لئن استعاد محمد شكري في كتابه الشهير "الخبز الحافي" معالم طفولته ومراهقته الشقيّتين والمدمّرتين في مدينة طنجة الاسطورية فهو في كتابه الجديد "وجوه" يتمثل نفسه والداً غير شرعيّ للطفل الذي كانه في ذلك الماضي القاتم والكئيب. والكتاب الجديد الذي ينتمي الى فن السيرة الذاتية هو الجزء الثالث من سيرته بعد جزء ثانٍ حمل عنوان "زمن الاخطاء" او "الشطار" وكان استرجع فيه الكاتب المغربي المرحلة المتوسطة من حياته الصاخبة آثاماً وشروراً وآلاماً وغربة... الا انّ "وجوه" هو اقلّ حدّة وحمأة، واحتداماً من الكتابين السابقين ليس لانه يتناول المرحلة الناضجة من سيرة الكاتب الذي ناهز على الستين من عمره بل لان محمد شكري نفسه يشرع خلال صفحاته في تأمّل ماضيه كي لا اقول في رثاء الماضي المزدوج: ماضيه الشخصي وماضي طنجة، المدينة العجائبية كما يسمّيها. وليس من المستهجن ان ينهي شكري سلسلة هذه "الوجوه" التي اختارها من ثنايا سيرته في نص وجداني يدمج بين التداعي والتأمل وينتحل ملامح "خطاب" الوداع او "خطبة" الوداع. لكنّ الكاتب الذي لم ينكر ماضيه القميء ولا حاضره المنحرف انما يودّع شخصه الآخر، ذاك الذي كانه في يوم ما بل في زمن ما، وقد ادرك كل الادراك ان طفولته هي "الغيمة الاكثر تلبداً" في حياته. ولعل الكاتب الذي لا يبالي "بما يسقط من اوراق شجرة خريفه"، كما يعبّر، يمعن في رثاء "قرية الطفولة" التي لم يبق لها وجود حتى في الذاكرة: "شاشة مشوشة تتشبّح عليها صورتي وصور الآخرين". الا ان الكاتب اذ يتأمّل في طفولته لا يأخذ الآن بما قاله وردز ورث وبات بمثابة المثل السائر، واقصد جملته: "الطفل هو ابو الرجل" بل هو يقلبها ربما ليضحي ذلك الرجل الذي يخلق الطفل على صورته. فهو يعترف جهاراً انه يكتب طفولته "من خلال رجولته ونضجه". ولعلّه سعى في خطبة "الوداع" او خطبة "الاعتراف" في المقطع الاخير الى ان يمحو الشرّ والاثم اللذين ملأا حياته، فالاعتراف يتيح امام الكاتب كاتب السيرة تحديداً ان يكفّر عن ذنوبه عبر فضح اسراره. ولكنّ الاعتراف يتيح ايضاً امام كاتب السيرة الذاتية ان يصالح، كما يشير الناقد الفرنسيّ فيليب لوجون، بين الرغبة في تكرار الخطأ واحترام المبادئ الاخلاقية. ولعل "الحكمة" التي كتبها محمد شكري بنفسه واستشهد بها كما، ان احداً سواه كتبها، تعبّر عن مبدأ التكفير الذي يأخذ به الآن اي في خريف العمر: "لم تكن لدينا مرآة في الدار، لانّ لا احد منّا كان يريد ان يرى وجهه فيها". اما الآن فلم يلجأ الكاتب "الملعون" كما يحبّ ان يسمّي نفسه الى المرآة ليرى وجهه القديم الطفولي ووجهه الحاضر العجوز بل الى "وجوه" اشخاص طالما احاطوا به ويحيطون في مرحلة متقدّمة من مراحل عمره. لا يعمد محمد شكري الى رسم وجوه او بورتريهات للاشخاص الواقعيين الهامشيين والمنحرفين والمشبوهين الذين حفلت بهم حياته الملعونة بغية "احيائهم" والقاء اضواء عليهم او جعلهم شخصيات سردية مقدار ما يهدف الى فضح حياته التي كانوا هم يشكلون جزءاً رئيساً منها. وفعل "الفضح" هنا يختلف عمّا كان في الكتاب الاوّل "الخبز