اعتاد النقد ان يبدأ بعد التصنيف، أي تحديد النوع الأدبي الذي يندرج فيه النص لأن تحديد الهوية النوعية للنص يمكّن الناقد من معالجته نقدياً في ضوء معايير وقواعد النوع الذي ينتمي إليه. إذ أن تحليل النصوص الأدبية لم يعد ممارسة فوضوية وانطباعية لا تهتدي بشروط تنظّم العملية النقدية، انما على العكس، فمنذ فترة طويلة اشتق النقد له جملة من المعايير يقترب في ضوئها من النصوص ليفحص النظم الأسلوبية والبنائية والدلالية لها، وذلك جزء من التنظيم الداخلي الذي يقتضيه كل نقد يطرح نفسه بوصفه حواراً مع النص، واشتباكاً معه، ووسيلة لاستكشاف المستويات المضمرة فيه، ودلالاته في تضاعيفه. ولكن هل التصنيف النوعي للنصوص أمر يسير أم أنه بمواجهة نصوص تهجّّن نفسها من أنواع كثيرة قد أصبح مهمة عسيرة؟ أضع هذا السؤال أمامي وأمام القراء وأنا أحاول أن أقدم مناقشة نقدية - نظرية لنص غامض الهوية للروائي السوداني أمير تاج السر، وهو نص جديد وسمه مؤلفه بالعنوان الآتي: "مرايا ساحلية: سيرة مبكرة". وكما هو ظاهر من دلالة العنوانين الرئيس والشارح فإن أمير تاج السر يضع نصه في قلب الاشكالية التي أشرنا اليها، فهو من جهة أولى يعتبر نصه مرايا تنعكس فيها تجربة الطفولة المبكرة في احدى مدن الساحل الشرقي للسودان، وبهذا يكتب منطلقاً من الرؤية القائلة ان الأدب مرآة عاكسة للتجارب البشرية، وهذا موضوع خلافي عالجته نظرية الأدب، وشغلت به منذ أرسطو الى الآن. وهو من جهة ثانية يصرح ان النص يصف التكّون المبكر له، وهذا يقتضي ان يكون هو المحور المركزي فيه، بمعنى أن التسمية تشترط ان يكون المؤلف هو البؤرة التي تصدر عنها وتتجه اليها كل مكونات النص، وأقصد بمكونات النص هنا أمرين: عناصر البناء الفني من حدث وشخصية وخلفيات زمانية ومكانية، والمكونات السردية العامة من راو وأساليب سرد ومنظور ورؤية وموقف وطريقة تشكيل للعالم المتخيل في النص. والواقع فإن التدقيق في قضية مرآوية النص كما يريدها المؤلف، وقضية الهدف التوثيقي له باعتباره سيرة مبكرة سينتهي بنا الى نهاية مغايرة تماماً لكل الايحاءات التي يثيرها العنوان. ان القول بالوظيفة المرآوية للنصوص الأدبية نقض منذ أكثر من قرن، حينما اكتشف النقد عمق التباين بين العالمين: العالم الواقعي المعيش والعالم الخطابي المتخيل، مع انهما يوحيان بالتماثل الى درجة يبدوان فيها متماهيين ببعضهما لدى المتلقي العادي، الا أنهما شديدا الاختلاف في ما بينهما من ناحية المكونات والعناصر، فالعالم الخطابي محض تشكيل لغوي يتكون في مخيلة المتلقي بالقراءة ولا وجود له قبلها، بل أنه عالم خامد داخل الكتاب تقوم القراءة بتنشيطه وبعث الحياة فيه، فكيف يمكن اعتباره مناظراً للعالم الواقعي!؟. أما القول بأن النص سيرة مبكرة فيصطدم بعقبات أكثر، وفي مقدمتها المكون الحاسم وهو غياب شخصية المؤلف - الطفل إذ يعدنا النص بأنه سيرسم لنا سيرتها كما هو مدون على غلاف الكتاب، وحضور رؤيته فقط وهي تكشف ملامح منتقاة من الماضي. كيف لنا اذن ان نتخطى كل هذه المشكلات النظرية الخاصة بهوية هذا النص من دون أن نلحق به ضرراً يخفض من قيمته الابداعية؟ وقبل ذلك هل تحتاج القراءة النقدية الى إثارة كل هذه الأسئلة قبل أن تصل الى هدفها؟ أما السؤال الأول فجوابه انه لا بد من تجاوز ما قرره المؤلف من أن كتابه سيرة ذاتية مبكرة، وهنا ينبغي علينا أن نطرح تصورنا النقدي حول هوية النص كما نراه في ضوء جملة من المحددات والمعايير لنتمكن من خلالها استكناه أهميته وقيمته الأدبية. أما جواب السؤال الثاني فمؤداه ان القراءة النقدية تحتاج فعلاً الى إثارة الأسئلة، لأنها تراها جزءاً من استراتيجيتها في التعامل مع النصوص السردية. إذ لم يعد من المقبول تقديم قراءة ساذجة سطحية لنصوص تقوم بتشكيل تصوراتنا عن أنفسنا وعن العالم بوساطة التمثيل السردي الذي تقوم به، وليس عكسه كما يظن الكثيرون. في الحقيقة ليس ثمة مجال لقراءة بريئة ومحايدة ووصفية، فالقراءة التي نحتاجها ونحن نقترب الى النصوص الأدبية يلزمها أن تكون تحليلية وكشفية واستنطاقية تهدف الى إبراز القيم الجمالية، وتأويل المستويات الدلالية، واضفاء معنى على الاشارات التي توحي بها النصوص ولا تقررها. نص "مرايا ساحلية: سيرة مبكرة" يندرج ضمن نوع سردي ثانوي مهجّن من الرواية والسيرة الذاتية يصطلح عليه السيرة الروائية وهو نوع ثانوي ظهر حديثاً بعد ان استعار مكوناته الأساسية من فنين عريقين هما: الرواية والسيرة. وكنا أكدنا في بحث "السيرة الروائية: اشكالية النوع والتهجين السردي" ان السيرة الروائية تدمج بين الروائي والراوي، فهما متلازمان ومتداخلان بصورة دائمة ومستمرة، فالروائي يكون مصدراً لتخيلات الراوي، فالكيان الجسدي والنفسي والذهني يشرّح، ويعاد تركيبه لأن هذا النوع من الكتابة يوفر حرية غير مقيدة في تقليب التجربة الشخصية للروائي، وإعادة صوغ الوقائع واحتمالاتها وكل وجوهها دون الخوف من الوقوع في أسر الوصف البارد والمحايد والتوثيقي. فالسيرة الروائية انما هي سرد ذاتي مباشر، حتى ولو استعان الراوي بالصيغ الموضوعية. هنالك خرق مستمر للتجربة الحقيقية، اذ يمارس الأغواء السردي فعله دون مواربة في نوع من الكشف الداخلي الجريء والنادر. ان صيغ الوعظ والاستعلاء والنبذ والإقصاء لا تجد لها مستندات تمنحها الشرعية في مثل هذا النوع من الكتابة، فكل شيء يستمد شرعيته الفنية بمقدار اتصاله بالذات، وما يمر عبر منظورها، فيضفي على الأشياء الأخرى الأهمية اللازمة. ليس لأحد قيمة الا بمقدار ما يقرره السرد الذي يتمركز حول شخصية واحدة هي الروائي الذي يستأثر بالموقع المركزي في النص. يقتضي الحديث عن السيرة الروائية الاشارة الى أهمية التجربة الذاتية المستعادة عبر صوغ فني مخصوص يناسب متطلبات السرد والتخيل، ذلك ان المادة التي يفترض ان تكون حقيقة واصيلة، لا يمكن أن تحتفظ بذلك، فما أن تصبح موضوعاً للسرد الا ويعاد انتاجها طبقاً لشروط تختلف عن شروط تكونها قبل أن تندرج في سياق التشكيل الفني، وعليه لا يمكن الحديث عن مطابقة بين