يعود ظهور مدينة حلب إلى "فجر السلالات" أو ما سماه جوردن شايلار ب"الثورة الحضرية" الأولى في العالم، في الألف الثالث قبل الميلاد. ويدين استمرارها كمدينة حية على مدى أربعة آلاف عام على الأقل إلى حيوية موقعها الذي كانت تصب فيه أعظم الطرق التجارية العالمية في عصرها، وهو طريق البخور العظيم الذي سار عليه الاسكندر المقدوني، وكان يعرف أن كل ثروات الدنيا تتدفق عليه، وطريق الصحراء الكبرى، وطريق الحرير الذي بدأ السير عليه أول مرة في عام 110 أو 115ق.م.، وربط ما بين الصين والبحر المتوسط، أي ما بين الشرق والغرب، وحمل "نصف تاريخ العالم من مرحلة إلى أخرى بقوة البشر الضئيلة" كما يقول لنا فرياستارك. وقد سار في هذه الطرق التجار والمغامرون والفاتحون والسلالات والتقنيات والسلع واللغات والأديان والأفكار. ولو أراد المرء أن يسير فيها مجدداً لوجد أن نهاية طريقه ستكون في حلب. وبهذا المعنى شكلت حلب تاريخياً مصبّ أوراسيا القديمة كلها، وتفاعلت في فضائها البشري والمعماري المتمازج كل الدوائر الحضارية الكبرى: الآرامية، واليونانية - الرومانية أو الكلاسيكية، والعربية - الإسلامية. لعل بناءها أول مرة، كمركز لمملكة يمحاض القديمة في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، تم على يد ملكها يارليم ليم أول السلالة العمورية، وفي القرن الرابع أعاد سلوقس نيكاتور بناءها مدينة هيلينستية صارمة. وأعيد بناؤها للمرة الثالثة الكبيرة بعد خرابها على يد البيزنطيين والتتار في الحقبة الزنكية - الأيوبية - المملوكية. وارتبط جزء مهم من هذا البناء باسم غازي بن صلاح الدين الأيوبي الذي لقب ب"الملك المعمار". وما يهمنا من هذا الملك هنا، أن زمنه، على رغم كل مرارة الحروب الصليبية، شهد توقيع أول اتفاق تجاري، بين حلب والبندقية عام 1207م. وربما كان هذا الاتفاق من أول الاتفاقات ما بين ضفتي المتوسط. وفي مرحلة ما يمكن تسميته ب"السلام العثماني". نمت حلب تجارياً، خلال أقل من مئة عام على الفتح العثماني 1517، رصد دارفيو القنصل الفرنسي في حلب عام 1680 نشاط أكثر من 75 ممثلية تجارية أجنبية، استفادت، ولا شك، من حماية نظام الامتيازات الذي منحه السلطان سليمان القانوني عام 1535 للملك الفرنسي فرنسيس الأول في سياق الصراع ضد امبراطور الامبراطورية الرومانية المقدسة في الغرب. وكاد اكتشاف رأس الرجاء الصالح يهدد تجارة حلب، لولا أن التجار الأوروبيين فضّلوا الطريق البري الآمن إلى حلب على الطريق البحري المليء بالقراصنة. ومن هنا لم تكن مفارقة أن تندمج التجارة الحلبية في شكل مبكر، في السوق الرأسمالية العالمية التي أوجدها الغرب في مطلع القرن التاسع عشر، وأرغمت الاقتصاد العثماني عموماً على التحول الى اقتصاد بضاعي. وأدت إجراءات ابراهيم باشا بن محمد علي في ثلاثينات القرن التاسع عشر إلى أن يحلّ التجار الحلبيون - ولا سيما المسيحيون منهم - محل الجاليات التجارية الأوروبية في مجال التجارة الخارجية. وأدى ذلك الى ازدهار الإنتاج الحرفي النسيجي، فكان في حلب عام 1862 مثلاً ما لا يقل عن