تأخذنا رواية فيصل خرتش الى "حمّام النسوان" وهو عنوانها، لا لتعرّفنا بعوالمه السحرية وأجوائه الباهرة، وحسب، وإنما تنحو بنا الى ما هو أكبر وأبعد من هذا الحمّام ونسائه وأطفاله، تُدخلنا الى مدينة حلب ومناخاتها بعد الاستقلال عن فرنسا وفي مرحلة الحروب العربية - الإسرائيلية بدءاً من 1948 ومروراً ب1956 و1967 وانتهاء بانطلاق المقاومة الفلسطينية، كما شهدها أبناء حلب... أما على صعيد المكان الروائي فثمة امتدادات تبدأ من الحمّام بوصفه مكاناً ذا سمات معينة، وتنتقل الى البيت العربي بمواصفاته التي باتت موضع اهتمام المبدعين، والروائيين خصوصاً، وصولاً الى قرى وضيعات على الحدود مع تركيا. ومن شخوص غير عاديين، عرباً ويهوداً، نساءً ورجالاً وأطفالاً، ينسج الروائي عدداً من العلاقات ومجموعة من المتقابلات: رجل/امرأة، غني/فقير، سلطة/شعب، صغير/كبير... وعربي/يهودي... إلخ. تبدأ الرواية من نقطة تبدو وكأنها حكاية مستعارة من عالم "ألف ليلة وليلة" أو تحاكي هذا العالم، حيث الفتى "زاد الله" محمول على ظهر كائن خرافي يطوف به ويحطّه فوق قبة مسجد... فيهبط الى السوق، ليفاجأ بامرأة تتكىء على كتفه وتسأله عن اسمه فيخفي اسمه الحقيقي ويخبرها أنه "زاد الله"، فتأخذه الى بيتها وتعرفه ببنات لها "كأنهنّ أقمار الله" ثلاث هن: فريدة، اكتمال، وشهقة الروح، وبإبنها الذي يدعى "مطر الزمان"، وهو "كتلة بلهاء جالسة تحت الشمس النيئة". وكانت مهمة الفتى أن يُعنى بهذه الكتلة التي ستكون محوراً من محاور الرواية... إذ سيتحول "مطر" من مجرد منغولي مثير للشفقة الى فتى تتقرب منه النسوة لما يمتلك من إمكانيات الذكورة، قبل أن يستثمر أبوه عبدالله النمرود حالته هذه فيجعل منه ولياً من أولياء الله تأتيه النساء بوصفه "الشيخ أبو العجايب" الذي سوف يحل "مشكلة عقم الرجال في المدينة، والمدن الأخرى والأمصار، فقد ذاع صيته حتى بلغ الدنيا بأسرها، جاءه العلماء من البلدان الأجنبية لمعرفة سرّه، ولتدريس ذلك في كليات علم الوراثة، ولكن النمرود لم يسمح بمقابلته، أو بإجراء أي حديث معه، لأنه كان في حالة دائمة، وخلوة مع ملوك الجن، إخوته... يستشيرهم في أمور الناس". في هذا المقطع، كما في بناء شخصية المنغولي المتحول ولياً "مطر الزمان"، تبرز سمة أساسية من سمات عمل خرتش، وهي المبالغة في تضخيم ملامح وصفاتهم شخوصه وسلوكاتهم، مبالغة تبلغ مبلغ الشطط أحياناً، لكنها تظل تنطوي على قدر كبير من الدلالات والمعاني والصور والتعابير الجديدة الهادفة الى إبراز وعي جديد، ومغاير، وطازج، وجريء. إلا أنه لا يخلو من إعادة مقولات وشعارات ليسخر منها كما سخر كثيرون قبله... يسخر من "جينا وجيناك... يا فلسطين" كما يسخر من "لبّيكَ عبدالناصرِ، من المحيط الهادر الى الخليج الثائر"، ومن الإذاعة التي كانت تسقط طائرات العدو... وأحمد سعيد، ورئيسة الاتحاد النسائي، لأول مرة خلال الحروب العربية الإسرائيلية، تطالب الجندي العربي أن يدافع عن أرضه وعرضه، لأن هذا الدفاع هو عن "شرفه وعن شرف أخته وأمه وخالته وجارتهم...". في