الوقائع التاريخية المتصلة بسيرة الشخصية الحقيقية والوقائع الفنية المتصلة بسيرة الشخصية المتخيلة الرئيسة في النص. هنالك تداخلات كثيرة فالوسيط السردي يعيد ترتيب العلاقات بما يوافق شروط العالم الفني الجديد. يمكن أن نحيل على وقائع خارج النص استناداً الى الاشارات المعترف بها كالتواريخ والوثائق والأحداث، لكن كل تلك المكونات قد كُيّفت وأعيد انتاجها لتكون سلسلة من العناصر في نظام مختلف، مع انها قد توحي إذا قرئت في ضوء مرجعيات محددة بتلك الأحداث والوقائع. ومهما يكن من أمر فإنه يلزمنا التأكيد على أن الأهمية في السيرة الروائية لا تنبثق من البحث المباشر عن المطابقة بين الشخصية الواقعية وسيرتها من جانب والشخصية وقد أصبحت عنصراً فنياً في تشكيل تخيلي آخر، انما تنبثق من كيفيات الاستثمار ودرجات الاستلهام، وكل الانزياحات المحتملة التي تلازم التحول من حالة الى أخرى، هي تغييرات يفرضها تداخل الأساليب السردية والأزمنة والضمائر والأسماء والرؤى. فشروط استعادة تجربة ذاتية تخضع في الغالب لشروط زمن الاستعادة، ووعي المستعيد ووجهة نظره، أكثر مما تخضع لشروط المسار التاريخي الحقيقي لتلك الحياة، لأنه في السرد الأدبي ليس ثمة وقائع خام، انما نكون دائماً بازاء وقائع قدمت عبر منظور ما متصل بزمان السرد ومكانه، وليس بالأطر التاريخية للأحداث التي يعتقد أنها حقيقية. وسنرى في الفقرة الآتية ان مرايا ساحلية ينهج هذا الاتجاه، ليكون نصاً معبراً عما كنا قد ذكرناه بخصوص السيرة الروائية. 2 في كتاب أكدنا غموض هويته النوعية لا بد لنا من العثور على نص مفتاحي ندخل منه الى صلبه. ووجدنا نصين متتالين يردان في نهاية الكتاب تقريباً يصلحان مفتاحين لذلك الدخول: الأول هو "في ذلك الزمان... زمان الحمق والتذمر، أقول نعم... وفي هذا الزمان... زمان النضج، أقول لا. انه فرق في صياغة الأجيال. ص 113" ثم يأتي النص الآخر بعد أن ينتهي الراوي من تقديم النماذج الكثيرة الى عرض لها لينصرف الى الحي الذي عاش فيه، فيقول: "أعود الآن الى أهل الجوار، أهل البيوت الناقصة والمحاصرة، لن أباغتهم مباغتة الطفل الذي رأى، وسمع، وتذكر، لكنني أحرر ذكرياتي معهم من حبل معقود بشدة. ص 117" ونلاحظ فوراً أن الراوي يتوسط زمنين، ويشغل بحقبتين، فهو في الوقت الذي يريد فيه ان يتحرر من ذكرياته عن الماضي، يريد أيضاً أن يبعثه كاملاً في ذاكرته. ثمة تعارض لا يخفي، فالراوي عالق بين زمنين، فهو لا يرى الماضي إلا من نافذة الحاضر، بعبارة أخرى انه مشدود في آن واحد الى قطبين يبدو التعارض بينهما في وعي الراوي جلياً، فالماضي الشفاف والرائع حيث كان كل شيء نزوة ومغامرة وحماقة ورغبة قد ذهب الى الأبد، انه الزمن الذي نقول فيه بملء الفم نعم دونما خوف أو رهبة، انه أجمل الأزمان اذا أمكن لنا استعارة عبارة ديكنز. أما الحاضر الكثيف حيث كل شيء لا يمكن أن يقال الا تورية ورمزاً، وكل فعل لا يمكن القيام به الا سراً وخفية، فهو زمن النضج الذي لا نستطيع ان نقول فيه سوى لا. أي