عشرة آلاف نولٍ عمل عليها أكثر من ستين ألف حائك. إلا أن افتتاح قناة السويس عام 1869 قهقر النمو التجاري الحلبي الى حد بعيد، وأصابه بنكسة، ولم يبق لها على حد ما عبر عنه عبدالمسيح أنطاكي في مقال في مجلة الهلال عام 1893 إلا "برّ الأناضول وبرّ مصر". وقد حاولت حلب أن تعوض هذه النكسة نسبياً بالتكيف مع السوق الداخلية العثمانية "الجديدة" التي أخذت تتسع وتترابط يومئذ نسبياً بفعل عملية التنظيمات أو الإصلاحات العثمانية. تدمير السوق الداخلية كانت الحدود الإدارية لولاية حلب العثمانية تمتد حتى نهاية الحرب العالمية الأولى من ملاطية في قلب جبال طوروس شمالاً الى مدينتي حماة وشيزر في وسط سورية جنوباً. وامتدت سوقها الداخلية يومئذ، على ما أوردته نشرة غرفة تجارة حلب عام 1929 "من البحر الأسود شمالاً إلى العجم شرقاً، وإلى مصر والأوقيانوس الهندي جنوباً، وأصبحت قوافل البضائع في هذه الأقطار الشاسعة لا يستوقفها مكتب جمركي ولا محافظ حدود". من هنا شكل الانتداب الفرنسي وبالاً على وحدة هذه السوق وامتدادها، إذ وقع الفرنسيون مع الكماليين في تركيا عام 1921 اتفاق فرانكلان - بويون التي اقتطعت من ولاية حلب منطقة الجزيرة في تركيا الحالية أو ما يعرف بالولايات العربية التسع كاملة، واكتمل هذا التمزيق بضم تركيا لواء الاسكندرون عام 1939 لتغدو تجارة حلب "سجينة في سورية البسيطة"، على حد تعبير غرفة تجارتها يومئذ. ووجه الكماليون ضربة قاسية الى التجارة الحلبية حين قاطعوها تماماً ووضعوا عراقيل صارمة أمامها. وكتب رئيس غرفة تجارة حلب عام 1923 "إن التجارة جامدة بسبب مقاطعة الحكومة التركية للبضائع الحلبية"، أما التجارة الحلبية مع العراق عموماً ومع سوق الموصل خصوصاً فصمدت نسبياً على رغم أن صك الانتداب منح الإنكليز في العراق تعرفة جمركية دنيا في حين حرمت حلب وسورية عموماً أي مزايا جمركية تسهيلية، وظل الميزان التجاري رابحاً مع مصر حتى عام 1928، ثم أصبح لمصلحة مصر. وبذلك تهدد "البران" الأساسيان لتجارة حلب، وهما "بر مصر وبر الأناضول" اللذان تحدث عنهما الأنطاكي عام 1893. ولعل هذا ما يفسر أن تغيير السياسة الجمركية الفرنسية شكّل مطلباً محورياً مصيرياً ل"الكتلة الوطنية" تأسست في 29 تشرين الأول / أكتوبر 1927 التي مثلت محور الشرعية الوطنية في سورية طوال مرحلة الانتداب. مانشستر سورية هزت أزمة 1929 الرأسمالية العالمية الاقتصاد السوري عموماً، إلا أنها لم تؤثر في النمو الاقتصادي العام بأكثر من نسبة 30 في المئة على حد تشخيص المفكر البورجوازي السوري منير الشريف يومئذ. وكان في إمكان الصحافي السويسري وليم مارتان أن يلحظ حين زار حلب عام 1929 أنها "أشد نشاطاً من أمستردام". إلا أن الصناعة النسيجية الحلبية كادت تتعرض عام 1932 لهلاك حقيقي، بتأثير تدفق النسيج الياباني الرخيص الذي لم تضع سلطات الانتداب رسوماً جمركية في وجهه. وأدى ذلك إلى كساد النسيج الوطني، وإغلاق المعامل وتسريح العمال، وإلى موجة إضرابات ممتدة، واعتداءات على المحال التجارية التي تبيع المنسوجات اليابانية. وشكلت