من يتتبع أحوال الرواية العربية في فلسطين يستطيع ان يرصد تحولاً نوعياً في شكل هذا النمط الابداعي ومضمونه، في المرحلة الممتدة منذ ثمانينات القرن العشرين الى الآن... هذا التحول يمكن تحديد معالمه عبر مجموعة من الاعمال الروائية كتبها روائيون لم يكن معظمهم معروفاً لنا من قبل، ومن ابرز الاسماء في هذا السياق: احمد حرب، احمد رفيق عوض، عبدالله تايه، صافي الصافي، وغريب عسقلاني... الخ مع ضرورة التشديد على تفاوت في المستوى بين هؤلاء ليس هنا مكان تفصيله. وقد برزت في نتاجات هؤلاء الكتّاب ملامح مشتركة تتركز في تناول الراهن ضمن تاريخ يمتد الى بدايات القرن العشرين حيناً، ويوغل في الامتداد فيبلغ مراحل تاريخية سحيقة وأسطورية احياناً اخرى. ولعل من اهم ما يميز هذه الروايات عن الرواية العربية عموماً، تناولها شخصية اليهودي - الصهيوني في صور متعددة تعكس مدى فهم الكاتب الفلسطيني لهذه الشخصية التي يحتك بها او يصطدم معها في مجالات عدة في حياته اليومية، ما يمنحه القدرة على رسم ملامح واقعية تفصيلية، وغير نمطية كما يحدث في الادب العربي الذي لا يرى الى اليهودي الا من الخارج وعن بعد، ولهذا كانت الصورة النمطية لليهودي - العدو صورة غير واقعية، ليس لأنها غير صادقة في توصيف هذا العدو كعدو، بل لأنها، ولأسباب موضوعية، لم تكن تقترب منه لترى تفاصيل شخصيته، ولأنها اكتفت بجوانب محددة من هذه الشخصية. بينما استطاع الكاتب الفلسطيني - بحكم علاقته الاضطرارية او الاختيارية - ان يرى عن كثب، ويغوص في، ويحلل عناصر هذه الشخصية بعمق لا يتاح لمن يكتبون "عن بُعد". نقف اليوم مجدداً عند روائي وقفنا عند روايتين له من قبل، هو احمد رفيق عوض الذي صدرت له اخيراً روايته الثالثة "آخر القرن" ضمن منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين - القدس... وكان صدر له "قدرون" و"مقامات التجار والعشاق". بدايات بلا نهايات رواية "آخر القرن" هذه تبدأ وتنتهي عند نهاية القرن العشرين، بل انها تقف - في فقرتها الاخيرة - عند السنة الاخيرة من القرن، التي فيها "ظل الفلسطينيون ممنوعين من الصلاة في المسجد الاقصى او في كنيسة القيامة، الا بتصريح من اليهودي ... والاجيال من قبل ومن بعد اجتهادات ورؤى... ويا سارية... الاندلس الاندلس... وليمحق الله ذكر من ينساها او يسلوها... والهزيمة اشد من القتل!!"... لكن السرد والتأملات والحوارات في الرواية تتمدد لتشمل احداث القرن كله، من خلال الشخوص الروائية التي يعود تاريخ ميلاد بعضها الى مطلع القرن، بل تتوغل لتحكي شيئاً من سيرة الاجداد في القرن التاسع عشر، وقد توغل اكثر فتقارن بين سور برلين وسور ذي القرنين... وترى الى العلاقة بينهما والتمثلة في سبب سقوطهما القائم في ان "كلاً من ذي القرنين والولايات المتحدة الاميركية "اتبع سبباً"، واتباع الاسباب يؤدي الى نتائج صحيحة نافعة..."! تتناول الرواية بالتمثيل الذي يشبه التسجيل والتوثيق وقائع المفاوضات - الفلسطينية الاسرائيلية، من خلال شخصية المفاوض الفلسطيني محمود السلوادي ابن قرية سلواد - شمال شرقي مدينة رام الله، الذي يسرد، في طريقه الى تل ابيب ليلتقي حاييم شلومو، سيرة المفاوضات وما يجري فيها وما يتوقعه منها بعد سلسلة من اللقاءات غير المثمرة. كما تعرّج على موضوع عمل الفلسطينيين في بناء المستوطنات للاسرائيليين، عبر شخصية ماجد - شقيق محمود. والموضوع الثالث - المحوري في الرواية هو موضوع المؤسسات والشركات التي نشأت مع قيام "السلطة"، وتتمثل في شخصية نهى سليمان، المرأة القوية المدعومة من مراكز قوى "خفية"! يأخذنا الراوي - البطل، بذهنه المشتت وارادته المرتبكة وسلوكه المتردد، في جولة من تذكر ماضيه والتأمل في واقعه - واقع الفلسطيني، متخذاً اسلوب التداعي حيناً، وحيناً آخر نراه يلجأ الى اسلوب صناعة الوثيقة تقرير الشين بيت الخاص بمحمود السلوادي وأفراد اسرته منذ ولادة كل منهم حتى لحظة اعداد التقرير الذي يجري تجديده باستمرار، هذا التقرير المحبوك فنياً وموضوعياً بأسلوب ذكي يقنعنا بأنه تقرير جهة امنية معادية... ربما كونه يأتي من معرفة بالعقلية التي يصدر عنها اليهودي في علاقته مع الفلسطيني، كما يلجأ الى اسلوب الحوار حيناً ثالثاً...