ان الراوي متصل ومنفصل بكل من الماضي والحاضر في آن واحد، ولهذا فإنه يسعى الى استحضار الماضي عبر الحاضر. ولم يستطع أبداً أن يندمج بالماضي اندماجاً كاملاً، فلقد ظل الحاضر حائلاً دون ذلك. وهذا هو الذي يفسر المقارنة بين الزمنين كما ظهرت في النصين المذكورين. وطوال صفحات الكتاب، وهي صفحات مفعمة بحيوية السرد وجمال اللغة الشعرية، تغيب كل أشياء الحاضر الا أهم شيء فيه على الاطلاق، وهو وعي الراوي بأنه غادر ذلك الماضي ولا سبيل الى العودة اليه. وبما ان الراوي لا يتجسد في النص كشخصية لها كيان مشخص، فالذي يحصل ان الراوي ينطلق من لحظته الآتية الى ذلك الماضي، فيلحق ذلك الماضي به، ولا يلتحق به هو انه لا يعود اليه انما يستحضره في وعيه. والأمر الذي نخلص اليه هو أن أمير تاج السر الذي يتوارى خلف الراوي جر اليه الماضي وعالجه طبقاً لوعيه الآن وسط حنين جارف اليه. وهذه المشكلة التي يصعب حلها لا تخص أمير تاج السر وحده فهي ملازمة لهذا النوع السردي الذي يستفيد من معطيات السرة الذاتية، لكنه لا يمثلها كنوع أدبي، ولنا أن نضيف الى كاتبنا هذا اسماء كتاب آخرين مثل نجيب محفوظ في "اصداء السيرة الذاتية" وحنا مينه في "بقايا صور" ورؤوف مسعد في "بيضة النعامة" وسارتر في "كلمات" ومحمد شكري في "الخبز الحافي" و"الشطّار" وغيرهم. كل هذه نصوص تخيلية توهم بأنها تعود بنا الى الماضي لتدون لنا سيرة الكاتب، لكنها في حقيقة الأمر تبعث الماضي من طيات النسيان فتأتي به إلينا، وهي نصوص تتحرر من قيود السيرة بمعناها المعروف، لأنها تنتج فقط خطابياً تلك الوقائع الجزئية المتذكرة التي لها صلة بوعي المؤلف الآن، ولهذا فأنا أراها كنتاج لأزمة كامنة في الوعي، ففي حاضر يحول دون ان يختار الكاتب موضوعه وصوته ورؤيته وموقفه كما يريد بسبب الضغوط الاجتماعية والمحرمات الأخرى، فإنه يلجأ الى استحضار عصره الذهبي: زمن الطفولة. لكن الوعي الحاد بحاضره لا يمكنه من ذلك كما يريد، فتتقطع أوصاله بين عالمين وزمنين، الى ذلك فإنني أرى ان هذا هو السبب الكامن وراء ظهور ما نسميه الآن السيرة الروائية. وكتاب "مرايا ساحلية" وثيقة شديدة التعبير عن هذا النوع السردي الذي بدأ يظهر في أدبنا الحديث، وأتوقع له ازدهاراً كبيراً في المستقبل، هذا اذا تحرر من النظرة المسطحة التي يعتقد كثير من الكتاب أنهم قادرون على ايجاد تطابق تام بين العالمين الحقيقي والمتخيل، فضلاً عن ذلك التخلص من وهم العودة الكاملة الى الماضي، ذلك أن السرد لم يكن منذ وجد الا وسيلة للايهام بالحقيقة، ولم يقم في يوم ما بوصف الحقيقة منذ ملحمة كلكامش أي نجيب محفوظ. 