الحافي". فالراوي الذي يسرد سيرته او الكاتب الذي يكتب سيرته، لم يبق ذلك "البطل" السلبيّ بامتياز، البطل المدمّر والماجن والسافل بل اضحى شخصاً شبه محايد او غير منحاز، فهو، كما يقول، لا يسعى الى تبرئة نفسه ولا الى ادانتها. بل يدرك ايضاً ان ما سوف يبقى منه هو"رمزه" وليس "حياته" وفق ما يعبّر. فهو لم يخسر الا مقدار ما ربح: خسر الحياة ولكن ربح الكتابة. والكتابة في نظره هي، كما القراءة، المنبع الذي لا ينضب في حياته. يرسم محمد شكري اذاً تلك "الوجوه" من اجل ان يضع خاتمة لحياته التي لم تكن الا حالاً من الخسارة الدائمة. فهو اذ يرسم "الوجوه" تلك فإنما يودّعها مودّعاً في الحين عينه ماضيه القريب بعدما ودّع ماضيه البعيد والمتوسّط في الجزءين السابقين من سيرته الذاتية. "اننا ما نصير اليه" يقول في ختام المقطع الوداعي الاخير. لكنّه يدرك انّ هذا المصير مصيرنا ليس "مصير الابطال" بل هو مصير من اختبروا الكتابة. "واختبار الكتابة لا يرحم احداً". لعلّ محمد شكري الذي يكتب الآن هو غير محمد شكري الذي كتب في الامس. النزق الذي كانت تختلج به نصوصه هدأ تماماً وكذلك النزعة الفضائحية والاثمية على رغم ان "اللعنة" ما برحت هي جوهر الكتابة او ذريعتها او جذوتها الداخلية التي لا تنطفئ. يشعر محمد شكري الآن انّ ضميره المتكلّم هو ضمير كاتب وليس ضمير شخص عابث وماجن يفضح نفسه وعالمه. لكنّه كاتب مصرّ على صفته ككاتب ملعون حاذياً حذو أو مقلداً بودلير ورامبو وجان جينه وبول بولز وسواهم ممّن قرأهم او عرفهم في المغرب وكتب عنهم. ولا يتوانى لحظة عن وصف نفسه ككاتب ملعون بين ملاعين لا يكتبون، بل يعيشون اللعنة مثلما عاشها هو قبل ان يجعلها مادّة ادبية. وهي "لعنة الكلمات والجسد" كما يقول، لعنة الحياة التي استحالت لعنة الكتابة بعدما جعل من تلك الحياة مادة الكتابة نفسها. فاذا هو الكاتب والمكتوب عنه ولكن عبر اللعنتين: الحياة، والكتابة. يقول محمد شكري مخاطباً احدى غانياته التي كان يكنّ لها "حباً غامضاً": "اللعنات موجودة في كلّ عمل. حتى تأليف الكتب لا يسلم من اللعنات والمنع والاعتداء... ربما تلقيت من الشتائم اكثر مما عانيت منه انت. لقد بصق عليّ بعضهم في الشارع، في الحانات... في كلّ مكان لانني كاتب ملعون". غير انّ لعنة محمد شكري ستظلّ لعنة شبه اجتماعية ترتبط بحضور الآخر سواء اكان فرداً ام جماعة ام مؤسسة، ولن تصبح لعنة ذاتية او قدرية او داخلية كاللعنات التي عاشها انطونان آرتو او بودلير او رامبو وسواهم... ولعلّ "الذاكرة المبدعة اللعينة" التي يمتدحها لن تتجلّى لديه كحال من احوال الاضطراب الميتافيزيقي والروحي والجسديّ مقدار ما ستكون حالاً من التمرّد والاحتجاج على الحياة داخل الحياة نفسها. لا تخلو "وجوه" محمد شكري او نصوصه من احساس مأسوي يتبدّى في النفس الرثائي الذي يتخلّل هذه النصوص. فالكاتب الذي يدرك انه اصبح في خريف العمر يستحضر تلك "الوجوه" ليودّعها وجهاً تلو آخر وليودّع عبرها مدينة طنجة التي بدأت تشيخ ولكن من غير جلال. حتى ليل طنجة "اصبح هرماً مترهلاً قبيحاً