تحدثت هدى بركات في روايتها الاولى «حجر الضحك» (دار رياض الريس)، التي تأملت الحرب الأهلية في لبنان، عن كلاب تستذئب في منتصف الليل، وعن بشر منحرفين تمدّهم الصدفة بأنياب قاطعة في مطلع النهار. وقرأت في «أهل الهوى»، التي هي امتداد للأولى في شكل مختلف، مأساة الحب في مجتمع الكراهية، التي تدفع بالعاشق إلى دارة الجنون. في عملها الروائي الأخير «ملكوت هذه الأرض» (دار الآداب 2012) ترتد إلى زمن مضى اكثر من العبث والشرود وانفتح على الموت. «ملكوت هذه الأرض» رواية عن الإثم والتداعي والندم الذي لا غفران له وهي، أولاً، سيرة «مسيحيين من جبل لبنان»، مكرت به اخطاؤهم وقادتهم إلى نهاية غير متوقعة. استذكرت الرواية أطرافاً متقطعة من تاريخ لبنان الحديث، وأوكلت سردها إلى ذاكرة عارفة، توحّد بين مبتدأ الأشياء ونهاياتها، وتعطف النهايات على بشر غادروا مواقعهم إلى غير رجعة. وضع الفرق بين براءة المبتدأ وعنف النهاية، في الرواية، تصوراً مستسلماً لأحزانه، يطمئن إلى كلمة: الوداع، ولا يفتش عن مفردات أخرى. تُستهل الرواية بمطلع القرن العشرين وما يجاوره، وتنتهي إلى «حرب السبعينات»، التي استذأب فيها البشر. جسّرت المسافة بين الزمنين متواليات حكائية، قوامها البشر والطبيعة والعادات وطقوس الكنائس، وجملاً معلقة بين السطور تسائل «لعنة غير مرئية» وعقاباً صريح الملامح. ومع أن الرواية تأخذ بتقنية: «رواية الأجيال»، حيث الذي يموت يمتد في غيره، فإن تقنية هدى بركات متعددة الأقمطة،، تحتضن فعلاً روائياً، ينطق البشر في تاريخهم، ويرسم فضاء حياتياً رحيباً، يأوي إليه الفرح والحزن وقلق الأرواح المهاجرة وحوار الفصول الأربعة. كل شيء له مكانة في فضاء ملحمي مثقوب ومعطوب: البشر في أجيالهم، وتغيّرات الأرواح والأمكنة والأزمنة، منذ أن تمرد جبران خليل جبران على قيوده وبرهن عن نجابة شهيرة، وصولاً إلى مقاتلين يذهبون إلى إطلاق الرصاص، معتقدين أنهم ذاهبون إلى الحرب. أنتجت هدى بركات، وهي تسرد تاريخ المسيحيين الحديث في جبل لبنان، فضاء روائياً مدهشاً، لا يفتقر إلى تفاصيل التفاصيل، مشتقة أحوال البشر من حكاياتهم، وجاعلة من الحكايات مرايا لتاريخ متعدد الوجوه. لذا يتكشف الدين في صوره المحتملة والممكنة، فلرجل الدين من يقدسه ومن يعبث به، ولأيام الآحاد أجراسها وطقوسها المهيبة، وفي الدين - الطائفة طوائف،... وللغة معرضها اليومي الكبير الذي يوزّعها على المقدس والبذيء والعربي وغير العربي، وعلى العامي وما يشبهه، كما لو كان في اللغة المتنوعة ما يشي بلغة مؤقتة، تنتظر الاستقرار. وللحياة وجوهها المتكاثرة، يتحاور فيها الموت والصمت والانتظار، وضجيج الأعراس التي تضع حدوداً بين الغني والفقير، وتستدعي طقوس الطعام والشراب. وسعت الروائية حكايتها الواسعة بأكثر من هجرة وعودة ورحيل، وبأنماط من البشر تتسع لعاشق ومعشوق، ولجندي فرنسي سيئ المصير، ولشيء يشبه سياسيين، يخلطون بين العمل السياسي والأعراس. استعادت الرواية، وهي تناجي ما يشبه الأجداد، عالماً ملحمياً واستبعدته في آن، ذلك أن صهيل الأجداد الحقيقيين لا يعد بالخيبة والهزيمة. واقتربت من عالم كرنفالي ونهته عن الاقتراب، لأن الكرنفال ينبعث من الأرواح المتآلفة لا من الأجسام المتصادمة. يضيء الاستدعاء الملحمي بالمجزوء، كما الاقتراب الناقص من عوالم الكرنفال، إشكالية رواية أرادت أن تقرأ تاريخاً لبنانياً متماسكاً، وعثرت على «فولكلور التاريخ»، الذي نقل «الجبل المسيحي» من مكانه الأليف القديم إلى سواحل هابطة بائسة المردود. وهذا الانتقال غير المتوقع الذي تناجيه، روائياً، روح مسيحية لبنانية بريئة وصادقة، أدرج في الخطاب