«إذا بدأت معركة دمشق فإن عدد النازحين السوريين الى لبنان يتوقع ان يصل الى مليونين او ثلاثة ملايين نازح». انها بعض التوقعات الصاعقة التي يهمس بها عاملون في مجال الاغاثة الدولية في لبنان ولا يكشفون عنها في العلن لكن تجري التحضيرات المسبقة تحسباً لحصولها. هذه الارقام تقلق المؤسسات الدولية تماماً كما تقلق المجتمع اللبناني نفسه، الذي يطلق صرخات التحذير من استضافته مليون سوري (بين نازحين وعمال) على اراضيه فكيف اذا «بدأت معركة دمشق؟». لا شيء يلوح في الأفق بأن نهاية الجلجلة السورية قريبة، واعتراف لبنان المتأخر بأن النزوح الى ارضه ليس «سياحة» وانما مأساة، يجري تدارك مفاعيله بشكل مربك وببعض الانكار، من خلال ترك المهمة الى المجتمع المدني المتنوع الانتماءات ... والمحسوبيات من دون مراقبة او محاسبة، وصولاً الى فوضى معالجة ما انتجه هذا الاهمال من تداعيات صحية واجتماعية واقتصادية وامنية، والاكتفاء بمهمة «الصراخ» طلباً للنجدة الدولية. في السجون اللبنانية ارقام لا سابق لها لآلاف الموقوفين السوريين بتهم السرقة والاعتداء والقتل، وفي شوارع بيروت وبقية المناطق آلاف اخرى من السوريين الذين يتعرضون بدورهم للسرقة والاضطهاد في اماكن «السخرة» التي يعملون فيها. وفي الشوارع ذاتها الآلاف من اللبنانيين الذين باتوا عاطلين من العمل «لأن العامل السوري اخذ مكانهم بأبخس أجر»، لكن، في المقابل هناك آلاف المتاجر والدكاكين والاسواق والشقق المفروشة والفنادق التي «تحيا» بفضل «بونات» النازحين الفقراء او من حركة الميسوريين منهم في لبنان. والى كل هذه التناقضات يضاف العنصر الأخطر وهو المحاذير المذهبية. فالنازح السوري من الطائفة السنّية يلجأ الى المناطق ذات الاكثرية السنّية، لأنه يعتقد ان المناطق ذات الاكثرية الشيعية ليست «بيئة حاضنة»، خصوصاً اذا كان النازح موالياً للمعارضة السورية، لكن الامر لا يلغي وجود استثناءات. و «البيئة الحاضنة» بدورها تتماهى مع الكراهية التي يكنّها النازح «للمعتدي عليه» وتكاد تتحفظ مثله عن البيئة «غير الحاضنة» في لبنان. يقول عادل (17 سنة) من ابناء حلب الذي نزح مع اهله الى بيروت وتحديداً الى محلة برج ابي حيدر بعد نزوح على مراحل داخل سورية هرباً من القصف الذي لاحقهم، انه والعائلة «سكنوا في بناية مختلطة مذهبياً في المحلة المذكورة ويدفعون 600 دولار بدل ايجار وانضمت اليهم اخيراً عائلة عمه، وحصلت خلافات مع الجيران على خلفية «اننا نحدث ضجيجاً لكن الشكوى فقط من طابق واحد وساكنيه من الشيعة». ويشير عادل الى ان اهله قرروا السفر الى مصر «فهناك الحياة ارخص ومرحب بنا اكثر». عمالة تفوق الطلب وبطالة لبنانية ولا تخلو التقارير الامنية اليومية في لبنان من حوادث تهديد لعمال سوريين وسلبهم أوراقهم الثبوتية ومبالغ نقدية يحملونها في جبل لبنان وجنوبه والبقاع وطرابلس ومن تقارير عن خلافات بين العمال انفسهم بسبب انقسامهم بين مؤيد ومعارض لما يجري في سورية. يعلم «مراد الحلبي» وهذا ليس اسمه الحقيقي وانما «الفني» انه غير مرحب به بين سائقي السيارات العمومية في لبنان لأنه يتعدى على مصلحة للبنانيين لكنه يسأل: «هل أسرق؟ انا مستعد للعمل في كل شيء حتى انني يمكن ان اغني من اجل ان اسدد ايجار شقة في صيدا، فكل مدخراتي تلاشت وبت استدين من اخي الموجود في سورية، هل تريدين سماع صوتي؟». يغلق مراد زجاج نوافذ سيارة «المرسيدس» التي استأجرها من صاحبها الصيداوي للعمل عليها بموافقته وتشجيعه، ويطلق العنان لصوت عذب وقوي مردداً «ابعتلي جواب وطمني». قال ان احد اصحاب المطاعم في صيدا وافق على تشغيله مطرباً وسيعطيه 100 دولار شهرياً شرط ان يؤمن عازف غيتار معه. هكذا تتدنى أجور العمال السوريين في لبنان «بسبب كثرة العرض وقلة الطلب» كما قال صبحي الآتي من دير الزور منذ بدأت الحوادث في هذه المنطقة السورية الحدودية مع العراق. هو لم يقصد العراق «لأن الوضع كما تعرفين صعب هناك ولا توجد فرص عمل، وثمة اقارب كثر لي في لبنان، على رغم بعد المسافة والتي تضاعفت ساعات طويلة للوصول (18 ساعة) بسبب الحواجز على الطريق الى دمشق ومنها الى الحدود اللبنانية، انضممت اليهم من دون عائلتي التي غادرت الدير الى الريف الاكثر أماناً بعد سيطرة «الجيش الحر» عليه. وصبحي الذي يعمل ناطوراً في بناية يعتبر نفسه محظوظاً على عكس عشرات الشبان والرجال من «الدير» ايضاً الذين «يتكدسون» تحت جسر فؤاد شهاب املاً بأي عمل يقومون به. ويقول احمد انه يتقن كل شيء: «اعمل بالطرش والتبليط وتشييد الابنية كما اعمل عتالاً... اي شيء حتى اتمكن من العيش مع عائلتي التي لجأت الى الارياف حيث كل شيء في سورية ارتفع ثمنه حتى الخبز، ولا توجد اشغال، كنت اعمل في بلدي على سيارة اجرة لكن الوضع اصبح صعباً». تجمعات النازحين تشبه تجمعات العمال السوريين، فالآتون من الارياف يحملون معهم عاداتهم القبلية والعشائرية، لجهة العيش كتكتلات بحسب الانتماءات المناطقية، والنزوح على سبيل المثال، ليس عائقاً امام انجاب المزيد من الاطفال حتى ولو كانت الحياة داخل خيمة، وتعدد الزوجات والزواج من قاصرات، فنحن نقيس قوتنا العائلية بعددنا»، كما تقول «ام محمد» (36 سنة) التي لديها تسعة اولاد انجبت آخرهم في لبنان قبل شهرين وتعيش وعائلتها في احدى الغرف التي استأجرها زوجها في محلة صبرا اكثر المناطق الشعبية فقراً والتي كانت يوماً مخيماً للاجئيين الفلسطينيين في بيروت، وتحولت بفعل النزوح الى سوق كبير للنازحين السوريين يشترون ويبيعون فيها بضائع معلقة على الاشجار ومعروضة على صناديق الخشب على شاكلة بسطات تكاثرت كالفطر. ينظر «عارف» الفلسطيني من امام محله لبيع الخرضوات الى السوق الممتد بشكل عشوائي في صبرا متحسراً: «كانت يوميتنا 20 دولاراً لكن اليوم لا نطّلع العشرة آلاف ليرة بفضل مزاحمة السوريين لنا». «انتظروا دوركم» «ام نور» النازحة من ريف حماة وتحديداً من سهل الغاب منذ اربعة اشهر مع عائلتها وزوجها المقعد الى محيط المدينة الرياضية على تخوم ضاحية بيروت الجنوبية، تشكو كغيرها من النازحين من عدم حصولها على اي معونة بعد على رغم انها مسجلة لدى المفوضية العليا للاجئين، تقول انها عندما راجعتها اخيراً قيل لها «عندما يأتي دوركم نتصل بكم»، ولا تزال تنتظر. «غادة» الناشطة اللبنانية التي تعمل مع منظمات دولية تعنى بقضايا النازحين في البقاع، قالت ان المساعدة الشهرية التي كانت توفرها المفوضية العليا للاجئين خُفضت من 46 الف ليرة الى 40 الفاً و500 ليرة، وتوقفت معونة المازوت بعدما انقضى فصل الشتاء، وهناك 400 عائلة فقط من اصل مليوني نازح في شتى البلدان تتلقى بدلات ايجار مسكن وضمن شروط فهذا البدل مخصص للنساء المعيلات او الارامل او حالات الاعاقة او للذين تجاوزت اعمارهم ال60 سنة. لكن «عادلة» التي تعمل مع احدى الجمعيات الاهلية في مجال مساعدة النازحين تصر على ان «وضع