الحماية الجمركية في الثلاثينات، وما زالت تمثل حتى اليوم، سر نمو الصناعي الحلبي. فلم تستطع الصناعة الحلبية أن تنمو إلا بعد ضغط الكتلة الوطنية التي غدت محور الشرعية والولاء الوطني على سلطات الانتداب، وانتزاع سياسة جمركية جديدة منها لمصلحة النمو الصناعي الوطني. واستثمر الصناعيون الحلبيون هذه السياسة مباشرة، وتمكنوا خلال وقت قصير من تكييف الإنتاج الحرفي مع الإنتاج المعملي أو الصناعي الحديث الذي قادته الكتلة الوطنية. ورعت الكتلة الوطنية في هذا السياق تأسيس "شركة الغزل والنسيج" عام 1933 في حلب، وكان عبدالرحمن الكيالي أحد قادة الكتلة الوطنية نائباً لرئيسها. ويمكن القول إن حصة حلب عام 1933 كانت نحو 20 معملاً للمنسوجات الحريرية مثلاً من أصل 43 معملاً في سورية في مقابل سبعة معامل في دمشق. وشكل تطوير هذا النمو المعملي وتجديده وتوسيعه أساس وصف حلب بمانشستر سورية. وأصبح تشكيل الشركات الصناعية المساهمة سياسة اقتصادية للكتلة الوطنية. وعززت حكومة الكتلة 1936- 1939 هذه السياسة إلى حد بعيد، إلا أن حلب المتسارعة النمو رأت أن تلك السياسة موجهة لإنعاش دمشق على حسابها، وهو ما ضاعف من التنافس التقليدي بل والصراع بين حلب ودمشق الذي انفجر في الأربعينات والخمسينات. التنافس التقليدي بين حلب ودمشق شكّل التنافس التقليدي بين حلب ودمشق أحد أكثر استقطابات الحياة الاقتصادية السورية بروزاً في القرن العشرين. وتعود حدته الى تركز تلك الحياة يومئذ في هاتين المدينتين الحيويتين. لم تتجرأ حلب التي تحولت، مدة قصيرة بين عامي 1922 و1923 مقراً لمجلس الاتحاد السوري الذي شكله الجنرال غورو من الدويلات السورية ما عدا "لبنان الكبير" عام 1921، على تحدي موقع دمشق ودورها عاصمة لسورية، لكنها كانت ترى نفسها جديرة بذلك، وترنو على نحوٍ ما إليه، وربما كانت، وهي ذات الميراث العثماني الراسخ، تشبّه أهميتها على دمشق بأهمية استانبول على أنقرة على رغم أن هذه الأخيرة هي العاصمة السياسية. وقد تُعزى جذور هذا التنافس الذي شغل الحياة السياسية حتى حركة 8 آذار مارس 1963 على الأقل، الى طبيعة تشكل الكيان السوري على خلفية التمزيق الفرنسي - البريطاني لبلاد الشام. وهي تعود بهذا المعنى إلى أيام الحركة الاستقلالية العربية عن الدولة العثمانية. فقد دعمت دمشق هذه الحركة، في حين تخلى بعض أعيان دمشق وملاّكها مثل عبدالرحمن اليوسف ومحمد فوزي العظم عن الحكم العربي الفيصلي القصير 1918- 1920، فإن حلب، على نأيها السابق عن الحركة الاستقلالية العربية التي أثمرت هذا الحكم، مزجت بين دفاعها عن الحكم الفيصلي والحفاظ على سوقها الأناضولية التي كانت في إطار المملكة السورية. من هنا دعمت ثورة هنانو ونسقت مع الكماليين في تركيا في مواجهة الفرنسيين. بل إن هنانو نفسه أبدى في هذا السياق استعداده ل"التبلشف"، وهو ما استجابه وفق إحدى وثائق لينين، ووجه رسالة دعم باسم السوفيات إلى "أهالي حلب". وكان هذا الاستعداد متسقاً مع تنسيق الكماليين في تلك المرحلة لسياستهم مع السوفيات. بل ذهب عبدالرحمن الكيالي