كاد طوني حنا المغني الذي التزم طوال أعوام أداء الأغنية اللبنانيةالأصيلة، يلقى حتفه على سكة حديد في قرية بافلوفاك اليوغوسلافية، إذ راح يرقص ويدبك ويغني في وسط السكة الحديدية ليحثّ سائق القطار على التوقف معرِّضاً نفسه للموت، كي يفي بوعده للسكان الغجر بأنه سيوقف القطار الذي لا يتوقّف عادة في قريتهم النائية عن المدنيّة. هكذا هو طوني حنا ابن جبل حقيقي بأخلاقيته حيث "الوعد دين"، وفي شكله القروي وعباراته الغريبة التي لا تعثر عليها إلا في قاموس الضيعة، ثمّ بضحكته المجلجلة وصوته المدوّي وحديثه الذي يمزج فيه الجد بالهزل بالغناء والرقص. بعد غياب طال عن الساحة الفنية اللبنانية وفاقت أعوامه ال25، يعود حنا في إطار "مهرجانات بيبلوس الدولية" في 31 آب اغسطس الجاري وأو 2 أيلول سبتمبر الى لبنان، ليؤدي فولكلوريات لبنانية مع مجموعة من الأغنيات المختارة من ريبرتواره الخاص مثل "خطرنا على بالك"، و"حدي حدي"، "يا باله" و"لا تحلفيني بالشنن" و"خبي العصا" وسواها. ولأنه "أخوت" حسبما يصف نفسه باعتزاز ولأنّ "روحه غجرية" لا تحدّها سوى الحريّة المطلقة، فإنه سيطل مع فرقة "Yogoslavian Cripsy Brass Band" المؤلفة من غجر يوغوسلاف أصليين، استقدمهم المنتج ميشال الفتريادس صاحب الفكرة، ليرافقوا حنّا بآلاتهم النفخية، وأشكالهم الغجرية ويعزفوا الأغاني الفولكلوريّة اللبنانية عبر موسيقى يوغوسلافية أصيلة وبمرافقة صوت حنا الذي احتفظ بخصوصيته لتكون الحصيلة عملاً فنياً يدخل القلوب ويعبّر عن شبابية موسيقية متطورة ورائدة. إذ للمرة الأولى تلتقي الموسيقى اليوغوسلافية واللبنانية. ولأن طوني حنّا شخصية تتمتع بنضارة وطرافة لافتتين، ويثير بأسلوب حديثه الوهج واللون والغرابة فمن الصعب قولبة كلماته أو "ضبطها" حسب المقاييس السائدة لأنها تفقد نكهتها. من هنا هذا الحديث الذي أجريناه معه أثناء التمارين. يدفع الفضول الى السؤال عن تاريخ شاربيك اللذين ارتبطا بشخصيتك الفنية لأعوام. هل يعبران عن شخصية القبضاي أم المشاكس أم ماذا؟ - يضحك طوني حنا للسؤال طويلاص قبل أن يجيب "حدا بيخلق وشواربو معو؟ أنا شخصياً لا أذكر نفسي إلا مع شاربين والشوارب تراث تحتفظ به العائلة منذ أيام جدي، وخالي ثم والدي. ما الذي يجعل من طوني حنا مغنياً غير عادي هل هو شكله أم صوته أم شارباً أم لونه الغنائي؟ - لا أعتبر نفسي مميزاً عن سواي ولا حتى بإمكاناتي الصوتية. أنا أقلّ الجميع. لكنني لم أغنّ سوى اللون اللبناني ولن اتبنى سواه، الأغنية اللبنانية هي هويتي. تنبثق هويتنا الحقيقية من جبالنا الشامخة وقرانا المتناثرة ومن شوارب أجدادنا الذين كانوا يغنون وهم يمشون في الوديان. وهكذا كان استاذي الكبير وديع الصافي الذي تأثرت به ولا أزال. طال غيابك عن الساحة الفنية وأقمت في الولاياتالمتحدة الأميركية طويلاً، ماذا أنجزت هناك وهل كانت الحرب وراء هجرتك؟ - لقد أنشأت مكتباً فنياً هناك، وأصدرت أكثر من اسطوانة منها "مهايراتنا". عشت في ولاية ميشيغان، وأقمت حفلات عدة للجالية اللبنانية طيلة 20 عاماً. ومن أميركا انطلقت الى البرازيل وأوستراليا وبلدان أخرى. لم تكن الحرب هي الحافز الى هجرتي فقد سافرت قبلها الى لندن لكن الحرب جعلت العيش في لبنان أمراً مستحيلاً. هل صحيح أنك كنت تحيا في عزلة بعيداً عن العالم والأضواء؟ - ينفعل ويجيب: لا، هل تريدون تعقيدي؟ لن أذهب الى الدير ولن أكون رجل دين. ثم يتابع بجدية أكثر أحب الجلوس تحت شجرة التوت، وأهوى تربية الخيل والدجاج والأرانب وبقية الحيوانات الأليفة. تجذبني الطبيعة كثيراً والزراعة هوايتي، فأنا أفلح الأرض وأزرعها بالخضار والفاكهة. كيف قررت العودة عبر "مهرجانات بيبلوس الدولية"؟ - لم أقرّر، فقد زارني في مساء أحد الأيام شخص عرّفني بنفسه بأنه ميشال الفتريادس منتج وموسيقي. وكنت سمعت به عبر الحفلات التي نظمها للمطرب الكبير وديع الصافي والمغني الغجري الإسباني خوسيه فرنانديز. كانت زيارته من دون موعد وكان قد قرر أن تكون قصيرة لكنه لفتني. ويبدو أنه انسجم معي فطال حديثنا لساعات وعرض عليّ فكرته "المجنونة" واقتنعت بها. الواقع أنه كان يفتش عن شخص "أخوت" وطلعت أنا "الأخوت" الذي يفتش عنه، وأنا بدوري كنت متشوقاً للتعامل مع شخص صاحب أفكار مجنونة. هكذا التقينا واتفقنا. الجمهور سوف يتفاجأ بما سنقدّمه في جبيل... وأعتقد أنها المرة الأولى التي أنفّذ فيها عملاً قريباً للشباب الى هذا الحد. كيف تواصلت مع الموسيقيين الغجر، خصوصاً أنهم لا يتكلمون سوى لغتهم الأصلية؟ - لقد لعب الفتريادس دور "الترجمان"، وبقليل من الفرنسية والإيطالية والإسبانية والإنكليزية والإشارات حصل التواصل. ما الصعوبات الفنية التي واجهتموها معهم؟ - أهمية العمل أنه يترك مجالاً واسعاً للارتجال ولا شيء مكتوب. هؤلاء الغجر يعزفون الأغنيات كما يسمعونها ولا يقرأون النوطة. إن المقامات غريبة عن أذنهم وروح الأغنيات أيضاً. لكنهم ما لبثوا أن انسجموا معها أثناء التمارين. أنت تمثل الأغنية اللبنانيةالأصيلة، كيف ترى الى وضعها اليوم وهل سنشهد نهاية عصرها الذهبي الذي عرفناه في الخمسينات والستينات؟ - إن عصر الأغنية اللبنانية لن ينتهي البتة. لا ينتهي زمن الغزيّل والماني والعتابا والدلعونا، ومن ابتعد عن هذا التراث لوناً وكلمات فشل، لكن الاحتفاظ بالقديم على حاله غير جيد ويؤدي الى الملل. ومن المهم أن تتعرف الأجيال الجديدة على قديمها بروح العصر.