، ويراوح، في ذلك كله، بين السخرية والهزل والجدية المغلفة - في كثير من الاحيان - بغلالة من الهزء والتهكم... وليقدم صورة عما يجري في الحياة الفلسطينية منذ اوسلو وبناء عليها وعلى ما سبقها من نضالات وانهيارات... كما تلتفت الرواية الى الجيل الجديد ممثلاً في ابنيّ ماجد: اسامة الجامعي المتقلب بين وطنية تحاول اكتشاف معالم ذاتها، وبين تديّن هروبيّ ورهام الفتاة المتمردة رغبة في الحصول على الثراء ولو عبر استغلال جسدها وفي وسيم، الفلسطيني - الاميركي، الفاشل والفاسد في اميركا، والعائد لاستثمار اموال ابيه في مشاريع استهلاكية غير مثمرة! بنية متشظية تخرج الرواية على البنية التقليدية بداية، حبكة، وخاتمة وتندرج في سياق البنية الحديثة، حيث تتداخل وتتراكب ازمنة السرد في محاولة منها ان تختصر قرناً كاملاً بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ففي حوار بين البطل واحدى الشخصيات نقرأ: كيف تلخص هذا القرن ايها الهُمام؟ - تقدمت الآلة ومات الانسان. ليس هذا ما قصدت. - قامت الحكومة وماتت الجماهير. ليس هذا ما قصدت! - قامت الكاميرا ومات الفن. - لليهود دولة وللفلسطينيين المخيم. انت لئيم! - انتظرتني لأقول هذا... أليس كذلك؟ إذاً، كم مذبحة تعرض لها الفلسطينيون في هذا القرن؟ الحوار طويل ومعبر عن حال من الهذيان ومن الشعور باللاجدوى التي وصل اليها الفلسطيني، والعربي عموماً. وهو يصل في النتيجة الى وصف الشعب الفلسطيني بأنه "صلب الرقبة" وهذا الوصف تطلقه التوراة على اليهود، ما يعني - بحسب الرواية "اننا نعيد تاريخ اليهود اليهم... على اختلاف المراحل، فليحذروا منا اذاً"، ويرد صاحبه "قل لي الى اين المسير..."، ليختم حلقة السخرية الجادة، وينتقل الى الجدية الساخرة كما تتضح في سرد قصة قرية "البطمة" التي يخترع لها اليهود اسماً عبرياً هو "بط - مين" تعني: بنت الجنس، او متعلقة بالجنس، ذلك ان اول من بناها - حسب الرواية اليهودية - هو امنون بن داود، الذي ضاجع اخته تامار وهرب من غضب ابيه وبنى القرية ليسكنها...، ولعل السخرية تبلغ الذروة حين يستمع محمود السلوادي الى القصة وهو يعلم ان اول من بنى القرية هو جده راشد ابو رقبة وهو الذي زرع شجرة البطم التي تحمل القرية اسمها، بينما تزعم الرواية اليهودية ان امنون هو من زرعها "على عادة الشعوب القديمة الذين كانوا يزرعون شجرة دائمة الخضرة بالقرب من معابدهم...". وهذا مثال عن صور تزوير او سرقة التاريخ، فاليهود الذين لا يجدون تاريخهم في ارض فلسطين يسطون على آثار التاريخ العربي، حتى الحديث منه، ويجعلونه من تاريخهم. لكن قمة المأساة هي ان تحاول دليلة سياحية، لا احد يعلم من اين جاءت، اقناع الفلسطيني ابن هذا التاريخ بأن روايته عن المكان خرافية، وغير حقيقية. وهزائم محمود لا تقتصر على هزائمه امام شلومو وفريقه المفاوض، فما نكاد نقتنع بأن عدونا الاول والاخير هو الاسرائيلي، حتى ينقلنا الراوي الى محطات الفساد في المؤسسات الفلسطينية، الرسمية والشعبية... ويكشف عن خراب معمق في بنية المجتمع وفي روح الفرد. نكتشف ان محمود الذي هرب من اجواء المفاوضات العبثية وانتقل - بعد الحاح شديد منه - الى "هيئة الرقابة"، فغرق في دوامة من الفساد والسرقات وتجارة المخدرات عبر اليهود وأوروبا، ونراه مستسلماً لما يجري، لا يملك سوى اللجوء الى امه لتقرأ له مستقبله! ما من امل... تقول لنا الرواية، لقد عمّ الخراب والفساد، وما لم تفسده اسرائيل افسدته "السلطة"!