ووحشياً..." كما يعبّر الكاتب. وغدت اسطورة هذه المدينة اقوى من تاريخها لكنّها اسطورة "تغذّي الصمت الذي يلفّها في انتظار ما سيحدث". على انّ طنجة لن تعود كما كانت من قبل. ولعل خير ما يشهد على عدم عودتها هو اندثار تلك "الوجوه" وسقوطها في الخواء. "وجوه" شاخت او غابت او انتهت في العزلة او الجنون. "وجوه" طالما صنعت ذلك "العالم السفليّ" الذي عاش فيه محمد شكري وكتب عنه. عالم سفليّ ولكن على قدر كبير من الشيخوخة. عالم قائم على بقايا عالم مهدّد بما يشبه الدمار الكلّي: الحانات بقايا حانات والعاهرات بقايا عاهرات والاحياء بقايا احياء... اما السفلة او "ابناء الزانيات" كما يسمّيهم شكري فهم بدورهم باقيا سفلة... هكذا يكتب شكري عن "فاطي" الغانية الشقراء او "النديمة الجميلة" التي جاءت تبحث عن فردوس طنجة ولم تكتشف منه سوى ذاك "الوهم" الذي يصفه. غانية "مثقفة" تستشهد في حديثها مع بعض الروّاد الاميين ببعض الاشعار العربية بل قارئة نهمة حتى وان لم تكن تفهم كثيراً ما تقرأه. وحين يمعن شكري في سرد مأساة الغانية فاطي يعترف انه لم يستطع الا ان يكون صديقاً لها على رغم شوقه الجنسي اليها فهي نفسها رفضت ان تجعله عشيقاً عابراً كي لا تفقده. غير ان الكاتب لن يلبث ان يضاجع فاطي ولكن بعد قرابة خمسة عشر عاماً اي بعد عودتها خائبة من الغربة. كان العمر تقدّم به فيما ظلّ جسد فاطي نديّاً ساحراً. اما فاطي فكانت - كما يسرد شكري - تابت وهجرت حياة الغواني والحانات وتزوّجت... ولكنها حين عادت الى طنجة بدت تلك المرأة "العائدة" هكذا سمّاها الكاتب لا الى طنجة فحسب وانما الى ماضيها الآثم المفعم بالشراب، والجنس، كأن سنوات الزواج لم تكن طوال ما كانت ولا سيّما بعد وفاة زوجها الذي كان تاب بدوره عن حياة الفحشاء. كتب محمد شكري عن فاطي ثلاثة نصوص كان في امكانه جعلها نصّاً واحداً اذ لم يتّضح خياره في توزيع "وجهها" على نصوص ثلاثة بل بدا ذاك الاسلوب ضعيفاً ومشتتاً او مبعثراً وخصوصاً انّ "وجوهاً" اخرى فصلت بين "وجوه" فاطي او ازمنتها المختلفة. ولكن غدا واضحاً ان محمد شكري لم يكتب الجزء الثالث من سيرته دفعة واحدة ولم يعتمد كذلك في كتابته بنية واحدة ولم يسع الى كتابة سيرة في المعنى السرديّ او الروائي للسيرة الذاتية مثلما فعل في الجزء الاول "الخبز الحافي". فالكتابة هنا هي استعادة بعض "الوجوه" التي عبرت حياة الكاتب في مراحله الاخيرة. انها في معنى ما كتابة مبعثرة وغير منتظمة لا اسلوباً ولا سرداً ولا "احداثا"" ولا شخصيات. ولعل بعض الوقفات او الانقطاعات السردية التي ظهرت داخل تلك النصوص نمّت عن "لا مبالاة" في البناء وربما عن استهلال في الكتابة القائمة على التداعي. وبدا النص الذي حمل اسم "فيرونيك" اشبه بالتحقيق الصحافي الذي استهله كاتبه كنصّ ادبيّ ثم راح يضفي عليه طابع المقالة: فهو انتقل من شخصية فيرونيك الى شخصية استاذ العلوم الطبيعية ثمّ الى بعض الشخصيات المنحرفة... على ان المفاجئ انتقال الكاتب الى لندن وتحديداً الى سهرة في بيت الروائية حنان الشيخ في لندن وكان من ضيوفها