الهواء البالغ البرودة الذي يلفح وجوه المتجولين في شارع "استقلال" في اسطنبول لا يطفئ شيئاً فيها، لا بل ربما هو الذي يحرض الأجسام على التقارب والتلامس، وهو الذي يدفع الى التّهامس والضحك الذي، لكي يتفادى مطلقوه الصقيع يكورون وجوههم ويدخلونها تحت سترهم، فيصبح الضحك خاصاً وموجهاً الى شخصٍ بعينه، وسط الحشود التي يكتظ بها الشارع. الشارع في اسطنبول هو ربما المسافة الوحيدة التي يمكنك فيها التقاط ملامح المارة. فهم في احياء وشوارع اخرى يخفون ملامحهم وتغور وجوههم الى دواخلهم. في المتحف كما في التاكسي والمطاعم، يتحول الناس كائنات عاملة فقط. كائنات لا تنطق للتواصل، وانما لتنجز امراً ما، واذا صادفت ملاطفة فهدفها استدراجك كسائح. واسطنبول مدينة سياحية. هذا الأمر تجده في الفندق والمقهى وخلال اتصالك بصحافيين. وبما انها هكذا ولشدة سياحيتها واحتراف اهلها السياحة تجعلك دائماً فريسة دورها هذا. وفي الأيام الأولى لزيارتك لها تشعر ان لا شيء مهماً في المدينة باستثناء ذلك. كل ما فكرت به وأعددته قبل مجيئك لن تجد له صدى: مشكلة الاتحاد الأوروبي، واعتراف فرنسا بالمجازر الأرمنية، وحكم الجيش، وصعود القوميين، وانكفاء الاسلاميين، والشركات العابرة للحدود، والاستثمار، وأزمات الحدود والمياه مع سورية والعراق، وحزب العمال الكردستاني. تعتقد، لوهلة، ان كل هذا لا يشكل شيئاً امام ركض المدينة وراء وظيفتها الأساسية. لكن الصمت التركي على هذه الوقائع التي تحاصر الدولة والمجتمع سيزيد من غرائبية زيارتك المدينة، وستبدأ بعد قليل من الوقت تنكشف امامك حقائق ثقيلة. الماضي في المدينة للسياحة، وللسياحة فقط. هكذا عندما تدخل متحف التوبكابي الذي كان لقرون طويلة مكاناً حكم منه السلاطين العثمانيون عشرات الشعوب والأمم، لن تتمكن من إقامة صلة بين ما تعرفه وما قرأته عن هؤلاء السلاطين وما تشاهده من ثيابهم وجواهرهم واسلحتهم. وفي القاعة التي كانت في السابق مسجداً يصلي فيه هؤلاء السلاطين وعرضت فيها لوحاتٍ كانوا يملكونها، خصصت زاوية لشيخٍ انيقٍ وحليق، وظيفته رفع الآذان كلما اكتظت القاعة بالسياح، لإضفاء اجواء الماضي عليها. النادل في النادي الليلي اقترح، في حياد وبرود ومن دون تمنٍ، ان نطلب مزيداً من الطعام. لم يظهر عليه انه يطلب ما لا يطلبه الندل عادة من زبائنهم. كان كأنه يفعل شيئاً يمارسه كل يوم. لا ادري لماذا راحت هذه الواقعة تتردد في مخيلتي، طوال تلك الليلة، متجاورة مع وقائع زيارتي متحف التوبكابي. واكثر من مرة حاولت ايجاد علاقة بينهما ولم انجح. ربما كان الأمر شخصياً الى حد اعقد من ان يعبر عنه. الأمر يدفع الى شعور بالعدم، او بذلك الفراغ الذي يفصل بين الوقائع، كأنما هي تحدث وحدها منفصلة عن اي سياق. وشارع "استقلال" المتفرع من ساحة التقسيم، هو احدى علامات القسم الأوروبي من المدينة، اذ تصطف على جانبيه مبان اوروبية الطراز، صممها قبل نحو قرن او اكثر بقليل، مهندسون ايطاليون وأرمن. وهو، إذ يمتد مستقيماً أكثر من ثلاثة كيلومترات، مخصص للمشاة فقط، يزدحمون عليه طوال ساعات الليل والنهار، وهو مخترق بخط الترامواي ذي العربات العثمانية القديمة. تتفرع منه ازقة كثيرة، بعضها تحول اسواقاً صغيرة، وبعضها ضمته مبان قديمة وكثيرة الزخرفة، فجعلها اصحابها مجمعات تحوي عدداً من المقاهي والمطاعم. في اول شارع "استقلال"، تقع القنصلية الفرنسية في اسطنبول، حيث اقام البوليس التركي سياجاً من اشرطة ورق، ليمنع المارين من الاقتراب منها، خوفاً من اعمال عنف يمكن ان يقوم بها اتراك، احتجاجاً على الاعتراف الفرنسي بالمجازر التي ارتكبها العثمانيون بالشعب الأرمني. لكن هذا السياج لم يمنع المحتجين طبعاً من التجمع يومياً امام القنصلية، ولا كاميرات التلفزيون التي قد يناهز