النازح احسن منا اللبنانيين، فطبابتهم مجانية (تغطية 85 في المئة من كلفة الاستشفاء واعلن عن خفضها مجدداً الى نسبة 75 في المئة) وتعليم اطفالهم مجاني ايضاً ويحصلون على نصف بدل الايجار وعلى مساعدة شهرية، ماذا يريدون احسن من ذلك؟». في المقابل تصر «ام عبدو» الآتية من ريف حمص، على انها لم تطعم اولادها اللحم منذ اسابيع، فهي تطبخ الرز والمعكرونة وترفقها باللبن، وعدا ذلك ترف غير متوافر، واولادها خارج المدرسة وزوجها انضم الى العاطلين من العمل عند موقف الكولا بانتظار اي شغل يمكن ان يقوم به والذي يتوافر يوماً وينقطع اياماً اخرى. تقول: «زوجي كان يعمل في مطبعة وكان يملك محلاً اُحرق، والعودة الى الضيعة التي أتينا منها مستحيلة الآن لانها تحت سلطة الجيش النظامي لكنها محاصرة من «الجيش الحر» وتخضع لمعادلة «لا تدمروا الضيعة لا نقصفكم». الخوف من النظام يرافق النازح السوري حتى خارج الحدود السورية. قال احدهم: «حتى في بلدكم للجدران آذان تسمع». ويتعدى «بلدنا» الى المنظمات الدولية، فالنازحون يتحفظون عن تسجيل انفسهم لدى مفوضية اللاجئيين خوفاً من وصول اللوائح الى النظام. فلا غطاء يحمي الان السوري في لبنان. والخوف يمنعهم من ايصال صوتهم الى السلطات الرسمية. محمود النازح من ادلب مع ابناء عمه عملوا على ترميم احدى الشقق السكنية في بيروت بعدما اتفقوا مع صاحبها على بدل اتعابهم، الا ان المالك تراجع عن الاتفاق وهدد العمال باعادة نصف المبلغ الذي تقاضوه ولم يكتف بذلك بل استعان بشبان ينتمون الى احد الاحزاب هددوا محمود في شكل مباشر بانه «لن يكلفهم اكثر من رصاصة اذا لم يعيد وابناء عمه نصف المبلغ الذي تقاضوه علماً ان المبلغ لم يتجاوز بمجمله 300 دولار. يقر عبد الساتر وهو شاب لبناني يعمل في المجال الفندقي بالمنافسة السورية غير المتكافئة للعمالة اللبنانية والتي كانت سبباً في الاستغناء عن خدماته اخيراً من المطعم الذي يعمل فيه لمصلحة عامل سوري «لا يسدد ضرائب للدولة ولا يستوجب تسجيله لدى الضمان الاجتماعي». والسهولة في توفير عمالة بأسعار زهيدة تنطبق ايضاً على فتح اعمال في لبنان. ولا تعني فقط اقامة بسطة هنا او هناك انما تعني نقل اعمال بكاملها، كما هو حاصل في بيروت ومناطق بقاعية. في الطريق الجديدة وشوارع متشعبة من شارع الحمرا في بيروت ترتفع آرمات مطاعم سورية مشهورة حتى للبنانيين الذين كانوا يقصدون دمشق. مطعم الفاروق، مطعم حبة مسك و «حبوباتي» وغيرها من محلات لبيع حلويات الشام وحتى الاقمشة والقطنيات. وأصحاب هذه الاعمال اما انهم اغلقوا اعمالهم في سورية لتعذر وصول العمال اليها من مناطق سكنهم او لوقوع هذه الاعمال في مناطق غير آمنة. ويكتفي احد رجال الاعمال الذي رفض ذكر اسمه حرصاً على مصالحه في سورية وارزاقه ولانه مقتنع بان النظام لا يزال قوياً بالقول ان فتح عمل في لبنان سهل جداً والعمالة السورية متوافرة بدورها وهي عمالة معتمدة حتى في الاعمال اللبنانية. ويشير الى ان عدداً لا بأس به من رجال الاعمال السوريين نقلوا مصالحهم الى مصر ولا سيما الاعمال المتعلقة بالنسيج وصناعة الصابون لتدني التكاليف هناك، ونحن حاولنا الانتقال الى مصر قبل ان نفتح عملنا في بيروت لكن لبيروت نكهة اخرى لا تضاهيها الا الحياة في سورية. رجل الاعمال نفسه يمنع الحديث في السياسة داخل مطعمه مثلما يمنع المحطات الاخبارية «فلا نريد وجع راس، وبالنهاية هذه بلدنا ويكفينا شمططة».