عام 1926 وهو أحد المهندسين الأساسيين للكتلة الوطنية إلى تحميل "دمشق" أعظم نصيب وأكبر مسؤولية في إفساد الدور وانحلال العهد - أي الفيصلي - و"تمكين الأجنبي من وضع اليد" على سورية. انفجر الخلاف الحلبي - الدمشقي في الثلاثينات داخل الكتلة الوطنية، وأخذ عام 1932 شكل صراع حاد بين من وصفوا يومئذ ب"الإيجابيين" من أصحاب سياسة "التعاون النزيه" مع الانتداب، و"السلبيين". وتمثل المعقل الأساسي ل"الإيجابيين" في كتلة دمشق الوطنية بزعامة جميل مردم بك الذي وصفته النخبة الحلبية ب"ثعلب دمشق". بمقدار ما تمثل المعقل الأساسي ل"السلبيين" في حلب بزعامة ابراهيم هنانو. وتمكنت كتلة حلب "السلبية" مستفيدة من مأزق "الإيجابيين" وعدم تحقيقهم أي إنجاز وطني، من إرغام "الإيجابيين" على الانسحاب من الحكومة عام 1933. إلا أن هذا الصراع أخذ ينحرف خلال الحكم الكتلوي الوطني 1936- 1939 عن شكله السياسي المعلن، ويكتسب شكلاً جهوياً فاقعاً. لم يكن استئثار الدمشقيين بالحكم وسيطرتهم عليه ادعاء، فخلال السنوات الواقعة بين الانتداب الفرنسي عام 1920 والاعتراف الفرنسي باستقلال سورية عام 1943، شغل الدمشقيون 134 منصباً وزارياً من أصل 160، وتولى ثلاثة عشر منهم 47 منصباً أي ما نسبته 35 في المئة من المناصب الوزارية التي شغلها الدمشقيون و30 في المئة من المناصب التي شغلها السوريون عموماً، وفق إحصاءات رامز طعمة. وبرز ذلك خصوصاً في أول حكومة "مستقلة" عام 1943 حين شغل الدمشقيون ثماني حقائب وزارية من أصل عشر، في حين لم يشغل الحلبيون إلا حقيبتين، كان على رأسهما كل من عبدالرحمن الكيالي وسعد الله الجابري المنضويين سياسياً تحت زعامة دمشق عموماً، وزعامة شكري القوتلي خصوصاً، وهو ما يفسر أن من تولى ترويج لقب "فخامة الرئيس الزعيم" للقوتلي هو سعدالله الجابري. وحاولت الكتلة الحلبية التي رأت أن الحكومة لا تضم ممثلين حقيقيين لحلب أن تسيطر على رئاسة برلمان 1943 إلا أن كتلة دمشق حالت دون ذلك، وهزمت رشدي الكيخيا. من هنا تركزت معارضة دمشق برلمانياً على شخصيتي رشدي الكيخيا وناظم القدسي اللذين استنكفا عن منح الثقة للحكومة، وشكلا قطب المعارضة البرلمانية حتى عام 1949 تحت اسم "الكتلة الدستورية". وأعادت الكتلة الدمشقية، بعدما وصلت الى السلطة، تنظيم "الكتلة الوطنية" السابقة في الحزب الوطني في نيسان ابريل 1947، بمقدار ما رد عليه الكتلويون الحلبيون السابقون بعقد مؤتمر في لبنان عام 1948 والعمل تحت اسم "حزب الشعب"، بقيادة رشدي الكيخيا وناظم القدسي اللذين انسحبا من الكتلة عام 1939 احتجاجاً على سياسة زعامتها الدمشقية. كان المعقل الحقيقي لحزب الشعب بزعامة رشدي الكيخيا في حلب أساساً، وتمتع فيها بدعم النخبة الليبرالية والإسلامية الحلبية المستنيرة، وحصل على دعم كبار الملاك ومعظم الصناعيين في حلب، وساهم في تشجيع النمو الصناعي الحلبي، إذ أسس الأعضاء المنتسبون إليه عام 1948 "شركة الشهباء للإسمنت ومواد البناء" في شكل شركة مساهمة، ثم أسسوا شركة ثانية عام 1954 تحت اسم "الشركة الأهلية للإسمنت" في