لم تكن رواية «وما زالت سعاد تنتظر» (الدار العربية للعلوم - ناشرون) للكاتب الفلسطيني فايز رشيد، مجرّد عمل أدبي ابداعي فحسب، بل يمكن ادراجه ضمن ما يعرف بالوثائق والملفات التيّ تؤرّخ المرحلة الأكثر حساسية في تاريخ الأمّة العربية عموماً، والقضية الفلسطينية خصوصاً، إذ رسمت صورة جلية لنحو ثمانية عقود من القرن الماضي، وهي السنوات العجاف في تاريخ فلسطين والعرب، إذ لم يعرف خلالها الفلسطينيون هدوءاً على مختلف الصعد، السياسية والاجتماعية والثقافية... رواية توافرت فيها تقنيات السرد الروائي كلّها، لتضع القارئ وجهاً لوجه أمام حقائق الأمور والأحداث في فلسطين قديماً وحديثاً. بطلتها سعاد، اليتيمة التي افتقدت أباها زمن العثمانيين، إذ جُنّد مع الجيش التركي وغاب ولم يعد، وإن طال انتظار ابنته الصغيرة وأمه العجوز له. فتتنقّل سعاد من بيت إلى بيت، وكلما يغزو الموت حصون من تعيش عندهم تنتقل الى كنف عائلة أخرى مع أختها التي خطفها الموت هي الأخرى في ريعان صباها، لتكبر وتتزوج من رشيد المكافح والمناضل والمشارك في تظاهرات احدى المدن الفلسطينية ضد الانكليز واليهود، لتنجب منه أولاداً كثراً بين بنات وصبيان، فكان لكلّ فرد من الشباب قضيته في النضال ضد المستعمرين، فلم تبخل هذه العائلة حين شعرت بأن الواجب يدعوها لتقديم أغلى ما تملك... فيموت من يموت ويُعتقل من يعتقل، ويُنفى من ينفى، وسعاد التي تصيّرها السنوات والهموم عجوزاً ما زالت تنتظر. يمتدّ الزمن السردي من بداية الحرب العالمية الأولى، وبطريقة تتابعية كرونولوجية، يتخللها بعض الاسترجاعات الخارجية والداخلية، لتصل الى منتصف الثمانينات حيث اندلاع انتفاضة الحجارة في غزة والضفة الغربية، وما بين هذين التاريخين نشهدُ أحداثاً كبيرة تتعلّق بهذه العائلة التي تختزل مدينة قلقيلية حيث مسرح الأحداث الرئيسة، ثم نرى قلقيلية تختزل فلسطين عموماً. يلتقط الأحداثَ والسردَ راوٍ عليمٌ كليّ المعرفة، فهو ليس شخصية مشاركة، بل يحتكر السرد والحكي نظراً الى تعدّد الأحداث والشخصيات التي ليس من السهل أن تُحصى، وحين يمنح بعض الشخصيات فرصة للحكي، فإننا نرى تلك الأصوات السردية تعرض ما تعرف وما يتعلّق بها ذاكرةً الوسائطَ التي استقت منها معلوماتها. رواية تاريخية وسياسية واجتماعية بامتياز، تقدّم جرداً معمّقاً لتلك المرحلة التي شهد فيها العالمُ ضياعَ الدولة الفلسطينية، وما فعله أبناؤها من أجلها، سواء أنجحوا في ذلك أم أخفقوا، لما تحويه الثورات من أخطاء وهنات قد تكون سبباً اضافياً في الأزمة...فيقدّم الكاتب، وهو ابن قلقيلية، صورة عن الملاحم البطولية العفوية التي سطّرها الفلسطينيون المخلصون لقضيتهم منذ الحكم التركي إلى اليوم، واضعاً ضوءه الكاشف على بعض الاخفاقات التي يتحملها الشعب ايضاً، كصور التخلّف والجهل التي كانت سائدة في حين يتقدم العدو بثقافة جديدة وآلات حرب حديثة. وأكثر هذه الصور وضوحاً، ارتداد المدافعين عن القرى والمدن، وتجنيد كلّ طاقاتهم من أجل الثأر الداخلي مثلا: «بدأت محاكمة القاتل ومن قاموا بالثأر منه، مدّت المحكمة الى فترات طويلة. بدأت حامولة زيد مثل حامولة نزال بجمع التبرعات من كل أعضاء العائلة، للصرف على القضية.