أجواء الحمّام نشاهد صوراً ونطل على نساء تقارب العالم الذي عرفناه عن الحمّام الشرقي من خلال رسومات وكتابات المستشرقين، عالم أكزوتيكي محتشد بالسحر والخرافة. لكننا نشاهد، أيضاً، العلاقات الحميمة تارة، والصراعية تارة أخرى. العلاقة غير المتكافئة بين "زاد الله" الفتى الطالع من الفقر والتشرد الى عالم "النسوان"، وبين سلافة المغنية ذات الأصل اليهودي... العلاقة التي يختبر فيها الفتى جسده تحت وطأة الجسد الباذخ في ضباب بخار الحمّام وروائحه المعطرة و...يتوغل في تضاريس هذا الجسد ومعالمه الأساسية. ونرى العلاقة الشاذة بين هدى وفادية، والعلاقة الصراعية القائمة على قاعدة طبقية بين هدى والنساء الفقيرات. ونشهد في الحمّام عراكات النسوة والأعراس وعمليات التنظيف و"دخول الحمام ليس كالخروج منه". تتداخل في بنية الرواية المشظاة ظواهر عدة: اجتماعية، سياسية، دينية/طائفية، واقتصادية. وتتشابك هذه الظواهر لترسم صورة مدينة حلب في تلك المرحلة من تاريخها، من دون أن يكون ثمة مركز يشد الحوادث والتحولات، ودون أن يكون ثمة هدف أو غاية محددة تسعى الرواية لبلوغها، باستثناء غاية نهائية هي السعي الى كتابة التاريخ الحديث للمدينة التي تعدّ من أكبر وأقدم مدن الشرق، وأكثرها أهمية من حيث الحضارات التي مرّت عليها أو تعايشت على أرضها. يستدعي الكاتب، عبر الراوي الذي يوزع الكلام على الشخوص، صوراً للمدينة العتيقة، ويتناول بالتقطيع تاريخ اليهود في المدينة من خلال سلافة التي جاء أبوها من سلالة يعود تاريخها الى اليهود الذين خرجوا من الأندلس بعد القتل والمذابح والتصفيات... وصولاً الى رسم خطوط العلاقة مع أهل المدينة العرب، والتعايش الحميم معهم، إلى أن بدأت دولة اسرائيل بالنشوء، واشتد الصراع العربي الصهيوني، فتعرض يهود حلب الى حملات تنكيل من قِبَل بعض السكان المتحمسين، لكنهم وجدوا أيضاً من يدافع عنهم من سكان المدينة، وترى فيهم شركاء في التعايش. وكان ثمة من يمنع الأذى عنهم ويقول "يهودنا غير اليهود الذين هجموا على فلسطين، يعيشون معنا ونعيش معهم... هؤلاء يهود طيّبون غير أولئك... ونحن وهم أهل...". ولكن اليهود، ورغم هذه الروح التعايشية من قِبَل العرب، بدأوا يلجأون الى المهرّبين الذين كانوا يضعونهم في براميل ويحملونهم في شاحنة تلقي بهم عند الحدود التركية فيجري تهريبهم الى أنقرة وتستلمهم السفارة الإسرائيلية هناك لترسلهم الى تل أبيب. وربما كانت نهاية الرواية على النحو الفانتازي الذي آلت اليه، تشير الى البنية غير المتماسكة، والمتشظية، والمفتوحة على الأسئلة، للرواية. فهي تنتهي بعبدالله النمرود، والد مطر الزمان، وقد أخذ معه زاد الله ليحمل لافتة كتب عليها "جيش الشعب هو الأقدر على مواجهة العدو" و"عبدالله النمرود قرر دخول الحمّام وحيداً" بعد أن كان الحمّام مغلقاً ثم جرى فتحه بواسطة من قريبٍ مسؤولٍ خرج بتعميم الى الكوادر الحزبية بالتوجه الى "حمّام الست" أسبوعياً، لمرة على الأقل، واعتبر ذلك مهمة نضالية... فبعد خطوة النمرود "نزلت الكوادر الفلاحية من الريف واغتسلت في الحمّام، ثم جاء دور الكوادر العمالية..."