لم أقرأ مذكرات عزة دروزة وإنما معلوماتي عما فيها هو ما ذكره الأستاذ محمد الأرناؤوط في مقاله المنشور في "الحياة" بعدد 21/5/2000، وتعليقاً على هذا المقال أقول: إن عامين اثنين من أعوام تاريخ العرب البعيدة المدى الحافلة بضروب الأحداث سعادة وشقاء، إن عامين اثنين من ذلك الزمن كان لهما من الأثر في مصير العرب ما لم يكن لأعوام وأعوام وأعوام، وما شئت من أعوام. ولقد أحسن شاعر العرب العراقي محمد رضا الشبيبي القول في ذينك العامين حين قال عنهما في قصيدته الدالية الرائعة: حولان حال الشرق حالت فيهما لا تلكم الأحقاب والآباد هذان العامان هما: 1918 - 1920. ففي العام الأول منهما انتهت حقبة تاريخية عربية دامت اربعمئة سنة، خرج العرب في نهايتها من سيطرة ما سمي بالدولة العثمانية، خرجوا مفعمين بالأمل المتوهج بعلمهم الخفاق بهبات النسائم العربية المتأرجة بعبير الحرية والاستقلال. وبجيشهم الصغير الكبير، الصغير بعدده وعُدده، والكبير بطموحاته وما حققه من دخوله فاتحاً محرراً - لأول مرة بعد أربعمئة سنة - لأرض عربية. وبدولتهم: ملكاً ووزارة ومجلساً. دولتهم التي رأوها ماثلة أمام أعينهم حقيقة واقعة، لا حلماً طالما راود خيالهم. هذا ما طلع به العام 1918 امتداداً الى العام 1920. وما حفل به العام الأول 1918 انهار كله دفعة واحدة العام الثاني 1920. هذان العامان الحاسمان في تاريخ العرب لم يؤرخهما العرب تاريخاً دقيقاً مفصلاً، سوى ما دُوّن عرضاً في مذكرات لسياسيين عبروا مجتازين خلال العامين، فسجلوا مشاهداتهم، وكتبوا ما تعلق بأشخاصهم. وقد كانت لي محاولة متواضعة في كتاب صدر منذ سنتين بعنوان: سراب الاستقلال في بلاد الشام، لعله سد فراغاً في هذا الموضوع. ومن هذا القبيل الذي أشرت اليه جاءت مذكرات عزة دروزة التي عرف بها محمد الأرناؤوط قراء "الحياة". ولا أريد هنا أن أدخل في تفاصيل ما جاء في المقال، وانما أحاول أن أعرض للأسباب التي ذكر عزة دروزة انها كانت عامل الانهيار. يعزو ذلك الى اسباب اربعة نوجزها بما يلي: 1 - غدر الحلفاء لا سيما الانكليز، 2 - حل جيش الثورة الذي دخل دمشق، 3 - عدم تحلي فيصل يومذاك بصفات الزعيم القوي الناضج الألمعي المؤمن بزعامته وقوته والواثق بنفسه وشعبه الذي ينفخ فيمن حوله القوة والإيمان والحزم والاقدام، أو بحملهم على الفناء فيه والانصياع لما يقول، 4 - عدم نضوج رجال الحركة والعهد. ونحن لا نتردد أن نقوّل أن لا صلة لكل هذا بما آل اليه أمر الاستقلال العربي المأمول، من تلاش واضمحلال. وأن السبب هو واحد لا أربعة. السبب هو أن العرب يومذاك كانوا من الضعف المادي بحيث أنه كان عليهم أن يقابلوا بجيش مؤلف من 4734 جندياً و800 ضابط و689 ضابط صف، بجيش هذا عدده موزع في منطقة ممتدة من دير الزور على حدود العراق الى معان على حدود الحجاز. وفوق ذلك كان هذا الجيش لا يملك من العتاد الحربي سوى مئتين وسبعين رصاصة لكل بندقية، وثمانين قنبلة لكل مدفع من مدافعه السبعين. كان على العرب ان يقابلوا بهذا الجيش، جيش فرنسا المنتصر بالأمس على الجيش الألماني الجبار. كانت فرنسا قد حملت العبء الأكبر في انتصار الحلفاء على ألمانيا. فإذا بانكلترا تفوز من ارث الدولة العثمانية في البلاد العربية بالعراقوفلسطين، ويُترك لفرنسا أن تنازع العرب على بلاد الشام. فكان من أمر فرنسا أن تقتحم هذه البلاد مزهوة بجيشها المنتصر انتصاره الكبير. لقد كان الانكليز هم الغادر الأكبر، حين تجاهلوا عهودهم واستولوا على ما استولوا عليه، وتركوا الفرنسيين يستفردون سورية العزلاء. أما ما ذكره عزة دروزة عن حل جيش الثورة وعدم اعتماد خطة واضحة في إحلال جيش آخر محله، فمهما اعتمد من خطط فإن ذلك ما كان ليزيد رصاصات الجيش وقنابله. وعن زعامة فيصل وصفات الزعامة التي عددها، فالذين تابعوا بدقة أحداث تلك الأيام يشهدون أن فيصلاً كان كفياً لقيادة الأمر العربي، ولكن ما نجدي الكفاية حين يراد لفيصل ان يقابل دبابات غورو وطياراته ومدافعه ورشاشاته التي لا حصر لها ولا لقنابلها ورصاصاتها، ان يقابلها برصاصات محدودة وقنابل معدودة. وكنت أجل عزة دروزة من أن ينسب السوريين عموماً والدمشقيين منهم خصوصاً الى سيطرة النعرة الاقليمية عليهم حينذاك وان يجعل ذلك من