كتب كثير من البحوث والدراسات عن التاريخ العثماني والدولة العثمانية، اختلفت في منطلقاتها وغاياتها وأحكامها، لكن المؤرخ إيلبير أورتايلي يتناول في كتابه الرصين، «إعادة استكشاف العثمانيين» (ترجمة بسام شيحا، 2012)، التاريخ العثماني من زاوية مختلفة، غير مطروقة من طرف الباحثين المهتمين بالدولة العثمانية، فيقوم برحلة استكشافية للعثمانيين ودولتهم، تتحول مع التقدم في سبر أغوار المسكوت عنه والمنسي، إلى ما يشبه عملية إعادة اكتشاف وكتابة جديدة للتاريخ العثماني، البداية فيها من سحر القسطنطينية، أو «الأرض المحمية»، وفق إحدى التسميات التاريخية مدينة اسطنبول، ونتعرّف من خلالها إلى جوانب من تاريخ هذه المدينة المديد، وكشف ما خبأته كواليس سلاطينها، من حياة زاخرة بالعلم والعمل في السياسة والتاريخ والأدب، وصولاً إلى ما قدمه فن العمارة والقصور الحجرية الضاربة في أعماق التاريخ. والغاية من هذا التاريخ الاجتماعي والمعرفي، هي تغيير الصورة النمطية والتصورات المسبقة عن العثمانيين ودولتهم، وإبراز الجوانب المنسية والمسكوت عنها في الخطاب السائد، وخصوصاً الاستشراقي. ومؤلف الكتاب البروفيسور إيلبير أورتايلي متمرس في كتابة التاريخ العثماني، ويعرف جيداً كيفية إنارة عتمات المعرفة في التطور التاريخي للعثمانيين، وباعه طويلة في كيفية التواصل وسهولة إيصال الأفكار؛ ويعرّفه المثقفون الأتراك بأنه المؤرخ الذي «جعل التاريخ مسلياً». وبناء على ذلك كله، يقدم في هذ الكتاب رؤية مختلفة عن السلطنة العثمانية وزمانها، وعن الهوية العثمانية، والحياة العائلية للعثمانيين، ويسلّط الضوء على النظام الإداري العثماني، السلاطين، القصور، المدن، المعالم الأثرية البارزة وأبرز الفنون. وإن كانت اسطنبول قد حملت اسم الأرض المحمية قروناً عدة، فإنها كانت تسمى في مراسيم ووثائق السلطنة العثمانية، القسطنطينية؛ ولم تجد اسطنبول العثمانية أي غضاضة في حمل اسم قسطنطين العظيم، كما لم يبالغ أحد في الحساسية حيال هذا الاسم، لكن خلال الأيام المضطربة لحرب الاستقلال، حاول اليونانيون، كقوة محتلة، وضع اسم الملك قسطنطين، حاكم اليونان في ذلك الوقت، بدلاً من اسم قسطنطين العظيم القديم. لذلك، حذف اسم القسطنطينية رسمياً. وكانت هذه المدينة العظيمة تحمل الكثير من الأسماء الأخرى. منها، على سبيل المثل، «روماالجديدة». وأفضى غنى اسطنبول إلى ظهور أسماء متنوعة لها في لغات أمم مختلفة؛ مثل دار السيادة، دار السعادة، الباب العالي، مقر الخلافة، بوابة النعيم وسواها. وكلها أسماء بقي الناس العاديون يستخدمونها حتى سقوط السلطنة العثمانية. ولعل اسطنبول تحولت إلى ملكة العواصم في ذلك الزمن، لكونها امتلكت ميزات وقدرات جعلتها عاصمة الثقافة والفنون والتجارة، وعاصمة عالمية بامتياز، وشهدت اختلاطاً كبيراً بين أفراد وجماعات، جاؤوا إليها من مختلف أنحاء الإمبراطورية العثمانية، ومن سائر أصقاع العالم. ويبدو أن عبارة «الباب العالي» كانت معروفة لدى لأتراك - ذات يوم – على أنها