عددها عدد أولئك المحتجين. لكن تجمع المحتجين على مدخل الشارع لم يكن يعيق حركة المارة الذين لا يكترثون فعلاً الى تلك المساحات الطارئة التي يشكلونها. اذ يبدو ان ايقاع الشارع اقوى من اي طارئ. فإلى الأمام قليلاً، ستفاجأ بشبان وشابات يبدو انهم طلاب جامعات خرجوا من احد الأزقة المتفرعة، ووقفوا وسط الجموع العابرة، في شكل اعتراضي، رافعين صحيفة اسمها "كومينيست". انهم شيوعيون ممنوعون من الظهور العلني بصفتهم هذه، ولكن يبدو ان الشارع يتيح قليلاً من الظهور والاختباء. ويقول مرافقنا ان ما يقترفه هؤلاء ليس ذنباً كبيراً في عرف السلطة. فهي اذا ما قبضت عليهم في وضعهم هذا، توقفهم، ساعات قليلة، ثم تطلقهم. ولا تشكل حركة هؤلاء الشبان، بدورها، حالاً مختلفة في ايقاع الشارع، فيتابع الناس، على رغمها، رواحهم ومجيئهم، ويتابع المتهامسون تهامسهم والباعة نداءاتهم. وفي الشارع ايضاً محال لبيع الموسيقى، تنبعث منها الأنغام قوية، ثم تتلاشى كلما تغلغلت مبتعداً وسط الجموع لتستأنف سماع اصوات اخرى، منها صوت المؤذن في الجامع العتيق الى يمين الشارع. اختار الأتراك نهاية غير سعيدة ل"استقلال". فبعد ان تجتاز الكنيسة الكاثوليكية وصولاً الى مدرسة الليسيه الفرنسية، تقع عينك على ساحة صغيرة يتوسطها نصب كبير، هو عبارة عن اسطوانات متفاوتة الطول، تشعر ما ان تراها انها ترمز الى معان وقيم مغايرة لمعاني الشارع وقيمه. ففي النصب شيء من المفاخرة ومن زهو الأمم بنفسها، في حين انك لم تحس، اثناء عبورك الشارع، ان ثمة من تنتابه هذه المشاعر. الرجال العاملون في الحمام التركي في شارع غلطة سراي، جميعهم اشقاء على الأرجح، والمسنون منهم هم من يتولون "فرك" اجسام المستحمين، ويبدو انهم اكتسبوا بنية جسدية عضلية من جراء عملهم هذا لم يحل دونها تقدمهم في السن، فتظهر الأجسام الرطبة تحت ايديهم صغيرة وقليلة الحيلة، وما ان ينجزوا غسل رجل حتى يدفعوه الى الغرفة التالية بطريقة طقوسية. وحمام غلطة سراي اكثر حداثة من المنشآت العثمانية، واقل جدة وعصرية من المدينة الحديثة. انه اتاتوركي بمعنى ما، الرجال فيه يعيشون بين هذين الحدين، وثمة شيء في اجسامهم وفي اساليب تصريفهم أعمالهم يردك الى المعاني التي كرسها ذاك الرجل. القسم المعتم من صورة كمال اتاتورك المثبتة على جدار الحمام التركي قد تؤشر في مخيلتك الى تلك الالتباسات التي خلفها. في الصورة التي التقطت له وهو جالس على كرسي، يظهر قسم من وجهه وجسمه ويد واحدة يضعها على ركبته، فيما تغور بقية جسمه في تلك العتمة التي قصد منها اخفاء ما تخفيه. وصور اتاتورك المنتشرة بكثافة في المتاجر والأسواق والفنادق تحمل جميعاً ملامح خاصة، او انك تشعر حين تشاهدها انه اراد من وراء التقاطها له ايصال شيء من قيمه ومبادئه. ففي صورة اخرى مثبتة على جدار مقهى في السوق الكبيرة، تظهر ذقنه الحادة الزوايا والحليقة طبعاً، اكثر بياضاً من بقية أجزاء وجهه، فترجعك ذاكرتك الى تمسكه بمظاهر علمانية متزمتة. وانتشار صور اتاتورك هو احد مظاهر الفصام الذي يعيشه الأتراك بين تبنيهم قيماً غربية تجاوزها هذا الأخير اصلاً، وانتمائهم الى الشرق الذي يعدون احدى اهم علاماته. ولهذا الفصام الذي يشمله الصمت الثقيل، في اسطنبول، تجسيدات حياتية ويومية، اذ ستشاهد رجل الشرطة الحديث المظهر والذي يعيدك الى ما حفظته عن رجال الشرطة في الأفلام الأميركية، لكن وظائف رجال الشرطة الأتراك مختلفة، اذ من السهل ان يوقفوك وانت داخل احدى الأسواق، ليمرروا على جسمك وثيابك آلة البحث عن المتفجرات. يفعلون ذلك بخفة وسرعة توحيان انهم لكثرة ما اعتادوا فعلتهم، تحولت روتيناً سهلاً لا يعرقل حركة دخول الأسواق والأماكن الأخرى الكثيرة التي يرابطون على مداخلها. ويبدو ان الأتراك ادخلوا هواجسهم