية خالدة... بنى فيليب العربي عندما عاد من روما عام 249 للميلاد مدينة فيليبو بولس، وفي هذه المدينة نتلمس معنى الطموح الذي كان يشغله، ويؤسس عليه حياته التالية... ففي حلة من الصخر البازلتي ارتدت فيليبو بولس ثوب طموحه الخالد. أراد أن يمجد وطنه فمجده هذا الوطن حجراً حجراً. فها هو المسرح يكسر قساوة البازلت في حميمية العلاقة بين الخشبة والجمهور التي أراد مصمم المسرح من خلالها أن يجعل جمهور مسرحه داخلاً في قلب اللعبة، وليس بعيداً منها. ويمكننا ملاحقة زواريب الكواليس التي تركها الزمن لنا كشاهد حضاري على حلم فيليب، لنكتشف حكايات الزمن الماضي عندما يستعيدها الحجر! والى اليوم تمكن الاستفادة من ذلك المسرح وتقديم العروض الحميمية عليه وهي تستلزم ان يعيش المشاهدون في قلب المشهد... وعلى مقربة من المسرح، مدفن أثري، يسيطر عليه جلال التاريخ، ونتعرف من خلالهالى رغبة الانسان الدائمة في البحث عن خلوده وبقائه وعزته... وعبر درج ضيق يصعد الزائر الى فوق المدفن ليكشف المعبد القريب وجانباً من المسرح... وفي معبد مدينة فيليبو بولس، تشمخ الأعمدة البازلت، على تلة صغيرة يمكن من يصعد باتجهاهها اكتشاف كم يتسع المعبد وعلى أي اساس يتحرك الناس فيه. وفي آخر الشارع المنحدر باتجاه المدينة ثمة بقايا أعمدة يقال ان فيليب العربي ارادها مكاناً لأبيه يشبه المعبد في تفاصيله العمرانية... واذا كانت الصخور السود في مدينة شهبا قادرة على اجتذابنا في تفاصيلها وحكايتها مع الزمن والحضارة والطموح، فإن الشيء المخفي هو المدهش الذي لم تسلط الأضواء جيداً عليه بعد!! لقد اكتشف المنقبون في أرض المدينة الخالدة جانباً آخر من ابداعات السوريين الذين عاشوا في تلك الحقبة. ومن تلك الابداعات لوحات الفسيفساء الرائعة التي كانت مرصوفة في الأرض، وأبقيت في مكانها بعد الكشف عنها، وتحويل البقعة الموجودة فيها الى متحف... وفي ذلك المتحف الذي اسمه الآن متحف شهبا نتأمل دقة الفن الذي أبدع لوحات الفسيفساء تلك، والتي يقف المشاهد أمامها مدهوشاً ومستمتعاً في الوقت نفسه. فهذه لوحة تيتس ربة البحر، وهذه لوحة أورفيوس رمز الموسيقى، وذاك رأس فيليب العربي... وفي دقة كل لوحة ما يثير أكثر من سؤال: كيف انشئت لوحات الفسيفساء هذه على هذا النحو الذي يحاكي فعلاً روائع الفن العالمي الخالدة؟؟ ولماذا أراد فيليب من فنانيه أن يرصفوها في الأرض على النحو الذي راود فيليب مذ كان امبراطوراً على روما، وهذه هي ارادة الانتماء التي عجنتها روحه على هذا النحو، فغدت وقائع على الأرض، وان لم تكتمل في شكل نهائي! هنا لا بد من طرح اسئلة جديدة: هل كانت مشروعية الحلم عند فيليب العربي قائمة على الرغبة في مجده الشخصي؟! أم ان روما التي شغلته سنوات طويلة هي التي صنعت هاجس احلامه التي انبعثت بعد العودة من هناك الى شهبا؟... كيف كان ينظر الى الحاضرة السورية ومستقبلها الذي سيحمل افول دولة روما؟؟ غدت شهبا وكان اسمها في ذلك الوقت فيليبو بولس فاتنة سورية في القرون الأولى بعد ميلاد المسيح. وكلما تقدم الزمن واكتشف المنقبون المزيد من آثارها كبرت الحكاية... ان حكاية حضارات سورية القديمة ستظل تشغل العالم زمناً طويلاً بمكتشفاتها وروعة الزمن الذي صنعته من عمر هذا الكوكب... أضحت شهبا في زمن فيليب العربي مركز اشعاع حضارياً في سورية كلها... المشوار أكبر مما نتوقع... تبدأ الحكاية مع حلم، وتنتهي مع حضارة كاملة بحجم الطموح... ربما أسست هذه الحضارة مستقبلاً يرسمه القدر منذ ذلك الزمن، وربما أعطت شخصية فيليب العربي للعالم نموذجاً عن شخصية العربي الذي يبحث عن موقع حضاري له في هذه المعمورة...