(....) صراع حول قضايا اجتماعية دار آنذاك بين عشائر قلقيلية». (ص108) إضافة الى تنازع المقاومين واختلافاتهم على الامتيازات والمراكز، فتفرّعت القيادات في حين توحّدت قيادة العدو الذي يضع خطة موحّدة ويصرّ على تحقيق اهدافها الكثيرة. فالعادات الاجتماعية المتخلّفة، والتنازع حول المراكز والمغانم، واجبار الناس على دفع مساعدات بالقوة للثورة، إضافة الى عدم قيام الجيوش العربية الوافدة بدورها نظراً الى تلقّي كل جيش أوامره من قيادة بلده... كل ذلك ساهم في انزال الهزيمة وضياع الحقوق كما تشير رؤية الكاتب. لكن الهزيمة لم تكسر ارادة الشعب الذي نما فيه الحس الوطني والقومي والثوري، ولم تمنع اهل فلسطين من تقديم الغالي والنفيس في سبيل قضيتهم، وأكثر ما تمثّل ذلك في ما قدمته عائلة سعاد من تضحيات تجسّدت بالقتال والجراح والأسر، لتنكشف رؤية الكاتب الأكثر أهمية وهي أن سلخ المواطنين عن أهلهم وأرضهم ظناً بأنهم سينسون، لم يزدهم الا تمسّكاً بأرضهم وعدالة قضيتهم:»... بدأت دورة السجن كعادتها تبدأ من جديد في كل مرحلة، إنه قدر الفلسطينيين ومعاناتهم جيلا إثر جيل. تصوّر الاسرائيليون بأن الأجيال الجديدة سيخفّ ارتباطها بوطنها. ثبت العكس، فهذه الأجيال أكثر تمسّكاً بفلسطين من آبائها وأجدادها». (ص 363). إذاً، التاريخ هو الوثيقة الأساسية التي اتّكأ عليها الكاتب لإخراج روايته هذه، وهو يشير إلى بعض مصادر معلوماته في صفحة «كلمة الشكر» حيث تعددُ المراجع والمصادر، ومنها ما كان تاريخياً، ومنها ما كان أدبياً واجتماعياً وسياسياً... ما جعل الرواية تغرق في بحيرة من الدم، يغلّف عالمَها جوٌّ من الموت ورائحة الجثث، وصور النهب واغتصاب الحقوق... إذ امتدّت صفحاتٌ عديدة لتصوير معارك هنا وهناك، ولولا قصة سعاد وما حلّ بها لكنّا أمام أحداث تاريخية خالصة...وعلى رغم ذلك، لم يحرم الكاتب القراءَ والمتلقين، من قصص الحب والعشق التي ترخي بظلال السكينة في مثل أجواء هذه الرواية، فيسلخنا عن أجواء الحرب والقتل والدمار، ليؤكّد أن الحب السمة الانسانية الأساسية، لم يهملها المواطن على رغم ما يحيط به من ظروف قاهرة. فها هو عيسى ابن رشيد وسعاد، المناضل ضد الانكليز واليهود أيضاً، نراه يغرق في حبّ مدمّر، ينتهي بانتحاره ليعلن عن ولائه لحب عاهدَ نفسه على الالتزام به، وذلك بعد انتحار حبيبته حين حاولوا اجبارها على الزواج من غيره. ونظراً الى تهافت الأحداث العظيمة، وانهاك الكاتب في تسيير امورها والامساك بزمام سردها والتحكم بشخصياتها العديدة، نرى الروائي يسقط في شملة أخطاء لغوية، نحوية واملائية، ليس لها من مسوّغ مهما كان الاهتمام بالأحداث أشمل وأكثر حضورا وهيمنة.