أسباب الفشل. فهو يسميها "النعرة الشامية الدمشقية" ويقول عنها: "فبعد الشهور الأولى المفعمة بالحماسة للعروبة والدولة العربية حين كانت دمشق تعج بالمشاركين في هذا العهد من الحجازيين والعراقيينواللبنانيينوالفلسطينيين والاردنيين من دون تمييز بينهم سوى السبق والاخلاص للعروبة، بدأت تبرز تلك "النعرة" بالتدريج خلال 1919 وتبلورت في 25 كانون الثاني يناير بتأسيس "الحزب الوطني السوري". ويعلق دروزة على هذا الحزب أنه كان يعمل في ظاهره على استقلال ووحدة سورية، ولكنه في الواقع "انشئ للدفاع عما سمي بحقوق الشاميين ازاء ما كان يسمى بالغرباء وكانت هذه التسمية تعني الفلسطينيينوالعراقيين"...الى آخر ما قال. وما دام دروزة قد استشهد لتدعيم رأيه بالحزب الوطني السوري فسنكتفي بالرد عليه ببيان حقيقة هذا الحزب وعوامل تأليفه، تلك الحقيقة وتلك العوامل التي هي أبعد ما تكون عن الواقع الذي قصد اليه دروزة في ما ادعاه. إن كهول السياسة الذين كانت لهم الكلمة النافذة أيام الحكم التركي، لم يعد لكلمتهم هذا النفوذ في العهد الاستقلالي الجديد، لأنهم لم يكونوا رجال قضية وطنية يناضلون من أجلها، بل كانوا رجال طاعة للحكم التركي القائم. فاكتسبوا بذلك نفاذ الكلمة. ثم جاء عهد الاستقلال، فقام على أساس الاصطدام بالفرنسيين، فلم تتحمل نفوسهم تصور هذا الاصطدام. فساد الاصطداميون وهم في جلهم من الشبان، وانخذل الكهول القاعدون عن التصايح للنضال، فرأوا أنفسهم شبه أذلاء بعد عز. ولكي نعرف ما كان لهؤلاء الكهول من منزلة نأخذ هنا النص الذي وصف به رشيد رضا أحدهم، عبدالرحمن باشا اليوسف في أواخر العهد التركي، إذ قال عنه: "عبدالرحمن باشا اليوسف أمير الحج الذي هو أوسع أهل دمشق ثروة وأعلاهم جاهاً ومنزلة". وإذا كان عبدالرحمن باشا بذلك الموقع فأمثاله كثيرون في دمشق. وقد وجد هؤلاء الوجهاء انفسهم مرؤوسين في العهد الجديد، متقدماً عليهم في تسيير الأمور وتقرير المصير من هم دونهم. فكتموا أول الأمر غيظهم، ثم جمعوا شملهم وأحكموا أمرهم بتأليف الحزب الوطني. هذا الحزب الذي كان معروفاً بميوله الفرنسية. وإذا كان رشيد رضا قد زار دمشق في أواخر العهد التركي فقال عن عبدالرحمن باشا اليوسف ما قال، فقد كان بعد ذلك في عهد الاستقلال في صميم الأحداث في دمشق. فقال عن الحزب الوطني وعن عبدالرحمن باشا اليوسف نفسه: "... فقوي الحزب الوطني المتهم بموالاة فرنسا وهو الذي كان يرأسه عبدالرحمن باشا اليوسف، حتى إنه بلغ الحكومة أنهم عزموا على تأليف وفد فيه سبعة من حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب يرسلونه الى باريس بطلب الانتداب الفرنسي على جميع البلاد السورية...". إذاً فالذين برزوا بالنزعة الاقليمية الشامية الدمشقية لا الشاميون الدمشقيون الوطنيون الأصلاء. بل عمال فرنسا وصنائع الاستعمار وطلاب الانتداب. فمن الظلم الذي ما بعده ظلم ان نغمز الوطنية الشامية الدمشقية في ذلك الحين بأنها عادت نعرة إقليمية، وانها كانت من أسباب النكبة، لا سيما إن كان هذا الغمز من رجل مثل عزة دروزة. وليس رشيد رضا وحده هو الذي أبرز هذه الحقيقة، بل كان ممن أبرزها ايضاً يوسف الحكيم الذي عايش ذلك العهد وكان من الفاعلين فيه. فقد قال في ما قال في مذكراته الصفحة 87 عن تلك الجماعة أنها كانت على اتصال دائم بالكولونيل كوس ضابط الارتباط الفرنسي في دمشق. وانهم كانوا يفضلون الانتداب الفرنسي على الاستقلال التام الناجز اذا كان مصيره بيد الشبان دون سراة القوم. واذا كنت قد قلت في مفتتح الكلام أن العامين المبتدئين ب1918 والمنتهيين ب1920 كانا ذا أثير بعيد في تاريخ العرب مما لم يكن لغيرهما من الأعوام، فليس لأن فيهما انهار الاستقلال العربي، وتمزق الحلم الرائع فقط، بل لأنه كان في ما كان فيهما، التطبيق العملي لوعد بلفور في فلسطين بتسليم حكمها لليهودي الانكليزي هربرت صموئيل، الذي كان حكمه لها هو القيام الفعلي لدولة اليهود، وإن تأخر إعلان هذا القيام الى سنة 1948. وكذلك كان في ذينك العامين دخول الانكليز بغداد فاتحين مستعمرين، فانطوت عزة العواصم العربية الثلاث: دمشقوبغداد والقدس. وتنمّر الانكليز في القاهرة فسفكوا الدماء وسجنوا ونفوا... * مؤرخ وباحث في الاسلاميات - لبنان.