يثير الوجود السوري في لبنان بنوعيه المدني والعسكري عدداً من ردود الفعل، فتتفاوت المواقف، وخصوصاً الشبابية منها بين رفض نوعي الوجود وربطهما ببعضهما، دعوات الى التمييز والقبول. وبين هذين الموقفين يعيش الرأي العام اللبناني لحظة بلحظة على ايقاع انجذاب ساسته وزعمائه لتعليمات المسؤولين السوريين وعدم استطاعتهم من التفلت منها. لقد اصبح الوجود السياسي السوري في لبنان اعقد من ان يتملص منه سياسي معين او منتخب. من المؤكد ان كثيرين من اللبنانيين لا يكنّون وداً لمختلف انواع الوجود السوري في لبنان، فلا يمكنك ان تطالب الجماعات بالتمييز والفصل، وقد صدرت مواقف تضمنت انواعاً من المشاعر المتناقضة. فتجاور الشعور بانتقاص السيادة مع مشاعر التفوق وولدا تركيباً غرائبياً نتجت منه مواقف عكسها الاعلام. فكانت مظاهرات شبابية مطالبة بالانسحاب السوري من لبنان، واعتصامات قام بها طلاب جامعيون وخطوات اخرى من نوع قيام شباب ببيع الخضار على عربات في منطقة المنارة في اشارة لدعم اليد العاملة اللبنانية. وهنا موضوع يتناول هذه المسألة من وجهة نظر الشباب السوري، وترحب "الحياة" بأي ردود، على ان تبقى في حدود النقاش المتزن. في مقابلة مع صحيفة "تشرين" في 13 كانون الثاني يناير الماضي، قال نصري الخوري الأمين العام للمجلس الأعلى السوري - اللبناني: "نتيجة التداخل الطبيعي بين اللبنانيين والسوريين وبحكم القربى نجد ان آلاف اللبنانيين يعملون في سورية من دون قيد، وتشير تقديرات أولية الى ان هناك 100 ألف لبناني مقيم في سورية يعملون في الصناعة والتجارة والسياحة وفي المحال التجارية، ويتمتعون بامتيازات السوريين نفسها، وبعضهم مسجل في النقابات المهنية السورية كنقابة الاطباء والمهندسين والمحامين، بل هناك موظفون لبنانيون في وزارات الدولة، وسورية تعطي مثلاً للآخرين في هذا المجال" وأضاف خوري: "سورية تفتح آفاقاً واسعة لعمل اللبنانيين وفي كل المجالات، والأولوية تعطى للبنانيين في القطاعين المالي والمصرفي، كما يتمتع الخبراء اللبنانيون بأفضلية الاستفادة من سوق العمل السوري". ومعلوم ان اي عربي لا يحتاج اقامة او تصريح عمل في سورية، وبالنسبة للسوريين فبلدهم للعرب كافة، وعليه يستغربون مواقف بعض اخوانهم اللبنانيين الذين يعتبرون السوريين اجانب غير مرغوب بهم، وهو ما يعده السوريون نكراناً لآلاف الشهداء الذين رووا بدمائهم البلد الصغير الكبير، لا سيما ان المتضرر الاكبر من تلك المواقف هم الشباب من الطلبة والعمال السوريين، وهم الطرف الاضعف في توازنات القوى ولعبة السياسة المعقدة. السؤال الذي يجب طرحه في هذه الفترة: لماذا تبدي سورية استعداداً دائماً لمناقشة اتفاق تنظيم العمالة، في حين يعرض ارباب العمل اللبنانيون عن ذلك؟ هل يكمن السبب في ان الاتفاق يرتب اعباء اجتماعية ومالية اضافية! فالعمالة السورية لا تتقاضى حالياً اي تأمينات اجتماعية او صحية، مع العلم ان هذه العمالة الرخيصة سبب اساسي لخفض كلفة الانتاج، وبالتالي دعم الاقتصاد اللبناني. احمد قوجة سنة رابعة في قسم الصحافة جامعة دمشق يعمل اثناء اجازات الصيف في لبنان في مهتني البلاط والحجر يعتقد ان "اللبنانيين كسولون ولا يصلحون للمهن اليدوية الصعبة، بينما يتميز العامل السوري بكفاءة عالية على رغم الاجور المتدنية، فيومية العامل السوري 10 دولارات ومعلم المصلحة 25-40 دولاراً، وهي اجور لا يرضاها اللبنانيون. وفي حين يتقاضى السوري في افضل الحالات 5،3 دولار اجرة تركيب متر البلاط، فإن اللبناني لا يرضى اقل من 5-6 دولارات"، ولا يشكل ذلك مزاحمة للبنانيين لأن "بعد الحرب الاهلية المدمرة انتعشت اعمال البناء، اللهم عدا الفترة الاخيرة. اذ لم تبقَ الازمة الاقتصادية عملاً لسوري او لبناني الا ما ندر في مناطق مثل بيروتالشرقية". وخلافاً لما يروجه البعض يرى احمد ان "العمالة السورية محصورة في مجالات البناء وصيانة السيارات، ومن ثم بعض الاعمال الخفيفة كبيع الخضار والاعمال الزراعية الموسمية". لماذا الآن؟ تستغرب السورية م.ع. سنة اولى علم نفس في الجامعة اللبنانية من الاحتجاجات الحالية: "هل احتمل اللبنانيون الاوضاع طوال هذه السنين لينفجروا فجأة، وبمن؟ بالطلاب الذين ليس لهم ذنب، فالموضوع برمته سياسي... وللأسف لا يستطيع معظم اللبنانيين التفريق بين مواطن ودولته، وبالتالي يكرهون كل ما هو سوري، ربما بسبب الوجود المكثف للجيش السوري في لبنان وعدم الالتزام بتنفيذ اتفاق الطائف، او بسبب العمالة السورية، لتأتي اخيراً القشة التي قصمت ظهر البعير والمتمثلة بدخول الطلاب السوريين كليات لبنانية من دون امتحان دخول، وهو ما أثار تساؤلات اللبنانيين واستغرابهم من رغبتنا في الدراسة بلبنان، علماً ان الدراسة في سورية افضل خصوصاً من ناحية تدني المصاريف، حسبما قالوا لنا؟!". وقول م.ع "لا بد في بعض النواحي من تفهم غضب اللبنانيين، فما معنى دخول الطالب السوري الى الجامعة بالواسطة!". ولا تنسى م.ع تذكيرنا ب"استقبال الرئىس السوري الراحل ل95 طالباً لبنانياً في الجامعات السورية من دون تكليفهم قرشاً واحداً". احمد بدورة يجد ان تفسير الموقف اللبناني يكمن في مقولة شهيرة لمن يعتبره قاتل ال12 ألف جندي سوري العماد ميشال عون "هناك احتلالان يفسر احدهما الآخر، الاحتلال السوري والاحتلال الاسرائيلي"، والمشكلة كما يقول احمد تكمن في ان "التيار الوطني الحر يستغل الشباب الذي لم يعش تجربة الحرب الاهلية ولا يعرف الحقيقة الا كما ترويها قياداته". وماذا عن السوريين؟ آنجي دهمان طالبة الحقوق في جامعة بيروت العربية ترى ان "هناك سوريين اخطأوا فعلاً بحق اللبنانيين، ولكن تصور اللبنانيين للسوريين غير ناجم فقط عن تجاربهم معهم"، وهو ما يعبر عنه هوجين يوسف اسم مستعار طالب الحقوق في جامعة بيروت بقوله: "اجد ان الكره نتج من مواقف شخصية عممت في شكل واسع ومخطط ومدروس"، فيما يرى احمد ان "نماذج لسوريين ينامون في الشوارع، تسهم في تشويه صورة السوريين". وتتابع آنجي: "ما لاحظته ان اللبناني يحب السوري من كل قلبه عندما يتعرف عليه عن قرب" وتقول: "انا لا ألومهم ابداً، فهم يعتقدون ان السوري يأخذ منهم فرص العمل، ولكني اريد ان اتوجه اليهم بسؤال: انتم تهاجرون وتعملون في المطاعم والمقاهي، فهل تقبلون ممارسة تلك الاعمال في لبنان؟ الجواب بالتأكيد، لا". هوجين عاش هذا السؤال بمرارة، فعندما نفذ ماله بعد ذهابه للدراسة في لبنان، اضطر لبيع الدخان في الشارع لسائقي السيارات ويقول: "أوقفني شرطي المرور، وعندما وجد هويتي سورية، نظر اليّ باحتقار قائلاً: ما هذا يا سوري، انت تعرقل السير! وعندما شرحت له وضعي رد ساخراً: طالب جامعي ينزل لمستوى بيع الدخان؟!". هل اللبنانيون عنصريون! يقول احمد: "الاجانب في لبنان مضطهدون بنسب مختلفة، فالهنود يعاملون المعاملة الاسوأ مع انهم شعب مؤدب جداً، اما المصريون فيتعرضون دائماً للنصب من اللبنانيين، فبعد الاتفاق على اجرة عمل ما لا يستوفون الا جزءاً من اجرتهم، ولا يستطيعون المطالبة بحقهم كاملاً فهم بسبب وجودهم غير الشرعي في لبنان يخافون من الدرك اللبناني، اما السوريون وعلى رغم تميز وضعهم نسبياً الا ان الكثيرين منهم على باب الله لا يريدون سوى بضع ليرات يرجعون بها لأولادهم، ما يجبرهم على تحمل الشتائم والمعاملة السيئة من اللبنانيين". هذه العنصرية تجاه الاجنبي تتخذ شكلاً فوقياً في تعامل اللبنانيين مع بعضهم بحسب م.ع التي تقول: "لم اشعر بعظمة سورية، وانتمائي لها الا عندما خرجت منها"، وتضيف: "اللبنانيون ينسون الامهات السوريات اللواتي كن ينتظرن عودة اولادهن من الحرب اللبنانية، وينسون كيف كانوا يلجأون لسورية ايام الاحداث"، وعن ذلك يقول هوجين: "اتمنى ان يدرك اللبناني انه لولا سورية لما تحرر الجنوب، ولما تعمر لبنان بهذه السرعة". احمد الذي عمل في مناطق عين الريحانة وبكفيا، يرى ان "اللبناني ينظر الى السوري كقاتل بينما تتحسن هذه الصورة قليلاً في مناطق مثل طرابلسوبيروت الغربية". آنجي المشتاقة والمحبة لطبيعة المجتمع اللبناني تقول: "كما يوجد من يكره السوريين يوجد من يعترف انه لولا سورية لانهار لبنان وتحول لطوائف متقاتلة"، وتعتبر انه من حسن حظها عدم مصادفتها لأحد من المتعصبين اللبنانيين عدا مرة واحدة عندما ساومت بائعاً على بدلة مرتفعة الثمن لم تستطع شراءها الا بعد ان ارسلت صديقة لبنانية بدلاً عنها، فالبائع الذي ميَّز لهجتها السورية وتكلم معها بلهجة تصفها انها "مليئة بالحقد والكره".