ليس القول إنه لم يكن في بورتو اليغري - المدينة البرازيلية التي استضافت أول منتدى اجتماعي مناهض للعولمة الليبرالية البرية، في الأسبوع الأخير من كانون الثاني المنصرم - أصحاب عمل ورأسماليين، صحيحاً. فمنظمو المنتدى الاجتماعي الأول، نظير المنتدى الاقتصادي في دافوس السويسرية والبالغ هذا العام الواحدة والثلاثين من عمره، يدلّون بألوانهم الكثيرة، على المعنى المادي للألوان: الأحمر والأصفر والأبيض والأسود والأسمر وما بينها من أمزجة وقارات وبلدان ومجتمعات. وفي وسعهم أن يدلوا كذلك، إذا شاؤوا، بكثرة ألوانهم الفكرية، ونزعاتهم وميولهم وتجاربهم. وأصحاب المنتدى الاجتماعي، على رغم جهرهم معارضة حادة للعولمة الليبرالية البرية المتوحشة، وهم يعرّفونها بغلبة الأقوياء ومعاييرهم الفظة على المبادلات التجارية العالمية وعلى الأسواق وطرائق العمل والإنتاج، على رغم هذا فهم استقبلوا أصحاب عمل وصناعيين ومستثمرين. ومن هؤلاء، على قلتهم في بحر العشرة آلاف ناشط في المدينة البرازيلية نظير ألفين في دافوس، أوديد غراجو، عضو رابطة مقاولين أو رجال أعمال "خلقيين"، على ما يسمون أنفسهم، وأحد منظمي المنتدى الاجتماعي. والمقاولون المبادرون أو رجال الأعمال الخلقيون هؤلاء كانوا كثرة في دافوس، وبعضهم مثل السيد أوديد غراجو كان في بورتو أليغري. وكان هذا شأن المنظمات غير الحكومية. فهي كذلك توجهت شطر المدينتين والمنتديَيْن، ولم تحجم عن المشاركة في أي منهما. فالمقاولون الخلقيون، ومعظمهم من كبار رجال الأعمال، ناقشوا في دافوس "تقريب الفجوة" بين الأغنياء وبلدانهم ومجتمعاتهم وبين الفقراء وبلدانهم.... ودعوا الى إجراءات عملية تحقق هذا التقريب. ومن إجراءاتهم العمل بمرشد خلقي يقضي باحترام حقوق الإنسان ومنها حق الاجتماع النقابي في المنشآت والشركات، والحق في حرية الرأي...، ومحاربة الفساد، وحماية البيئة، والإسهام في بناء الأبنية التحتية. وعلى خلاف زعم شاع في بورتو أليغري "الاجتماعية"، لم تكن دافوس "الاقتصادية" قليلة الألوان، ولم تقتصر على رجال الأعمال البيض والبزات الفاخرة. فإلى تسع وستين من المنظمات غير الحكومية الناشطة، والمشككة في جدوى المرشد الخلقي الذي يتوقع السيد كوفي أنان تقيد ألف شركة كبيرة به والتزام بنوده، إلى هذه المنظمات قصد المنتدى الليبرالي بعض كبار الساسة الافريقيين مثل ثابو مبيكي، رئيس جنوب افريقيا وخليفة مانديلا، وأولوسيغون أوباسانجو، الرئيس النيجيري. والرئيسان، الى رئيس ثالث تغيب هو عبدالعزيز بوتفليقة، انتدبتهم قمة هافانا، في العام 2000، إلى بلورة مشروع افريقي يتيح للقارة المهمشة "اللحاق بتيار العولمة". ولعل هذا الأمر من مفارقات المنتديَيْن ومفارقات تشابكهما، مشاركة وأفكاراً وبرامج. فاقتراح البلدان التي تحط بها تيارات التبادل الهوجاء والقاسية الى أدنى المراتب وأضعفها، وتخرجها من دوائر الاستثمار المجزي والإنتاج والتسويق والتوزيع، ونداؤها إلى "النخب الشاملة" على ما تسمي "قيادات" دافوس انفسها، الاقتراح والنداء يرميان الى "مساعدة الافريقيين على مساعدة انفسهم" الرئيس مبيكي. واحتياجات المحتاجين الى المساعدة، وإلى اللحاق بالعولمة والانخراط في تياراتها العريضة، بعضها رهن بحلول تتحكم فيها الدول الكبيرة والغنية، مثل إلغاء جبال الديون المتراكمة وخدمتها الباهظة، وبعضها الآخر رهن بالإدارة الداخلية، مثل التنمية الاقتصادية والتحكيم في المنازعات الداخلية والإسهام في بناء جوار إقليمي لا تمزقه الحروب والمنافسة على السيطرة والصدارة. والحق أن الإجماع متعذر على أكثر المسائل وضوحاً وإلحاحاً. فمسألة الدّين، على سبيل المثال، يتنازع حلها رأيان في حزب دعاة الإلغاء المباشر والتام، وهو الى اليوم حزب القلة. فيرى اصحاب الرأي الأول أن تحتسب الديون الملغية للدول وميزانياتها ومالياتها العامة. ويرى أصحاب الرأي الثاني أن تجعل الديون استثمارات محلية يوكل توظيفها في مشروعات وأعمال وخطط إلى الجماعات الأهلية وهيئاتها، وتتولى المنظمات غير الحكومية مراقبة