مرحلة التألق الصناعي والتجاري والزراعي السوري عموماً، وتسخير السياسة الجمركية لمصلحة نموه، وتأميم الرأسمال الأجنبي، في حين ضعف نفوذ الحزب الوطني في حلب الى أبعد حد، على رغم أن سعد الله الجابري ثم عبدالرحمن الكيالي، وهما من زعامات حلب كانا على رأسه. رهانات السيطرة السياسية ومحاولة تحطيمها أنعش انقلاب الزعيم سامي الحناوي في 14 آب أغسطس 1949 رهان "حزب الشعب" على استعادة حلب سوقها الداخلية العراقية عموماً، وسوق الموصل خصوصاً، وإمكان أن تغدو عاصمة اقتصادية - سياسية في وحدة سورية - عراقية محتملة، رأى "حزب الشعب" يومئذ، وهو الذي يطرح شعار الوحدة العربية، إنها وحدة ممكنة، وقاطع الحزب الوطني انتخابات الجمعية التأسيسية التي دعيت إلى وضع دستور سوري جديد بمقدار ما انخرط فيها "حزب الشعب"، وحصل فيها على غالبية نسبية 49 مقعداً من أصل 116. إلا أن انقلاب العقيد أديب الشيشكلي فجر 20 كانون الأول ديسمبر 1949 داخل هيئة الأركان السورية بذريعة "المحافظة على الكيان الجمهوري المهدد" وضع العصي في برنامج "حزب الشعب"، وأحدث نوعاً من ازدواجية السلطة، إذ لم يحل الشيشكلي الجمعية التأسيسية، لكنه وقف في المرصاد لأي خطوة عملية تفضي الى الاتحاد أو الوحدة مع العراق، وشجع المعارضة على إرغام "حزب الشعب" على أن يتضمن قسم رئيس الجمهورية عبارة "أن أكون مخلصاً للنظام الجمهوري" وكان ذلك يعني على مستوى الصراع الإقليمي على سورية، أن المحور السعودي - المصري انتصر على المحور العراقي. وعام 1951 قام الشيشكلي بانقلابه الثاني وتخلص من "رأس الأفعى حزب الشعب، وحاول أن يتحداه في معقله الحصين في حلب، حين شجع الحزب العربي الاشتراكي الذي شكله أكرم الحوراني وعدد من المثقفين الشعبويين المعادين لسيطرة الطبقات المدينية التقليدية على الحياة السياسية، على إقامة أول وأضخم مهرجان فلاحي في 16 أيلول سبتمبر 1951 في حلب. ساهم حزب الشعب لاحقاً في إسقاط الشيشكلي، إلا أن من حصد هزيمته لم يكن هو، بل المنظمات السياسية الشعبوية الراديكالية للفئات الوسطى في مرحلة احتدام الصراع الإقليمي والدولي على سورية، وهكذا وجد نفسه تحت ضغط هذه المنظمات يسير في اتجاه الوحدة مع مصر في إطار الجمهورية العربية المتحدة. من تحطيم المدينة السورية الى إنعاشها سجلت تأميمات 1961 التي شكلت أحد دوافع الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة بقيادة كتلة "الضباط الشوام"، والتأميمات البعثية التي تلتها عامي 1963 و1965 والاستمرار في سياسة إصلاح زراعي جذري في تحطيم السيطرة الاقتصادية - السياسية للمدينة السورية عموماً، وفي مقدمها دمشق وحلب المتنافستان معاً. وكانت هذه التأميمات مرتجلة واعتباطية وأسيرة مزاودة الجملة الثورية بين ما سمي بيسار البعث ويمينه يومئذ، إلا أنها عبرت عن تغير البنية الاجتماعية والسياسية للدولة السورية جذرياً، وانتهاجها اقتصادياً سياسة النمو من طريق التراكم الموسمي الذي يهدف إلى بناء المرتكزات الأساسية للاقتصاد الوطني عبر القطاع العام. وفي ظل تأميم الدولة البعثية