هل من الممكن تأدية أغنيات "أنغلو - ساكسونية" للبيتلز، ليونارد كوهين، "تيد زيبلن" وجاك بريل في توزيع شرقي وتبعاً لآلات "التخت الشرقي"؟ وإذا كان الأمر ممكناً فهل سيكون ناجحاً؟ وعلى رغم غرابة الفكرة، لم تتردد السوبرانو الأوسترالية والعالمية بيني بافلاكس Penny Pavlakis التي سيصدح صوتها في مهرجانات بيبلوس جبيل هذا الصيف، في خوض هذه المغامرة الفنية الفريدة حين عرضها عليها المنتج والموسيقي اللبناني ميشال الفتريادس، كاسراً قاعدة "طبيعية عبر دمج جسدين وروحين فنيين متضادين. وكان مهرجان بيبلوس شهد العام الفائت تجربة مماثلة بفرادتها عندما جمع الفتريادس بين المطرب وديع الصافي والمغنّي الغجري الإسباني خوسيه فرنانديز. وهذه السنة يدفعه ولع الابتكار الى لقاء خطين متوازيين عبر لعبة فنية حديثة لا تخلو من المخاطرة. تعتبر بافلاكس التي لا يتجاوز عمرها 33 عاماً أمضت 17 منها في الغناء، من أبرز أصوات السوبرانو عالمياً. وهي حازت على جوائز قيّمة تربو على السبع وغنت ومثلت على خشبات أهم دور الأوبرا العالمية في حفلات تتسع ل120 ألف شخص. وقد يكون أصلها اليوناني مدّها بالجرأة لأداء أغنيات في الريبرتوار العالمي في توزيع شرقي ومنحها قدرة التفاعل بإحساس مع الآلات الشرقية. تروي بافلاكس في لقاء مع "الحياة" تبلور هذه الفكرة، "كنت في جولة غنائية أوروبية حين اتصلت وكالتي بشركة الفتريادس للإنتاج لتسألها إن كان يهمها تنظيم حفلات لي في لبنان، فكان شرط ميشال الفتريادس أن أؤدي أغنيات من الريبرتوار العالمي تبعاً لتوزيع شرقي يقوم به، بعدما فكّرت بالأمر لأيام عدة قبلت المغامرة إذ أعلم أن اللبنانيين منفتحون على كل جديد، وأعتقد أنه سيكون لهذه التجربة صدى "عالمي". وعلى رغم أنها المرة الأولى التي تزور فيها بافلاكس لبنان أو تحتك بلبنانيين، إلا أنها قرأت عن مدينة بيبلوس جبيل في الأدب العالمي، وتدرك مدى أهمية حضارتها الضاربة في التاريخ، "إنها من أقدم المدن العالمية وأعرقها على الإطلاق" تقول، ومثل معظم الفنانين الأجانب شعرت بافلاكس بشيء من الخوف من المجيء الى لبنان نظراً الى سمعة الحرب التي لا تزال ملتصقة به: "لكنني لم أتردد في المجيء ربما بسبب شخصيتي التي تهوى التحديات". تتميز بافلاكس بمقدرة صوتية خارقة، وبخلقية فنية تظهر أثناء التمارين التي تجرى على هامش المهرجان. وهي صاحبة رأي موسيقي سديد وتتحلى بالصبر ولا تتأفف من الإعادات مهما تكرّرت. وعلى رغم اعترافها بأنها لا تستمع الى الأغنيات الشرقية، إلا أن من يستمع إليها يشعر بأنها تتمتع بحس موسيقي شرقي مرهف عبر أدائها الذي ينبثق من الأعماق الدفينة ويستولي على كيان السامع. وهذا ما تعتبره شرطاً رئيسياً لمغنّي الأوبرا الناجح. "يستخدم مغنّو الروك والبوب الأوتار الصوتية في الغناء، بينما يخرج صوت مغنّي الأوبرا من داخل الجسد. ولا يكفي الصوت وحده لنجاح مغني الأوبرا بل هو يحتاج الى الحضور والدراما والشعور والقدرة على تطويع صوته مع الأحاسيس المختلفة المنبثقة من الأنغام، وتكمن مهمته الأساسية في تفجير مشاعر السامع". وتضيف "تكتب الأوبرا بغية التأثير عاطفياً بمشاعر الناس". الواقع، عندما نستمع الى صوت بافلاكس، نلمس الى جانب التقنية العالية في أدائها، شعوراً باحتراقها من الداخل بغية إيصال رسالة معينة لمن يسمعونها خارجاً. هذا التفاعل الشعوري العميق يحتاج الى بنية جسدية قوية معينة يحرص مغنّو ومغنيات الأوبرا على تنميتها والحفاظ عليها أشد الحرص وتقول بافلاكس التي تتمتع بجسد ملآن، "إننا نعمل لأعوام طويلة على بناء عضلات الظهر من أعلاه الى أسفله ولاسيما عند منطقة الخصر، إن تقنية أداء الأوبرا تحتّم البنية الجسديّة الصّلبة التي تصدر الصوت المناسب الذي يسمعه في الأقل 5000 شخص. نحن نبني عضلاتنا على غرار أبطال الرياضة لأنّ جسدنا هو أداة عملنا الرئيسيّة. عندما يعجز الجسد عن التحمّل يتوقّف مغني الأوبرا عن الغناء. هكذا توقّفت ماريا كالاس عن الغناء حين خسرت وزناً وتلف جهازها العصبي، فحين تتلف الأعصاب يختفي الصوت". تحرص بافلاكس على صوتها، فلا تدخّن وتتكلم بهدوء وتتناول كميات كبيرة من المياه، "لأن كميات المياه والطاقة التي نخسرها على المسرح كبيرة جداً". وتضيف: "تشبه حياة مغنية الأوبرا حياة الراهبة فهي ليست حرّة في التصرف، وتحتاج دوماً الى صفاء ذهني". قد يُفاجأ بعضهم بفكرة دمج موسيقى شرقيّة مع غناء عربي، لكن مفاجأتهم الكبرى ستكون حين يستمعون في 10 و11 و12 آب اغسطس المقبل الى بافلاكس وهي تؤدي هذه الأغنيات وكأنها خلقت أساساً هكذا. وقد نجح ميشال الفتريادس في خلق موسيقى غنية بأحاسيس متضاربة تجمع بين الروح الصوفية والنفس الديني وبين مشاعر المتعة والنشوة الجميلة والأخّاذة التي تطوّق القلب متسلّلة الى أرق المشاعر المختبئة في ثنايا الأعماق.