3 ليس من المصادفة الا تظهر الشخصية الرئيسة في هذا النص مجسدة فنياً، فغيابها يتوافق وما توصلنا اليه من القول ان النص ليس سيرة ذاتية، فالمتلقي لا يتعرف الى المكونات الفنية للشخصية الرئيسة، تلك الخصائص التي لا بد من توافرها في النصوص السردية التي تريد أن تعرض عالماً ما. قصدت المظاهر الخارجية، والأفعال، والملامح الفكرية. وهي خصائص بها يتمكن المتلقي من التعرف الى الشخصية داخل النص، ومن خلالها يقيم حواراً تفاعلياً يؤدي الى انتاج المعنى الكلي للنص، باعتبار ان الحدث هو فعل الشخصية، والخلفيات الزمانية والمكانية هي الاطار الذي ينظم ذلك الحدث. فغياب الشخصية المجسدة أي الموصوفة من ناحية المظهر والفعل والفكر يبطل القول ان النص يتمحور حول شخصية مركزية. ولكن هل يعني كل هذا ان مرايا ساحلية لا يتضمن شخصية رئيسة على الاطلاق؟ ان الجواب على ذلك هو النفي قطعاً، فالنص يشعرنا كل لحظة بوجود تلك الشخصية، لكنه لا يرسم في مخيلتنا أية صورة لها، انه يتخطى الوصف التقليدي الشائع في السرد الروائي، وبه يستبدل ضرباً جديداً من الوصف الذي لا يراد به رسم الشخصية، انما أثر الأحداث في وعيها. وهذا المطلب الذي يتردد في النص من أوله الى اخره، يحول الشخصية الى وسيلة بها يستكشف السرد عوالم الآخرين وليس عالم الشخصية، وبعبارة أخرى فالشخصية تكون مصاحبة لنماذج كثيرة من الشخصيات من أجل كشف تلك النماذج، وليس من أجل التركيز عليها هي. انها تذكّر بذلك النوع من الرؤية التي شاعت في الرواية الأميركية الحديثة، بخاصة في روايات همينغواي وباسوس، والتي يصطلح عليها نقدياً الراوي عدسة الكاميرا إذ تنهض الشخصية بمهمة تصوير العوالم المحيطة بها، من دون ان تتضح معالمها هي. ولا أقصد ابداً الاستبطان الداخلي العميق الذي تقوم به الشخصية لعالمها الداخلي كما نجد ذلك بجلاء عند جويس وفولكنر وبروست وفرجينيا وولف، انما نزعة الحياد والموضوعية بإزاء عالم يتشكل لوحده، لكنه يصل الينا عبر منظور الشخصية، فهي التي تنتقي ما تريد، وهي التي تنتخب ما تراه مهماً، والمتلقي يتفاعل مع العالم المتخيل فقط اذا استطاع ان يتقبل ما يعرض عليه من خلال ذلك المنظور. يستعين السرد في "مرايا ساحلية" بالأسلوب الذاتي، وقوامه - كما هو معروف - شمير المتكلم، وهذا الأسلوب يوهم بالمشاركة، وهو أفضل الأساليب السردية لتحقيقها، لكنه في هذا النص يخالف تلك الوظيفة، الراوي يرصد ما يجري حوله، وفي الغالب لا يشارك في شيء، ولهذا فإن الشخصيات التي يعرض لها تمر أمامنا وأمام الراوي - على حد سواء - من دون أن نتمكن من العودة اليها ثانية، فنحن أقرب ما نكون الى رؤية فيلم سينمائي منه الى نص، فما ان تعرض لقطة الا وتمر بلا رجعة، فهذا رغبنا بمشاهدتها مرة أخرى فليس أمامنا سوى خيار واحد لا غير: إعادة عرض الفيلم من جديد، وعلى غرار ذلك فإن مرايا ساحلية يعرض علينا أكثر من ثلاثين شخصية تمر سريعاً جداً كثير منها تخصص له صفحة واحدة، فلا نعرف خلفياتها ولا مصائرها، فلا يقوم السرد باشباع الشخصية التي لن تعود غالباً الى الظهور مرة أخرى، إلا اذا قمنا بقراءة الكتاب من جديد. ولهذا يمكن وصف هذا النص بأنه نص مفتوح، لا يتقيد بالمعايير التقليدية، ولا يتضمن حبكة من أي نوع كانت، ولا يعني بتركيب عالم متعدد المستويات لشخصياته، وبالأخص الراوي الذي يتوقع المتلقي ان يكون محور الاهتمام، ولا يبلور مغزى محدداً، ولا يحرص على صوغ عناصره الفنية صوغاً يوافق قواعد السرد الشائعة، وأخيراً فهو يتخطى بسهولة بالغة الادعاء المزمن في نصوص السرد العربي الذي يقول بوجود رسالة من نوع ما يريد النص ابلاغها. وهنا ينبغي طرح السؤال الذي لا بد منه في مثل هذا المكان، وهو: هل يعتبر كل ذلك - لو صح - نقصاً وضعفاً وقصوراً في النص أم انه ميزة فيه؟ من الصعب جداً تطبيق معايير موروثة على نصوص لا تمتثل لحظة تشكيلها السردي لتلك المعايير، والتعسف في تطبيقها يشبه أمر ادخال جسم في زي أوسع أو أضيق منه، فهو لا يتوافق بالضرورة معه. ومن هنا، فالنصوص الجديدة تتمرد على الأطر المشتقة من نصوص أخرى. وفي ضوء هذه الفكرة فإن عدم امتثال مرايا ساحلية لقواعد السرد التقليدي لا يعني أنه يفتقر الى تلك الخصائص، بالأحرى ان له أسلوباً خاصاً فيها، إذ هو ينقض الموقع المركزي الموروث للشخصية في السرد، ويحيلها الى مجرد رؤية تستكشف العالم المحيط بها، ويوزع دلالته على النص كاملاً ولا يقصرها على مكان واحد، فالتمركز الدلالي لم يعد ميزة بحد ذاته، انما أصبح النص مساحة مفتوحة وحرة تتفاعل فيها البؤر الدلالية الصغيرة بما ينتج في نهاية المطاف مستويات دلالية متعددة، وأخيراً يمكن الانتهاء الى أنه لا مكان للحبكة في نصوص تتنكّب لكل موروثات السرد. ولهذا فغياب تلك العناصر لا يخفض من القيمة الفنية للنص الا إذا أصر النقد على ما لا ينبغي الاصرار عليه في مثل هذا المكان، وهو العثور على جملة من الخصائص التي لم يأخذها النص في اعتباره أساساً. وعند هذه النقطة تتقاطع النصوص مع النقد، ويتقاطع النقد مع النصوص، ولتجاوز اشكالية عميقة مثل هذه لا بد من احترام النصوص، والبحث عن خصائصها الذاتية في هدي الخصائص العامة. 4 يتركّب العالم المتخيل للنص من تداخل ثلاث دوائر تتوسع تدريجاً منذ بداية النص الى نهايته، والراوي هو وحده الذي يعرض علينا تلك الدوائر على التعاقب. وتتكون الدائرة الأولى من شخصيات مهمشة تركت أثرها في شخصية الراوي، ويزيد عددها على ثلاثين شخصية لا توجد بينها تقريباً شخصية سوية بالمعنى العام لهذه الكلمة، ومن امثلتها: المجذوب، والمتسوّل، والغامض، والدلاّل، والمتخلّف، والكذّاب، والمشلول، والمجنون، والمهرب، والأعسر... الخ ومن بينها شخصيات غريبة عن المكان تمر تاركة بصمة لا تمحى فيه، مثل: راجا الهندي، واستيفن لوال، وشيتا الحبشية، وفهمي قرياقوس اليوناني من سالونيك، وجانتي الالكتروني. فضلاً عن نماذج مشوهة يتقصد الراوي اظهار عيوبها الخلقية والجسمانية، الأمر الذي يظهر ان العالم المتخيل للنص كان مشبعاً بنماذج غير سوية. انها تتراوح بين الجنون والعته والتهميش والكذب، فيختار الراوي لكل شخصية حكايتها الدالة على التسمية، ثم يمضي متعجلاً الى غيرها. ولو تم استثمار القيمة الرمزية لشخصيات مثل هذه، واشبعت سردياً لكان النص قد اشتبك فعلياً مع نماذج غنية في انتماءاتها الثقافية والعرقية والدينية، ويمكن تفسير ذلك بأن المكان قد حال دون ذلك، فهو مدينة ساحلية