الروائي مرارة فادحة، عنوانها ندم عاجز واستغفار متأخر، لا يفعل شيئاً. التاريخ المراوغ أنتجت بركات في عملها الروائي الكبير خطاباً عن التاريخ المراوغ، وعن الخطيئة والعقاب، وعن اغتراب كسير تتصادى فيه اجراس كنائس مختنقة الصوت. ومع أن البنية الظاهرية، إن صح القول، قد صرّحت بخطاب يحايثه الرثاء، فإن دلالة الخطاب العميقة ماثلة في تكامل الإشارات الفنية، التي توسلتها الروائية بحسبان لامع يذكّر بعمليها الكبيرين: «حجر الضحك» و «اهل الهوى» ويتجاوزهما. ولهذا تقرأ الرواية في نهايات فصول مثقلة بالشكوى وعبثية الرجاء، وتقرأ بوضوح أكبر في الحوامل الفنية التي توحد عملاً متقن البناء ومؤثثاً بالأسئلة. فرض الخطاب الروائي، الذي بدأ بحكايات متعددة، وانتهى إلى حكاية يتيمة أخيرة، العودة إلى الأصل، فلا وجود لحاضر صالح للقراءة إلا بالعودة إلى أصله. اشتقت الروائية الأصل من «مجاز الثلج»، الذي تستهل به الرواية مرات ثلاثاً متتالية، مصرّحاً بأكثر من دلالة: فالثلج نقاء يصل بين الأرض والسماء، ومرآة لعيش محاصر، وإشارة إلى وجود موقت الإقامة، يستحيل ماء مهاناً بعد حين. تلتبس براءة الثلج، في رواية بركات، بالخطيئة الأولى، مستدعيةً صبياً أهمل أباه وأصابه الندم، بعدما حسم الثلج الأب وافترسته الضباع، تاركاً وراءه «قبراً فارغاً». ارتكنت هدى، في عملها إلى تقنية: «المفارقة»، التي تتوحّد فيها التقنية والمعنى، ناقضة المعنى المباشر بنقيضه، وموحية بأن وراء ما يبدو سليماً، عطباً يعطّل دلالته المباشرة. لذا يبدو الثلج نقاء وخطيئة ويتكشف المقدس مدنساً، والقبر مكاناً فارغاً لا علاقة له بالقبور. وكحال الثلج الهابط من ذروة الجبل إلى أزقة المدينة، أخذت بركات بمجاز العائلة، التي تنبثق منها الحكايات وتعود إليها، محولاً العائلة إلى جمع من الأفراد منقطع عن العائلة. فبعد الأب الذي حسمه الموت في ليلة باردة، يسقط الموت على الأم وهي ذاهبة في زيارة، ويدخل الإخوة والأخوات إلى مصائر متفرقة. تتسلل المفارقة إلى المصائر جميعاً، فالوعد المشرق باللواذ بمدينة باريس يتكشف خيبة كاملة، وحصاد الرحيل إلى القاهرة عنوان الندامة والوصول إلى اميركا متوّج بالسجن والسفر إلى استراليا يساوي العودة منعها، باستثناء لغة استقرت فيها البذاءة. تتراءى تحولات الثلج في المصائر جميعاً، كاشفة عن هبوط لا هرب منه، وعن ماء أخير لا نقاء فيه. ليست التحوّلات إلا مرايا لمواضيع «لبنانية» معطوبة الدلالة، إذ القرية موقع لإقامة موقتة، واللغة خليط من لغات، والأسماء هجينة تثير السخرية، والبشر كحال أسمائهم، تزجرهم الجهات التي يلوذون بها. والنتيجة ثلج يذوب وأوهام كاسرة، توزع التداعي على كل الجهات، وتستبقي أرواحاً تتدحرج نحو الأفول. لا يتبقى من العائلة، التي لم تكن عائلة تماماً، إلا الأخت - الراوية والأخ - الراوي مع شيخوخة مغلفة بالصقيع. لا ينتظر الطرفان استمرارية بيولوجية، فلا زواج ولا تناسل، كما لو كانت العائلة وهماً، أو مفارقة افترستها المفارقات، مخلفة صوتين ساردين يتوسّلان النسيان والمغفرة، ويقولان في لحظة الضياع الأخيرة: «لو لم يمت أبي وبقي بيننا»، أو «لم يعد لنا أحد نحتمي به» و «يا ملاك النسيان الأجمل بين الملائكة. ويا ملاك النسيان ذا جناحي الرأفة والرحمة، أفردهما على الخَطَأة» (ص:177)... تنشر الرواية إحساساً باليتم الكوني، تصدع به لغة أضاعت إيمانها أو فقدته قبل أن تعثر عليه. سارت رواية هدى بركات مع تاريخ حافل بالتفاصيل وعثرت على تاريخ فولكلوري زائف التفاصيل. ولعل الفرق بين تاريخ صلب غائب ومشتهى وتاريخ قائم هلامي القوام، هو الذي أنطق الرواية بمتواليات حكائية