، وفتح النمرود في بيته سرداباً تحت الأرض لتهريب اليهود مباشرة الى تل أبيب، الى شارع بغداد في تل أبيب... إلخ. إن زمن النهاية غير محدد، سوى أنه بعد هزيمة 1967 وبداية المقاومة. كما أن زمن البداية غير محدد إلا بكونه بعد جلاء الفرنسيين بقليل. وما بين هذين الزمانين ثمة أزمان نفسية واجتماعية وسياسية لكل شخصيات العمل من جهة، وبكل شخصية منهم على حداه من جهة ثانية. وتتداخل الأزمان هذه لتخلق المناخ الواقعي بأبعاده السحرية والفانتازية الساخرة، لتُرينا بعين النقد المحدّقة تفاصيل واقع ممتلىء بتناقضات الإنسان ونقائصه. واقع يغص بعوامل التخلف والانفجار المدمر. والى هذه القدرة على التحديق في الواقع، عبر تفاصيله الحيوية، والتركيز على عوامل الجهل والمرض والفقر والتخلف... ثمة لغة قادرة على الوصف وإبراز المواقف وإظهار المشاعر ودفق الأحاسيس، في عبارة عربية تتوخى الدقة دون الجمود، إذ تبدع في مزج الصيغة العامية - المحكية ضمن صيغة جديدة ذات ايقاع احتفالي يبرز جمالياتِ وزخارفَ العملِ المشغول بروح عالية من الفكاهة والسخرية واندماج هاتين معاً في مفردات وعبارات لا تكرر نفسها، بل تستنبط لكل موقف عناصر جديدة، لغة تبوح أو توحي وتشير، تعلن حيناً وتغلف الصور بغلالة شفافة من الحياء أو التسامي حيناً آخر. لكنها، في كل حين تحاول أن تفيد من كل ما هو متاح، من لغة القرآن حيناً، ومن آيات الكتاب المقدس حيناً، ومن أحاديث "النسوان" حين يكون الكلام لهن، ومن اللغة العبرية بكل طقوسيتها حين يحتفل اليهود بمناسبة ما... و"يا رحمن يا رحيم" أو سواها حين ينتشر القوم في السوق سعياً لأرزاقهم... ولغة جنسية تختلف باختلاف ممارسي العملية. وفي جانب من الجوانب، يمكن تلمُّس لغة رمزية ذات بعد آخر غيد البعد الظاهر، كأن يحتمل الأب عبدالله النمرود ملامح رمز سلطوي لطاغية أو ديكتاتور صغير ممن يتحكمون بمصير العائلة، ويشيرون الى تسلط أكبر وأعمّ. فالنمرود هذا لا يضرب الزوجة والابن المتبنَّى فقط، بل يسجنهما عند الضرورة في غرفة ويقطع عنهما الماء والكهرباء، ويحرم ويعطي، ويستثمر حال ابنه مطر، ويستخدم زوجته وابنه لتوزيع أكياس الحشيش... إلخ. إلا أن من الممكن أخذ الشخوص والحوادث على محمل الأمر الظاهر دون الدخول في منطقة الرموز، لأن هذا الدخول محفوف بمخاطر، ويتطلب دراسة ليس هذا مجالها. يبقى القول ان التقطيع المشهدي - الانتقال من مشهد الى آخر والعودة والانتقال - قد يساهم في تشتيت المقولة الأساسية للرواية، ويجعلها تبدو مجموعة من الحالات والأحوال التي لا يجمع بينها سوى المكان بتعدد مستوياته. وثمة استطرادات واسترجاعات يجوز اختزالها وتكثيفها، خصوصاً في إطار التأريخ لليهود في حلب، وما ينطوي عليه استحضارهم في الرواية من دلالات ومعاني لم تتناولها الرواية العربية من قبل... حيث النظرة التي تسعى الى موضوعية ما حيالهم قد تقود الى فهم خاطىء وخطير لما تتبناه. * صدرت عن دار المسار، بيروت، 1999، 120 صفحة.