يمر بها كل يوم عدد من النماذج، وسرعان ما يختفون لا يلوون على شيء سوى الذكرى المرتسمة في ذهن الراوي الذي يستهيم عشقاً بها. ومن المؤكد ان بعض تلك النماذج تنطوي على حكايات لا تنسى فعلاً مثل: حكاية ادم كذب الذي يثري بكذبة واحدة يرددها طوال ثلاثين سنة للأجيال المتعاقبة دون ملل أو خجل، مع أن الجميع يعرفون انها حكاية كاذبة، ومؤداها انه بحاجة الى قليل من المال من أجل شراء تذكرة للعودة الى أهله لقد حصد آدم من تلك القصة المرتبكة ثروة تكفي لشراء القطار بركابه وربما هيئة السكة الحديد بكاملها. وحكاية ود جضل اللص الذي ينتهي الى معتقل سياسي، وحكاية سعد روميو، وحكاية جنّي الحضرمي الذي يصطحب الراوي أول مرة لحضور حفلة زار. ونماذج أخرى تنوء بحكاياتها كقدر لا مناص منه. أما الدائرة الثانية فهي الأمكنة الضيقة التي يرتادها الراوي بكثير من الاستحياء، ويعرّف بها تعريفاً سريعاً، مثل: ستوديو العروسة، ومقهى رامونا، وحانة يني الاغريقي، ودكان مدني للأحذية، ومكتبة عكاشة. وهي أماكن تتصل بحكايات تمكث قابعة في ذاكرة الراوي. وأخيراً الدائرة الثالثة، وهي الأماكن العامة كالمدرسة، والشارع، والحي. ومن الملاحظ ان ترتيبها يرد بالتعاقب الذي أوردناه بما يكشف ان التأثير يبدأ من الأشخاص، فالأماكن التي تتصف بخصوصية من نوع ما، وصولاً الى العوالم المفتوحة التي تمثل ساحات عامة للنشاط والتفاعل الاجتماعي، لكن النص عند هذه النقطية ينتهي. إذا نظرنا الى النص من زاوية بناء الأحداث لوجدنا انه بناء متتابع. فالوقائع تسترسل متعاقبة، زمنها خطّي يبدأ من نقطة وينتهي عند أخرى، فلا تتداخل الوقائع في ما بينها، انها تعرض من منظور الراوي طبقاً للنسق الذي تحدث فيه في الواقع، وهذا نسق تقليدي ثبتت ركائزه الرواية التي أرادت ان تلعب دور التاريخ، وكما أكدنا من قبل فالراوي ينطلق من فرضية كونه شاهداً على الأحداث، ولذلك فإنه يعرض تلك الأحداث على المتلقي متعاقبة، وبما ان المكان هو الفضاء المؤطّر لتلك الأحداث فقد تم التركيز عليه كمجال للحركة ولمرور الشخصيات، ولم يعن الراوي بتفصيل معالمه. وهكذا فإن العناصر الفنية المكونة للنص الشخصيات " الأحداث " الزمان " المكان لم تتفاعل بحسب الطرق الشائعة في السرد الكلاسيكي، ومن ذلك فليس ثمة ذروة في الأحداث، وليس هنالك صراع وعقدة وتدرّج ونهاية منطقية. فبكل ذلك استبدل النص بنية سردية من نوع آخر، قوامها العرض المحايد لعالم تشكل من تضافر الذاكرة والمخيلة الذاكرة انتجت الجزء السيري في النص، والمخيلة انتجت الجزء الروائي فيه وقد اقتضى ذلك إعادة توظيف لهذه العناصر الفنية بما يخدم حاجة النص. انها بنية مفتوحة قابلة للاستنطاق والتأويل بحسب القراءة النقدية ونوع مقاربتها للنص. ونراها تشترك مع نصوص السيرة الرواية العربية الأخرى في تأسيس نوع سردي جديد نحسب أنه سيستأثر بالاهتمام في المستقبل، ذلك ان التخيل السردي أصبح أكثر ميلاً لدمج الأبعاد الذاتية للأحداث بالأبعاد المتخيلة. * أستاذ في جامعة قطر.