هل بدأ العد العكسي لنهاية السينما المصرية؟ هذا هو السؤال الذي يشغل الناس جميعاً في القاهرة اليوم. صحيح ان هناك افلاماً تُصور، وأخرى انتهى تصويرها، وصحيح ان ثمة عشرات المشاريع الجاهزة التي يأمل اصحابها في ان تتحول الى اعمال منجزة، خلال اسابيع او شهور او سنوات حتى. ولكن في الوقت نفسه، هناك كثير من القلق. والنجاحات الكثيرة التي كانت من نصيب ما عرض من افلام مصرية خلال العام الجاري، ليست قادرة على تبديد هذا القلق. اما تأجيل، المنتج الرئىس في مصر اي "الشركة العربية" لعدد من المشاريع، ولو لأسباب تقنية بحتة، فإن ليس من شأنه الا زيادة حدة هذا القلق. ومع هذا ها هو المنتج ممدوح الليثي، المسؤول عن هيئة جديدة، رسمية ومرتبطة بقطاع الانتاج في التلفزة، يعلن ان فترة ما بعد عيد الفطر المقبل، ستشهد بداية تصوير عشرة افلام دفعة واحدة، اضافة الى ان الهيئة المذكورة وافقت - من حيث المبدأ - على 26 سيناريو قدمت اليها. من الناحية النظرية يعني هذا ان ثمة نهضة جديدة تنتظر السينما المصرية خلال المرحلة المقبلة. ولكن ماذا من الناحية العملية؟ هل يمكن لمثل هذا "المصل" ان يقي السينما الاكبر في الشرق الاوسط، والسينما العربية الأم من خطر الانهيار؟ المنتج غابي خوري، المسؤول في العالمية للسينما شركة يوسف شاهين يقول انه لم يعد قادراً على التفاؤل والسبب في رأيه هو انسداد الاسواق العربية في وجه الفيلم المصري "حتى لو تمكن اي فيلم مصري من تحقيق نجاح جدي داخل مصر، فإنه يظل في حاجة الى الاسواق العربية. وهذه الاسواق لم تعد مربحة. الفيلم المصري الذي يعرض في اي بلد عربي، بالكاد يغطي كلفة ثمن النسخة والشحن والدعاية" وخوري يعزو هذا، الى بدء غياب تقاليد حضور السينما بالنسبة الى الجمهور الحقيقي. "الجمهور الحالي، هو جهور شاب يقبل على الافلام الهزلية او افلام العنف، ومن الصعب اقناعه بمشاهدة افلام اكثر جدية"، يقول الناقد سمير فريد، الذي يبدي خشيته من "ان تتحول السينما التي تريد ان تقول شيئاً الى مجرد اعمال تصنع للمهرجانات ولحلقات الهواة الضيقة". "السينما تعيش ازمة حقيقية، ازمة وجود هذه المرة"، يقول سمير فريد، مشيراً الى "حال السينما العربية كما تمثلت في مهرجان القاهرة السينمائي، في شكل عام، والى حال السينما المصرية في شكل خاص". اين رواد الواقعية؟ والحقيقة ان هذه الحال بدت في المهرجان على غير ما يرام. صحيح ان الفيلم المصري الوحيد الذي عرض في المسابقة الرسمية، وهو "مذكرات مراهقة" لايناس الدغيدي، قد يكون له معجبوه، ولكنه بالتأكيد ليس من نوع الافلام التي يمكن ان تعرض في مهرجان يريد لنفسه ان يكون مكان تنافس بين سينمات جادة آتية من انحاء العالم. وصحيح ان المهرجان نفسه، قدم - خارج اطار المسابقة - افلاماً عدة من انتاج العامين الاخيرين، بوصفها تمثيلاً على "التيارات المختلفة" التي تتنازع اليوم الانتاج المصري، ولكن افلم يكن في هذه العروض نفسها، مصدر قلق، حين يلاحظ المرء ان الطابع التجاري يغلب عليها كلياً، وان بعض المخرجين الكبار الذين برزوا في الثمانينات نقول هذا ونفكر بمحمد خان مثلاً لم يعودوا قادرين على تقديم افضل ما لديهم. ولئن كان محمد خان قد انتظر ما لا يقل عن 5 سنوات من قبل ان يتاح له ان يحقق "ايام السادات" الذي تصعب مقارنته، فنياً ومن ناحية الموضوع، بروائع وقعها خان مثل "سوبر ماركت" و"أحلام هند وكاميليا" ما الذي يبقى من مسار رائد الواقعية الجديدة؟ وكم عليه ان ينتظر بعد الآن، حتى يحقق رائعة مقبلة؟ من يوسف شاهين الى محمد خان، ومن داود عبدالسيد الى يسري نصرالله، من الصعب اليوم ان تقول ان كبار المخرجين المصريين، لا يزالون صامدين عند المواقع الجيدة التي كانوا وصلوها في اعمال سابقة لهم. وحتى ايناس الدغيدي التي انفردت بتمثيل مصر في المهرجان، هل تراها وصلت الى "مذكرات مراهقة" الى مستويات كانت بلغتها في "امرأة واحدة لا تكفي" و"دانتيلا"؟ ومع هذا، من ناحية الارقام، يمكن ملاحظة ان "مذكرات مراهقة" كلف وحده ما يساوي كلفة اربعة افلام سابقة لايناس نفسها، من دون ان يعني ذلك ان مردود الفيلم قادر على موازاة مردودات تلك الافلام، في الاسواق العربية ولكن في السوق المصرية وحدها. ولئن كان مجدي احمد علي يؤكد، بكل سرور ان فيلمه الثالث، الجديد، "اسرار البنات" قد حقق من النجاح في عروضه المصرية ما جعله يصمد 15 اسبوعاً، فإنه يقول لك وبكل بساطة ان هذا الفيلم نفسه، لم تبع اية نسخة منه بعد، الى اي بلد عربي، على رغم كل المقالات النقدية التي كتبت عنه، والاعجاب العام به او فوزه بالجوائز في مهرجانات، وطلبه المتواصل كي يعرض في مهرجانات أخرى. في المقابل، يلحظ منتج صديق كيف ان الاسواق العربية تبدو مفتوحة الابواب على مصاريعها في وجه افلام مثل "جاءنا البيان التالي" و"عبود على الحدود" و"افريكانو" و"همام في امستردام". "انا ليس لدي شيء ضد هذا النوع من الافلام" يقول المنتج مستطرداً "ولكن كان يمكن لها ان تكون مهمة في مجال احياء الاهتمام العام بالسينما. لكن الذي حدث هو انها نجحت من دون ان ينسحب ذلك النجاح، على السينما المصرية ككل. فالطلب اليوم ينصب فقط على افلام من هذا النوع، اقل ما يقال عنها انها لا تبدو قادرة على احياء فن السينما نفسه، واعادة الجمهور الحقيقي الى الصالات". ثم، يكمل المنتج ملاحظاً، "علينا ان ننظر، حتى هنا، الى الارقام لنجد ان النجاحات التجارية لهذه الافلام، باتت جزءاً من الماضي. وبات بعيداً اليوم الذي كان يمكن فيه الحديث عن عشرات الملايين من الدولارات كمداخيل. لقد تكاثرت افلام هذا النوع، من دون ان يتضاعف عدد جمهورها، ما يعني ان قطعة الكاتو باتت تقسم على كثيرين". لا شكل ولا اداء "الضحية الاولى لهذا كله" يقول الناقد كمال رمزي، "هم الممثلون الكبار، والنجوم منهم في شكل خاص. لقد أدت هذه الافلام الى خلق نمط جديد من النجومية، لا يعتمد لا على الشكل ولا على قوة الاداء". واذا تذكرنا ان نظام النجوم كان هو ما يؤمن لمعظم الافلام المصرية نجاحها في الماضي، عبر لعبة تماهٍ بين النجوم وجمهورهم، يصعب العثور عليها اليوم، يمكننا ان نفهم جزءاً من الازمة التي تعيشها السينما المصرية. صحيح ان هذا الامر مكن مخرجين مثل يسري نصرالله ومجدي احمد علي، من استخدام ممثلين جدد، مستغنين عن النجوم الكبار ونجحوا في ذلك حقاً. ولكن أوليس من الصعب تصور تحول هذا النظام الجديد نفسه الى قاعدة؟ وأوليس من المنطقي القول ان هذا التحول في مفهوم الممثل واستخدام النجم، هو الذي يجعل الأفلام المصرية بعيدة من تحقيق نجاح ما لدى جمهور عربي عريض، ربما كان من أول ما يجذبه الى الأفلام المصرية نجومها؟ بالنسبة الى غابي خوري لا بد من استعادة الأسواق العربية. صحيح ان الانفتاح الانتاجي على بعض الدول الغربية وفي مقدمها فرنسا قد أتاح انتاج بعض الأفلام المتميزة خلال العقدين الأخيرين "غير ان هذا لا يكفي لبعث الروح في سينما تعيش أزمة عضوية، كالأزمة التي تعيشها السينما المصرية"، يقول خوري، الذي ينصح محدثه بألا ينخدع بكل ما يقال عن الشركات الكبيرة التي تعلن عن عشرات المشاريع، ويذكر بتجربة شركة "نهضة مصر" وشركة "شعاع" التي اجهضت، او تراجعت. نعرف طبعاً ان غابي خوري كان من اكثر المنتجين المصريين تعاملاً مع الانتاجات المشتركة مع فرنسا، كما انه سبق ان وضع خبرته في تصرف الشركات الضخمة، التي انطلقت قبل سنوات واعدة صاخبة. لكنه يقول ان هذا كله سرعان ما خبا؟ ومن جديد يؤكد خوري ان المطلوب هو استعادة الأسواق العربية، لأنها وحدها القادرة على اعادة الروح الى السينما المصرية. استعادة ما... ولكن كيف يمكن استعادة هذه الأسواق؟ يجيب ناقد صديق: "في اعتقادي ان علينا انتظار موجة الأفلام التي سوف تعرض خلال مرحلة ما بعد رمضان، حتى نصل الى الجواب. وكذلك علينا انتظار عرض "أيام السادات" و"أسرار البنات" ونتائج عروض "سكوت حنصوّر" في البلدان العربية، اضافة الى ما سيسفر عنه عرض فيلم عادل إمام الجديد، في مصر ولكن خاصة خارج مصر. اذ، هنا سيكمن الامتحان الحقيقي". بالنسبة الى هذا الناقد هنا تكمن السينما في نوعيها الأساسيين: الجدي والترفيهي الحقيقي الذي ينطلق من حضور النجم ومكانته في قلوب المتفرجين "أما ما عدا هذا فمجرد فقاعات تجارية قد تكسب في البداية لكنها خاسرة للسينما على المدى البعيد". في انتظار ذلك، من الصعب اليوم العثور على فيلم يصور ويقوم ببطولته نجم أو ممثل كبير: هؤلاء، وربما لأسباب ظرفية تتعلق بالأعمال التي تحضر لشهر رمضان المبارك، منصرفون الى الوقوف امام كاميرات التلفزة. فمن ليلى علوي الى دلال عبدالعزيز، ومن حسين فهمي الى محمود ياسين، الكل منشغل بالمسلسلات الرمضانية. ولكن الكل، في الوقت نفسه، عينه على مشاريع ترسم وتصمم لأفلام يفترض ان تحقق بعد رمضان. ومن المؤكد، منذ الآن، ان جزءاً من هذه المشاريع سوف يتحقق، ولكن من المؤكد أيضاً، ان النصف الثاني لن يرى النور أبداً. ف"خوض انتاج فيلم سينمائي صار الآن اشبه بمغامرة غير محمودة النتائج"، يقول محمود حميدة، الذي يغيب للعام الثالث على التوالي عن الشاشة السينمائية، ويغيب كلياً عن التلفزيون لأنه لا يستسيغ العمل للتلفزة. ومع هذا، كان "جنة الشياطين" الذي انتجه حميدة بنفسه، واحداً من أهم الأفلام المصرية التي حققت في الآونة الأخيرة. ولكن ما العمل اذا كان الجمهور لا يقبل على أي عمل يريد ان يقول له شيئاً؟ بعد "جنة الشياطين"، قام حميدة ببطولة فيلم "بحب السيما" من اخراج اسامة فوزي، الى جانب ليلى علوي ولكن ها هو عام كامل يمر، من دون ان ينجز الفيلم. وإذا انجز "ما الذي يضمن ان عرضه سيكون ناجحاً؟". هذا السؤال تطرحه ليلى علوي، التي تعيش حنيناً جارفاً الى السينما، وحزناً لغيابها عن الشاشة الكبيرة، منذ سنوات. ومع هذا فإن ليلى علوي مرشحة لأن تكون نجمة رمضان، وذلك من خلال قيامها بواحد من الأدوار الرئيسية في مسلسل "حديث الصباح والمساء" المأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ، من اخراج أحمد صقر. تقول ليلى: "انا سعيدة بالعمل في هذا المسلسل، لكنني سوف أكون سعيدة أكثر، لو وقفت قريباً أمام كاميرا السينما، فالسينما هي عشقي الأول والأخير ولست اتصور لي مصيراً حقيقياً خارج الشاشة الكبيرة". وهذا هو نفسه ما تقوله يسرا، التي بعدما تربعت على عرش التلفزة في رمضان السابق بمسلسل "أوان الورد"، ها هي اليوم تعود الى المسرح، بعد غياب، في مسرحية "لما ينام بابا". ولكن أين السينما يا يسرا؟ تبتسم يسرا وتقول: "السينما مؤجلة بالنسبة اليّ. ومع هذا لديّ عروض كثيرة". وهذا صحيح. فنحن لم نشاهد مخرجاً يحمل مشروعاً في القاهرة، الا وذكر اسم يسرا مرشحة لبطولة فيلمه. ومع هذا، اذا كان للموقف من سيد فالتأجيل هو سيد الموقف. ففي الوضع الراهن، من الواضح ان الترقب هو الحل الوحيد، بالنسبة الى سينما كانت تنتج نحو 75 فيلماً في العام، وها هي اليوم لا تنتج ثلث ذلك الرقم. والغريب ان هذا التقلص يأتي في وقت انجزت فيه السينما المصرية ولوج العالمية التي كانت تحلم بها طويلاً، وفي وقت تعرف فيه مصر نفسها ازدهاراً اقتصادياً لا سابق له في تاريخها، ويصبح فيه النجوم وأهل السينما، اكثر من اي وقت مضى، معالم قومية. وربما أيضاً سلطة حقيقية.