اسم المنطقة التي تضم مكاتب الصحف في اسطنبول. لكن، لم يعد أحد يستخدمها أبداً كمرادف للمؤسسات الصحافية، فيما كان اسم الباب العالي في عالم القرن التاسع عشر، يفهم منه على الفور، أنه يعني الدولة والحكومة العثمانية. ويعتبر أورتايلي أن حقبة السلطان سليمان القانوني، أو سليمان العظيم، ذروة السلطنة العثمانية، بل الحقبة الأهم في التاريخ التركي بأكمله. ودامت نحو قرنين ونصف القرن، فيما يقسم الباحثون والدارسون التاريخ المتبقي للسلطنة إلى مرحلة تأسيس ومرحلة انحدار، لكن أورتايلي لا يركز على المزايا الجغرافية والتاريخية للإمبراطورية، ولا يمنعه ذلك من تأكيد أن مرحلة حكم السلطان سليمان، التي دامت أربعاً وأربعين سنة، ليست المرحلة الوحيدة التي ينظر إليها بشيء من الحنين، مع أنها أنتجت أعظم الشعراء في التاريخ الأدبي العثماني والتركي. وظهر الاهتمام الثقافي في فترة حكم السلطان سليمان، من خلال نقل آلاف الكتب والمخطوطات من البلدان الأوروبية وسواها إلى مكتبات اسطنبول، ومن استيراد القطع الفنية والأثرية من البلدان الأوروبية، ومن سعيه إلى تحديث التعليم وتطويره، والتخوف من التخلف عن ركب الحضارة، الأمر الذي يشير إلى أن هذا السلطان كان من مثقفي عصره الكبار، وكان صاحب رؤية في ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع العثماني. إضافة إلى أنه كان صارماً في حكمه، وتركز همّه على تزويد السلطنة بأسباب البقاء، فضلاً عن أنه كان من أقدر السلاطين العثمانيين، ومن الشخصيات السياسية، المؤثرة والبارزة في عصره. ويستند أورتايلي إلى المصادر التاريخية، ليؤكد أن الفتيان المجندين في الجيش الإنكشاري، كانوا يتعلمون بالتدريج أداء أغانٍ وصلوات، كانت تتردد على ألسنة أناس ذلك الزمن. وليس صحيحاً أن كل الفتيان المجندين كانوا من الريف. ففي بعض الأحيان، كانت السلطات العثمانية تقنع عائلات مميزة لتسليم أبنائها، وهي ممارسة لم تكن تتعارض مع التقاليد العثمانية. حتى أن أبناء بعض النبلاء البيزنطيين، انضموا إلى الجيش العثماني في السنوات الأخيرة للسلطنة العثمانية. وبرز من بين المجندين في الجيش العثماني، المهندس المعماري سنان، وتحوّل هذا الرجل إلى عبقري زمانه في الهندسة المعمارية، ليس في السلطنة العثمانية وحسب، بل في سائر أنحاء أوروبا أيضاً. وقد بدأ سنان حياته في فن العمارة بالاستناد إلى رؤية السلطان محمد الفاتح، ثم رؤية سليمان القانوني، التي كانت تسعى إلى تحويل العمارة من ميدانها التركي الضيق إلى أشكالها الإمبراطورية المدهشة. وتمكن من ترك بصماته غير المسبوقة على فن العمارة في مختلف أرجاء السلطنة، وليس فقط في عاصمة الإمبراطورية العثمانية اسطنبول. وبخصوص العائلة العثمانية، يفصل أورتايلي القوانين الخاصة بها، إذ كانت أبوية التكوين. لذلك، كانت الدولة تسجل الأب والأبناء الذكور فقط على لائحة دافعي الضرائب. وكان ذلك ينطبق على أتباع جميع الأديان، وليس على المسلمين فقط. وكانت العائلة العثمانية تبارك من خلال إجراء