التوظيف وعقد المصروفات. والخلاف بين الرأيين وأصحابهما عميق. ويتصل الخلاف بأمور جوهرية مثل السيادة السياسية والشرعية الشعبية وعلاقة الدولة الوطنية وهيئاتها بالمجتمع الذي يفترض فيها ان تكون صورة إرادته ومرآة هذه الإرادة. وحين تدعو المنظمات غير الحكومية، الغربية والمحلية، الى تحويل الديون، أو بعضها مرحلياً، الى عقود استثمار وتوظيف، تثور ثائرة إدارات الدول المناهضة للعولمة. ولما كانت المنظمات غير الحكومية، والقوى النقابية والسياسية الأوروبية والأميركية، تربط ربطاً وثيقاً بين الدينامية الاقتصادية الداخلية وبين مراعاة حقوق الإنسان في الاجتماع والرأي والمفاوضة، انقسم "حزب" مناهضي العولمة ودعاة عولمة عادلة وإنسانية. فكانت الصين وروسيا وكوبا، الى الجزائر والسودان وباكستان، أشد الدول اعتراضاً على قبول منظمات غير حكومية في لجنة الأممالمتحدة المولجة بالتنسيق مع المنظمات هذه. والانقسام على وجوه استعمال الديون الملغية واستثمارها ليس باب الانقسام الوحيد. فإجماع القوى المناهضة للعولمة أو المتحفظة عنها على نقد منظمة التجارة العالمية يخفي انقساماً عميقاً كذلك. فبعض نقاد المنظمة هذه ينكر عليها استبقاء الدول الكبيرة والغنية حواجز وحماية داخلية مدمرة، تتستر بسياسة دعم المنتوجات الصناعية والزراعية وصادراتها. فالولايات المتحدة الأميركية لم تلغ، منذ ستة أعوام على اتفاقات مراكش، إلا 13 نظام "كوتا" أو تقنين واردات من 750 على النسيج" وألغى الأوروبيون 14 نظاماً من 219. أما عائدات دعم الصناعات فزادت من 275 بليون دولار أميركي في أواخر العقد التاسع الى 326 بليوناً بعد عقد من السنين. وتبلغ تكلفة سياسة الدعم الزراعية، الأوروبية والأميركية، في السنة الواحدة نحو خمسين بليوناً، تساوي جملة مساعدات الدول الغنية للدول الفقيرة والنامية في العام، وتساوي جملة الخسائر الزراعية التي تتكبدها الدول النامية والمصدرة. وعلى هذا فإصلاح منظمة التجارة العالمية إنما يدعو الى انفتاح الدول الغنية، وإلى استقبالها صادرات الدول النامية والزراعية إليها. فنقد العولمة يحض على عولمة أكثر صدقاً، وأوسع صدراً. وقد يشترط ذلك انفتاحاً إقليمياً وداخلياً، أي داخل الأسواق الوطنية نفسها، ويدعو البلدان النامية الى تجارة بينية أقل حماية وتزمتاً. وهذا يقسم بدوره مناهضي العولمة ونقادها. فيسكت منظمو بورتو أليغري، وهم أدرجوا في مناقشاتهم "حماية الدولة الوطنية" محوراً، عن أن السبب الأول في إخفاق لقاء سياتل في صوغ بيان التجارة العالمية الجديد لم يكن التظاهرات والمتظاهرين، وليس الاحتجاج على العولمة تالياً، بل كان السبب في الإخفاق تحفظ ممثلي الدول النامية عن إدراج شروط حماية البيئة والحقوق الاجتماعية ومراقبة الفساد والإتجار بالنفوذ في العقد التجاري المزمع. وترفع لواء هذه الشروط الحركات والتيارات الاجتماعية والسياسية الأوروبية والأميركية المعارضة بعض سياسات حكوماتها وشركاتها الصناعية الكبيرة. فلا يسعها، والحال هذه، ان ترضى بانتهاك الدول والمجتمعات النامية شروطاً تطالب حكوماتها وشركاتها باحترامها، وألزمتها بها بعد عقود من المطالبة. ولعل المسألة الصعبة والمعقدة التي تمتحن الحركات المناهضة للعولمة فوق ما تمتحن الروابط "الأممية" الرأسمالية، هي تنسيق هذه الحركات المشدودة الى شرائطها المحلية والوطنية بين برامجها وتخطيها لهذه الشرائط وثقلها. ف"العدو" المعولم ليس نسخة جديدة عن "العدو" الرأسمالي العالمي السابق، على ما يتوهم مناضلون شاخوا في إطار "تناقضات الوضع العالمي"، وهو وضع كان يجمع الحركات الاجتماعية والسياسات السوفياتية في كتلة فكرية واحدة. فالعامل الأقوى أثراً في العلاقات الاجتماعية القائمة، اليوم، إنما هو فرط العولمة الروابطَ الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحقوقية والتنظيمية التي قامت عليها الدول والطبقات والمنشآت والشركات والجماعات. ومثل هذا الانعطاف الكبير لا يداوى بالصور الأسطورية الماضية، ولا بالنفخ في الرماد البارد.