في الستينات للاقتصاد والسياسة بقيادة "شلة يسارية" بيوريتانية منغلقة على طليعيتها الموهومة، ظهر الريف كأنه سيطر على المدينة، إذ انتقلت "سلبية" حلب الراديكالية السابقة في الثلاثينات هنا إلى إهاب جديد تمثل في أن معقل الحركات الناصرية التي رأت في حكم البعث امتداداً للانفصال كان في حلب، واكتسبت تبعاً لذلك سمة معارضة ضد السلطة. إثر الحركة التصحيحية في 16 تشرين الثاني نوفمبر 1970 اتبع الرئيس حافظ الأسد سياسة إنعاش المدينة السورية، وإيجاد محل لها في السلطة والحزب، واتخاذ مقدار معين من إجراءات الانفتاح الاقتصادي. فأربكت هذه السياسة، خصوصاً التجار والصناعيين الحلبيين الذين كانوا "سلبيين" على العموم، ويعتبرون أن تهميش المدينة سياسة مقصودة مسبقاً بمقدار ما تكيف معها التجار الدمشقيون، وأثبتوا مرونة براغماتية عالية. وإذا جاز استخدام تعابير الثلاثينات، يمكن القول إن حلب ما زالت الى اليوم تواصل تراث "السلبيين" بمقدار ما تواصل دمشق تراث "الإيجابيين"، وأن بعض شرائحها ما زالت تعتبر أن الشوام فاقوا حلب ببراغماتيتهم واستفادوا من مغانم السلطة بالتحالف معها. ومن هنا دعم التجار الحلبيون التقليديون العمليات المسلحة التي قادها التنظيم الطليعي الإخواني المنشق عن الإخوان المسلمين، وكانت إحدى قواعده الأساسية في حلب، بمقدار ما نأى التجار الدمشقيون عنها. وحين انخرط تجار حلب في الاضراب العام، عام 1980، الذي تحول فوضى واضطرابات وأحداث عنف، فإن غرفة تجارة دمشق كسرته. وعلى العموم، كان الإسلاميون الدمشقيون معتدلين وسلميين بمقدار ما كان الإسلاميون الحلبيون متشددين وقريبين من الراديكالية. من هنا كان أحد وجوه الانقسام التقليدي بين حلب ودمشق في جماعة "الإخوان المسلمين" وجه اعتدال الشام وراديكالية حلب. إلا أن الصناعيين والتجار الدمشقيين فاقوا مع ذلك التجار والصناعيين الحلبيين المحكومين بهاجس المحنة وفولكلور التهميش في التعبير عن ملامح وعي ليبرالي جديد يتطابق مع التطلعات السورية العامة الراهنة في الدمقرطة وإحياء المجتمع المدني ومأسسته الحريات ودولة القانون وعقلنة العلاقة ما بين الدولة والمجتمع. وكان هؤلاء الذين يتهمهم الحلبيون عموماً بالثعلبة والمراوغة والبراغماتية الشامية التاريخية أكثر جرأة من طنينهم بفولكلور الإقصاء والتهميش. لكن دائرة المشكلات الراهنة تخطت ذلك الصراع التقليدي القديم بين دمشق وحلب، وإن كان ميراثه لا يزال حاضراً، وأخذت تكتسب صفة مشكلات بنيوية سورية شاملة في كل المجالات. ولا ريب في أن حلب التي كانت في أول "فجر السلالات" وتحركت بطموح عظيم إلى أن تكون "مانشستر سورية" حين كان عدد سكان سورية أقل من ثلاثة ملايين نسمة، لديها اليوم الكثير مما يمكن أن تعطيه مجدداً. وهي تحتاج اليوم الى استعادة الثقة بمبادراتها وإبداعها وقدراتها في كل شأن، من شؤون إصلاح إداري اقتصادي سياسي سوري شامل يدق الأبواب، ويمثل استحقاقاً لا مفر منه للخروج من المأزق الراهن، في إطار يكون فيه جميع السوريين لسورية، كما تكون سورية لكل السوريين. * كاتب سوري.