الأمنية في بنية حياتهم المدنية، فأصبح من الصعب دخولك مقهى من دون العبور عبر البوابة الإلكترونية الكاشفة للمتفجرات، لكن الغريب ان هذا يحصل برشاقة تدفع الى الاعتقاد انه من ضمن الأكسسوار التقني الحديث الذي تزين المدينة به نفسها. ومظهر الفصام الذي تعيشه الدولة، يعيشه المجتمع وان بدرجة اقل في تركيا. فواقعة من نوع الاعتراف الفرنسي بالمجازر الأرمنية تعيد شد جسم الأمة كلها، وتتبنى معظم التيارات السياسية الرواية الرسمية لنكبة الأرمن، في حين لا تخلو هذه الرواية من اغراء اعادة التفكير والبحث، وهو امر لم تأت عليه اي من القوى السياسية التركية، معارضة ام موالية، فتنخرط في حركة الاحتجاج على القرار الفرنسي تيارات اليسار، وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري، والقوميون وفي مقدمهم حزب الحركة القومية. اما الأسلاميون فمنشغلون، هذه الأيام، بما يتعرضون له من محاولات تضييق ومنع، ولكن ليست لهم رواية مختلفة عن الرواية الرسمية، وهم لا يستطيعون اصلاً، بحكم طبيعة قواعدهم. من المؤكد ان الاسلاميين الأتراك هم الأكثر تضرراً من تزمت الدولة ومن تحويلها العلمانية ديناً له قواعده الصارمة والمطبقة. ففي الأيام القليلة الفائتة، انشغل الرأي العام التركي بقرار يضيف كلية جديدة الى سلسلة الكليات التي تمنع المحجبات من دخولها. لكن المفارقة فيه ان الكلية المعنية، هذه المرة، هي كلية الإلهيات في اسطنبول التي تُدرس فيها اصول الدين والفقه والشريعة. ولحيثيات القرار ونتائجه دلالة في سياقات مختلفة. فقد ترافق مع تعيين عميد جديد لها هو زكريا بياز، القومي المنتمي الى حزب الحركة القومية المشارك في الحكم. وبعد مدة من تعيينه تعرض لاعتداء بالسكين ادخله المستشفى، قام به احد طلاب الكلية. وفيما يربط صحافي تركي اسلامي بين الاعتداء "الملتبس" وقرار منع المحجبات من دخول الكلية، يرى آخرون ان سبب الاعتداء كتاب الفه وتناول فيه جواز خلع المرأة حجابها. القرار احدث انقساماً بين التيارات السياسية التركية، فأيده الكماليون والعلمانيون المتطرفون، وعارضه الليبراليون والإسلاميون وبعض العلمانيين المعتدلين. كثرة الكلام على الزلزال الذي ينتظره ابناء المدينة بخوف كبير، يدفعك الى تصرفات غريبة. قد تقوم احياناً بحركات تلقائية من نوع دوس الأرض بقدمك للتأكد من صلابتها، او القاء نظرات على الأبنية لمحاولة معرفة ما يمكن ان تتحمله من ارتجاجات، او استعراض وجوه العابرين ومحاولة ايجاد صلة بين ملامحها وما يمكن ان يغير في الوجوه، جثوم كابوس من هذا النوع على انفاس اصحابها. فالناس يروون ببرود لا يخلو من خوف غائر في الأنفس عن صدع كبير في بحر مرمرة، يتوقع بعض العلماء انه يخبئ للمدينة زلزالاً كبيراً. وخلال الهزة الخفيفة التي حصلت قبل نحو ثلاثة اسابيع والتي لم تسفر عن ضحايا، رمى عدد من ابناء المدينة بأنفسهم من شرفات المنازل خوفاً من انهيارها عليهم ما ادى الى اصابات عدة، وفيما ادخل الأتراك في حساباتهم هذا التوقع، وراحوا يدربون الأطفال في المدارس على ما يجب ان يفعلوه في حال حصوله، اثبت مسح هندسي للمباني في اسطنبول ان نحو 70 في المئة من مباني المدينة يلزمها دعم وترميم حتى لا تنهار في حال وقوع الزلزال. الذين يستهويهم اطلاق التعريفات على المدن لن يجدوا ضالتهم في اسطنبول، اذ ستبقيهم حائرين ومعلقين بين ماضيها كعاصمة للشرق، وحاضرها وميلها لذلك الالتحاق الصعب بالغرب. ولعل ذلك الجسر المعلق الذي يمر فوق مضيق البوسفور والذي يصل اسطنبول الأوروبية باسطنبول الآسيوية والذي يعد احدى علامات العمارة في المدينة، يرمز الى تلك العلاقة الواهية والمتينة في آن، خصوصاً اذا علمنا ان تحت هذا الجسر يقع احد مراكز صدع الأناضول الذي يهدد المدينة بالزلزال الكبير.