اميل حبيبي والياس خوري وسواهما... ثم ينتقل الكاتب الى باريس ليقوم بجولة شبه سياحية على بعض المقابر التاريخية. وهنا يتفلّت النص من سياقه السردي ويغدو اقرب الى الرحلة الصحافية... ربما كان نصّ فيرونيك من اضعف نصوص السيرة على رغم طرافته وطرافة اجوائه. اما في النصوص الاخرى فتحضر "وجوه" غاية في الغرابة والفانتازيا. وقد يخامر القارئ شعور في ان الكاتب يبالغ في رسم ملامح تلك "الوجوه" بغية احداث الدهشة في مخيّلته او قصد خلق حال "اكزوتيكية" تثير القارئ الغربي. لكنّ ما يضمن صدق الكتابة هو جمعها بين الخلفية الواقعية والتخييل السرديّ. ولعلّ اطلال شخصيات حقيقية خلال تلك النصوص محمد زفزاف، محمد برادة... يؤكّد مدى واقعيتها كنصوص نابعة من حاضر طنجة او بقايا حاضرها. هكذا تبدو شخصية "الهادي" الذي عاد من حرب الهند الصينية مبتور اليدين شخصية سلبية وطريفة وخصوصاً عبر استسلامه للعبة الاستمناء التي كان يقوم بها ابنه وقد وجد فيها خاتمة لهاجس والده الجنسي واصراره على الزواج. وهكذا ايضاً تحضر في نصوص اخرى شخصيات منحرفة، منهكة، شاذّة وغير سويّة، شخصيات انهارت او هي على حافة الانهيار، شخصيات تحيا في العزلة او الجنون وتعاني تتدمر في ذلك العالم السفليّ، عالم المواخير والحانات او في عالمها الخاص والمغلق الذي يحاصرها بشدّة: ريكاردو الاسباني المسكون بهاجس الخوف، باباداي المهاجر العائد من حانة طنجة في بوردو الى حانة بوردو في طنجة، الغانية ماجدة او ماجدولينا التي تأنف من معاشرة المغاربة، حمادي القمّار اللوطي الذي يدمن على الميسر بحثاً عن لذّة مفقودة، احمد المنعزل والغامض وشقيقه خليل الذي لا يقل عنه غموضاً، منصف المولع بأخبار الموتى... وان ادّعى محمد شكري انه كتب في "وجوه" الجزء الثالث من سيرته الذاتية فهو كان اقرب الى السرد القصصيّ سواء في اختياره الشخصيات او تقديمها او رسم بورتريهات لها ام في فصله بين النص والآخر حتى بدت معظم النصوص منفصلة بعضها عن بعض على رغم الهاجس الذي يجمع بينها وهو هاجس كتابة السيرة. الا ان شكري لم يسع الى جعل تلك النصوص قصصاً قصيرة بل تركها نصوصاً حرّة فيها من القصّ والسرد ما فيها من التداعي والتأمل والشعر والانشاء. وسمح شكري لنفسه في احيان ان يمضي في فلسفة ما يحصل من حوله او في ايراد بعض الخواطر او تدوين بعض العبر. ولعل النص الاخير هو عبارة عن مجموعة خواطر متداخلة ومتواصلة عبر طغيان الضمير المتكلم الانا. وان لم يسأم محمد شكري عالم طنجة السفلي وحاناتها وشخصياتها الغريبة فهو هنا يلقي عليها نظرة وداع بعدما احسّ ان طنجة الاولى، طنجة الطفولة والماضي، باتت بقايا مدينة بل طيفاً هائماً في ليل الذاكرة. يسأل الكاتب نفسه: "من يستطيع ان يعيد مجد اللقاءات في الحانات التي خرّبها التتر؟ اهو ارذل العمر او هو بئس المصير؟". غير ان محمد شكري يملك جواباً واضحاً حملته نصوصه الجديدة بل "وجوهه" التي لم يرسمها الا ليرى فيها ماضيه والحاضر وربما بعضاً من الايام الآتية. * اصدر محمد شكري كتاب "وجوه" على نفقته الخاصة ومن دون ناشر.