ساخرة رصدت انزياحاً لا شفاء منه، إذ العاشق خائب قبل العشق وبعده، وإذ ابن القرية مهاجر قبل هجرته، وإذ الجبل في موقعه وخارجه معاً. لكل موضوع مفارقة خاصة به، تتجلى حارقة بعد تصدّعه. بل إن المفارقة الساخرة والمأسوية تمتد إلى معنى المتواليات الحكائية: فعلى خلاف المتوالية الحكائية، المرتبطة بمستقبل يكمل فيه الأبناء ما بدأه الآباء في المجتمع السليم، فإن المتوالية الحكائية في مجتمع عقيم مبتورة النهاية، بسبب أب أخطأ في تأويل لغة الطبيعة وابن استأنف خطأ أبيه. تموت الحكايات مع بشر يموتون ولا يتركون وراءهم أبناء يدلّون عليهم. يضع الفرق بين الوصف والسرد في الرواية لغتين؛ لغة ساخرة تحيل على الخارج، تجمع بين العامي والمسرف في عاميّته، ولغة تحيل على الداخل، مملوءة بالشعر والتصوّف وأطياف روح فقدت مركزها: «يا رب قل ما تريد مني. أعطني أن أفهم رسالتك» (ص: 334). تسمح اللغة، في شكليها، بقراءة النص الروائي الكبير والتعليق عليه، حيث «اللغة الخارجية» تصف الأجساد المتلاطمة الخائبة، في مقابل «لغة الروح» التي تتأمل «الأصل» ونهايته الكئيبة. فالحكايات تمر خفيفة عارضة بين المبتدأ والنهاية، ولا تبدو كثيفة الإيحاء إلا مرتين: حكاية الأصل الذي يحايثه النقص، معلناً على لسان الصبي شكوى تتطاير في الهواء: «يا بو»، وحكاية الندم الأخير: «هل بدأ كل شيء حين تركت يده الرسن. كأنه ضاع حين مشى في الطريق الخطأ (ص: 346). لا غرابة في أن تتكشف الحكايات «الخفيفة العارضة» مدخلاً إلى مأساة لم يرَ صاحبها مداها إلا بعد زمن. صوتان روائيان نسجت هدى بركات عالمها الروائي من صوتين روائيين يتبادلان الكلام، واستولدت منهما ندماً أخيراً. الصوت الأول أخٌ مغترب يحب الغناء، حصد الخيبة في شبابه وشيخوخته، والصوت الثاني أنثى نزيهة (الحامل الأساسي للقول الروائي) اجتاحتها الأيام وزرعت فيها يباساً متجدداً وأنطقتها مع أخيها بألم لا نهاية له: «لو أراد لنا الرب الندم من أجل الغفران لمنحنا نعمة كلام الندم». ولعل البدء من حقيقة مؤسية، أو الانتهاء إليها، هو الذي أدرج حكايات «الصوتين الروائيين» بين حكايات أخرى، وفصلهما عنها، لأنهما موضوعان وشاهدان: يعيشان مع الآخرين، وتعهد إليهما الرواية بسرد ما جاء وذهب والتعليق عليه. فرض توطيد السرد - الشهادة اعترافاً بمكان قديم مشبع بالحكايات، جعل من الطبيعة شخصية واسعة الأطراف، تحاور وتنصح، وتنهر. طبيعة ناطقة، لها وديانها وجبالها ومغاورها وكهوف النساك، وفيها ما يطل على البحر والكنائس وعلى «العريض» ولها، روائياً، «لغة المكان»، التي تنطق بأحواله المتغيرة وتبقى مسوّرة بالغموض. من هو الإنسان الخطّاء، ومن أين يأتي التاريخ وإلى أين يذهب، ولماذا لا يطلب الإنسان الغفران إلا متأخراً، وما الذي يدفع بالإنسان إلى تدنيس المقدس؟ أسئلة رواية لا ينقصها الالتباس، قرأت تاريخاً لبنانياً مضى، وقرأت فيه ضيعة الإنسان في كل مكان. أغلقت هدى روايتها بتشاؤم طليق، يسائل الأفول، ويصفه وينفذ إلى قراره. ومع أن في الرواية صوتين يتبادلان السرد ويفرضان، نظرياً، شيئاً من عدم اليقين، فإن تماثل الصوتين إلى حدود التطابق جعل منهما، على مستوى الدلالة، صوتاً واحداً. وضع التأسي الشامل في الخطاب الروائي بعداً دينياً، يحيل على مخلوقات الرواية ويفيض عنها، ويرفرف متصادياً فوق ما جاء وما سيأتي: «وإن كان قصاص الرب الأخير سينزل فينا حقاً يوم القيامة، فهذا لا يعني أن يسوع سيعذبنا ويعاقبنا» (ص: 255). في رواية هدى، كما في روايات الفلسطيني الراحل جبرا إبراهيم جبرا، تضيق المسافة، أحياناً، بين موقع الروائي وموقع الراوي، الذي يصف ويسرد ويوحي بالأسئلة.