ديني، وتقسم التركة فيها وفقاً لقوانين دينية. وكان العنصر الأهم في صوغ العائلة في المجتمع العثماني هو المرأة، ويشكك أورتايلي في صحة نظريات متعددة تتعلق بمكانة المرأة التركية العثمانية، ويعزو ذلك إلى سوء فهم المصادر العثمانية أو إلى ردود أفعال متحيزة، ويقرّ بأن المرأة كانت تحتل مكانة ثانوية في العائلة العثمانية، لكن ذلك الوضع كان ينطبق على الأتراك المسلمين والعرب والأرمن واليونانيين. وكانت العائلة العثمانية تتألف من جيلين أو ثلاثة أجيال يعيشون معاً، وتمنح قيمة عظيمة للعلاقات بين أفراد الأسرة، وتملك جذوراً راسخة بقوة، وتحولت إلى نموذج ساد في مختلف أنحاء العالم العثماني، يتسم بأشكال تواصل ومخاطبة مميزة، فالناس في تركيا، مهما كان دينهم، كانوا يخاطبون النساء المتقدمات في السن بلقب خالة، والرجال المسنين بلقب عم، والأصغر سناً بأخ. أما السلطنة العثمانية، فكانت تظهر نفسها بأشكال ملموسة في منطقة الباب العالي، على رغم أن مبانيها كانت، حتى بداية القرن التاسع عشر، قليلة العدد. وكان قصر توبكابي هو مقر الإقامة الخاصة للسلطان، ومحاطاً ببضع مبانٍ ذات وظائف إضافية. ويشغل قسم الحريم فيه الجزء الأول منه، لأنه كان المنزل الفعلي للسلطان. أما الغرفة من القصر التي يوجد فيها كبار الشخصيات، الذين يديرون شؤون الدولة، فكانت تعرف باسم الديوان أو المجلس السلطاني، وواحدة من أكثر المؤسسات استمرارية وتأثيراً في السلطنة العثمانية. وكان من بين أعضاء الديوان السلطاني، رئيس الوزراء، وكبار القضاة العسكرين. وابتداءً من القرن السادس عشر، لم يكن شيخ الإسلام عضواً دائماً في الديوان، إذ لم يكن يشارك في اجتماعاته، على رغم أنه كان يشغل منصباً رسمياً كرئيس لعلماء المسلمين. وكان الديوان مؤسسة إدارية تمثل السلطنة، وتقع المكاتب التي يعمل فيها الموظفون بالقرب من الغرفة التي تستقبل اجتماع الديوان السلطاني، أي أن قصر توبكاي لم يكن مجرد مقر لإقامة السلطان، بل كان يملك وظائف مهمة أخرى. ولا يصرف أورتايلي نظره عن علاقة السلطنة بأوروبا، إذ كانت أوروبا تدخل إلى تركيا على شكل ألبسة ومنسوجات وزجاج، وفي الوقت نفسه، كانت هناك أشياء متشابهة تنقل من السلطنة إلى أوروبا، وقد أثّرت مظاهر من الألبسة التركية، مثل العمامات والعباءات والأقمشة، في الألبسة الأوروبية. لكن أورتايلي لا يقرّ بأن حدائق اسطنبول وسائر المدن التركية كانت تصمم على الطريقة التي كان الفرنسيون يتبعونها، بل يعتبر أنه كانت للعثمانيين طريقتهم في التصميم كذلك. والحاصل هو أن أورتايلي حاول، بكل روية واقتدار أن يقدم في كتابه صورة للسلطنة العثمانية، وهي في قمة عطائها وازدهارها وانفتاحها على المجال الإمبراطوري، خصوصاً خلال القرنين، الخامس عشر والسادس عشر، وسعى إلى إعادة كتابة تاريخها الاجتماعي، على رغم ما كانت تمثله من جغرافيا شاسعة، مترامية الأطراف، وتتداخل فيها أجناس ومجتمعات وأديان متعددة، ولعلها ليست مهمة سهلة على الإطلاق، وتستحق التمعن والتقدير والبناء عليها.