لا يخفي عدد كبير من السينمائيين الجادين في مصر ان ايديهم الآن باتت على قلوبهم، وانهم - وربما للمرة الأولى بشكل جدي - باتوا خائفين على مستقبل السينما في مصر. هذا الخوف موجود، طبعاً، بشكل دائم لكنه هذه المرة، وخلال الأسبوعين الاخيرين بشكل اكثر تحديداً، بدأ يتخذ ابعاداً مرعبة. صحيح ان في امكان رضوان الكاشف ان يتهم الشركة الموزعة لفيلمه "عرق البلح" باهمال الدعاية لهذا الفيلم ما تسبب في سحبه من الصالات بعد بدء عرضه بأسبوع واحد بسبب استنكاف الجمهور عن مشاهدته، وفي امكان محمد فاضل ان يتذرع بألف سبب وسبب لكي يسحب من العرض، بعد يومه الأول، فيلمه الجديد عن حياة السيدة ام كلثوم، لكن الحقيقة تبقى ماثلة: لو أقبل الجمهور على الفيلم كما كان اصحابه يتوقعون، لما كان سحبه من العرض ضرورياً او ممكناً. كلا الفيلمين ومصيرهما تقول لنا ان السينما في أزمة؟ ربما. ولكن في الوقت نفسه حجزت عشرات الصالات في القاهرة والمدن المصرية الرئيسية الأخرى لعرض "تحفة" محمد هنيدي الجديدة المعنونة - لا فض فوه - "همام في امستردام"، ويتواصل نجاح ما تبقى من افلام حققت من بطولة "الكوميديين الجدد". وهذا الواقع قد يكون من شأنه ان ينفي فكرة "السينما في أزمة"، ليضعنا في مواجهة الحقيقة المرة، والتي هي اكثر بساطة وأكثر تعقيداً في الوقت نفسه: الحقيقة التي تقول ان الازمة هي فقط ازمة السينما التي تريد ان تقول شيئاً. السينما الاخرى التي لا تريد ان تقول اي شيء، ليست في ازمة. ينطبق هذا الكلام على السينما المصرية، كما ينطبق على السينما الاميركية: "حرب النجوم" الجديد يخطف مئات ملايين الدولارات، ينافسه في ذلك "اوستن بوير" - نسخة راقية من هنيدي وأفلامه، في أحسن أحواله - وفي المقابل يشكو اصحاب "صيف سام" المخرج سبايك لي، بين آخرين من ضعف الاقبال على الفيلم، رغم "الدعاية غير المقصودة" التي صاحبته. وفي فرنسا، يعتبر "عشاء الحمقى" انجح فيلم خلال عام كامل، تجارياً، وهو من اخوات "صعيدي..." و"اوستن بوير". اذن، ما يشكو منه ويخافه السينمائيون المصريون والعرب، هو نفسه ما يشكو منه السينمائيون في كل مكان. هناك سينما تموت موتاً معلناً ونشك في ان "موتها" نتيجة لمؤامرة تجعلنا نتحدث عن "وقائع قتل معلن"، وهناك في المقابل انتاج سينمائي يزدهر. وهذا كله على شاكلة ما يحدث لبقية الفنون والآداب في العالم كله. والسؤال هو: اذا كانت الرداءة المسيطرة هي الغالبة في هذه المجالات كافة، لماذا يتوقع السينمائون ان يُستثنوا من ذلك؟ لم يعد السؤال، اليوم، حول هل تموت هذه السينما او لا تموت. صار السؤال: ما هو البديل؟ فموت نوعية معينة من الفن، لا تعني موته النهائي، بل تعني موت اسلوب تقديمه، وموت السهولة التي بها كان يحقق. فالموت المعلن هو موت تصوّر ما للخروج بالسينما من مأزق النوعية. هذا التصور كان يملي على السينمائيين، الذين لديهم ما يقولونه، الف حيلة وحيلة، وألف حركة بهلوانية، تمكنهم من تحقيق افلامهم - احلامهم - هواجسهم. اليوم، امام الواقع الجديد، لم تعد تلك الحيل كلها مجدية. ولكن ليس من الممكن الاستسلام. ليس منطقياً الاذعان امام هذا الموت الجديد لاعلانه موتاً نهائياً. فالسينما ستتجاوز ازمتها. وستستمر. ولا نعني بهذا السينما المستمرة بالفعل والناجحة والمحققة لأصحابها ارباحاً بالملايين، نعني السينما الاخرى. ولا نعني بهذا ان احداً يمكنه الزعم بأنه يمتلك الوصفة السحرية التي تجعل سينما جيدة معينة، تخرج من رماد موتها. لكن هذا الخروج بديهي ومرسوم في الأفق. ويقينا ان السينمائيين، المبدعين بامتياز، سيكونون دائماً قادرين على ابتكار الحلول. ربما تكون الحلول في افلام اكثر تقشفاً من دون نجوم باهظي الكلفة، وربما تكون في الانتاجات المشتركة، وربما تكون في التعاطي بشكل اكثر ايجابية مع التلفزة، وقد تكون في الضغط من اجل دعم افضل وأكثر. وكل هذه الحلول يجب ان تأخذ في اعتبارها عدم امكانية الاعتماد على ذلك الممول الكبير والوحيد الذي كان وجوده دائما، صاحب الفضل في ان تعيش السينما حياتين او اكثر: الجمهور. فالجمهور اليوم في واد، والابداع بأنواعه وابعاده كلها في واد آخر. وفي اعتقادنا ان المشكلة تبدأ هنا وتنتهي هنا. حلها يكمن في الاعتراف بهذا الواقع... البديهي. ابراهيم العريس