إلحاقاً بمقالنا المنشور في عدد "الحياة" يوم 27/2/2000 والذي كنا اوضحنا فيه أهمية الانتخابات السنغالية والظروف التي ستجري في ظلها فسنحاول في هذا المقال تغطية نتائج الجولة الأولى من تلك الانتخابات والنتائج المحتملة للجولة الثانية المقرر اجراؤها في النصف الثاني من آذار مارس الجاري. كانت انتخابات الجولة الأولى جرت في صباح 27 شباط فبراير الماضي واشترك فيها حوالي 57 في المئة من الناخبين المقيدين البالغ عددهم حوالي 6،2 مليون ناخب من مجموع السكان البالغ عددهم قرابة العشرة ملايين نسمة، وأسفرت عن حصول الرئيس عبده ضيوف رئيس الحزب الاشتراكي السنغالي P.S على 64.41 في المئة من الاصوات، بينما حصل منافسه عبدالله واد رئيس الحزب الديموقراطي السنغال P.D.S زعيم المعارضة الرئيسية على نسبة 69،30 في المئة، فيما حصل حزب التحالف من أجل التقدم A.F.P حزب وزير الخارجية السابق مصطفى نياس على 18 في المئة، كما حصل حزب "اتحاد التجديد الديموقراطي" حزب وزير الخارجية الاسبق دجيبوكا على 7 في المئة. وتثير النتيجة بصفة مبدئية مجموعة من الملاحظات أهمها: - انخفاض نسبة الاشتراك في التصويت بالمقارنة مع الانتخابات الرئاسية الثلاثة السابقة والتي كانت تتراوح بين 78 في المئة و63 في المئة، وهو ما نرجعه الى مجموعة عوامل اهمها الغموض المسبق الذي اكتنف نتائج هذه الانتخابات - نظراً لاجرائها في ظروف مغايرة تماماً لما سبقها وعلى نحو اوضحناه في مقالنا المشار إليه آنفاً، ما دفع نسبة كبيرة من الناخبين لتفضيل الانتظار للتعرف على نتائج الدورة الاولى حتى يستطعيوا في ضوئها تحديد من يعطون صوتهم في الجولة الثانية خصوصاً أن كل التوقعات كانت ترجح حدوث جولة إعادة وذلك إعمالاً لقاعدة "التصويت المفيد". * تأكيد ما هو معروف من ظاهرة الاستقطاب الحاد للحياة السياسية للبلاد بين قوتين رئيستين وهما الحزب الاشتراكي السنغالي المتربع على السلطة منذ 40 عاماً والحزب الديموقراطي السنغالي الذي نشأ العام 1974 وكان يعتبر نفسه الوريث الطبيعي لسنغور نفسه، وحيث توجد بينها مجموعة من الأحزاب أو التجمعات السياسية الصغيرة التي تعتمد أساساً على المزايا الشخصية لممثليها بأكثر منه على برامج حزبية والتي لا يستطيع أي منها مفرداً تحقيق أي نجاح ملموس. كما أكدت صحة التوقعات الأولية بأن الرئيس ضيوف ستفرض عليه، للمرة الاولى جولة إعادة خلافاً لما حدث في كل الانتخابات الرئاسية التي خاضها في السابق. * بصرف النظر عن الأسباب التي أدت الى اخفاق الرئيس ضيوف هذه المرة، فإن مجرد حدوث ذلك في انتخابات تجري في ظل رئاسته يؤكد مدى نضج الديموقراطية السنغالية كإحدى أعرق الديموقراطيات في القارة كما يعد مثالاً نادر الحدوث في أي من بلاد العالم الثالث. كذلك اوضحت النتائج فاعلية الاجهزة الرسمية الشعبية التي شكلت لضمان نظام العملية الانتخابية وشفافيتها. * أما عن أسباب اخفاق الرئيس ضيوف في الجولة الاولى - على رغم أنه كان امراً متوقعاً لدى قيادات الحزب الاشتراكي، ولدى الرئيس ضيوف نفسه - فيمكن تصورها في مجموعة عوامل منها: رفض غالبية الشعب على ما يبدو لمبدأ التجديد لفترة رابعة على رغم أنه جائز دستورياً خصوصاً وقد طرحت خلال المعركة وبشدة - شعارات التجديد وحتمية التغيير ازاء احتكار الحزب الاشتراكي للسلطة لمدة 40 عاماً حتى الآن. وكذلك التراجع المستمر في شعبية الحزب الحاكم خلال الأعوام الأخيرة، اذ خسر 10 في المئة من مؤيديه خلال السنوات العشر الماضية ولم ينجح في الانتخابات التشريعية للعام 1998 إلا بأغلبية 2000 صوت فقط. أيضاً استياء غالبية كبيرة من بارونات الحزب الاشتراكي من غياب الديموقراطية داخله واحتكار السلطة داخل الحزب من قبل فئة قليلة من المقربين للرئيس ضيوف وعلى رأسهم سكرتير عام الحزب الحالي عثمان تانورديانغ الذي تمكن من القفز الى أعلى مناصب الحزب متخطياً كثيراً من القيادات الأقدم التي تعتبر نفسها أحق بهذا المنصب وكان هذا السبب بالذات وراء خروج كل من ديجيوكا ومصطفى نياس من الحزب، ووراء التآكل الكبير الذي تعرضت له شعبية الحزب في السنوات الاخيرة ونشأة العديد من المحاور والاجنحة المتصارعة داخله التي تتبادل الاتهامات في ما بينها عن المسؤولية عن تناقص شعبية الحزب. وتفاقم الحركة الانفصالية في اقليم كازامانس في جنوب البلاد خلال الاعوام الأخيرة، وعدم قدرة نظام الرئيس ضيوف على حسم الموقف سياسياً أوعسكرياً، ما كبد البلاد كثيرا من الضحايا من المدنيين والعسكريين. وتهمة الغش والكذب التي لحقت بوزير الداخلية السنغالي الذي ثبت أنه قام سراً بطبع بطاقات انتخابية غير قابلة للتزوير في اسرائيل كلفت البلاد 65 مليون فرنك افريقي. * أما بالنسبة الى زعيم المعارضة الرئيسية في البلاد عبدالله واد فقد أكدت نتائج الدورة الأولى ثبات جمهوره الانتخابي والذي ظل يتراوح خلال الانتخابات الرئاسية الاربع التي خاضها وكانت احداها خلال حكم سنغور في حدود هذه النسبة بين 33 في المئة و28 في المئة وهي نسبة وإن كانت كافية لتأكيد وضعه على رأس القوة السياسية الثانية في البلاد، إلا أنها غير كافية لتمكينه من الوصول الى السلطة، إلا إذا اجرى تحالفات تكتيكية مع أحزاب اخرى للفوز في الجولة الثانية. وساعد على صمود الحزب طوال العشرين عاماً الاخيرة استفادة عبدالله واد من حلفائه الطبيعيين من أحزاب اليمين الليبرالي، وكان يمكن له ان يحقق نسبة أعلى من ذلك لولا أن حزبه كان دائماً وراء معظم القلاقل والاضطرابات الاجتماعية التي تعرضت لها السنغال خلال الاعوام الاخيرة وابرزها اضطرابات العام 1996. * كذلك فإنه رغم ضآلة النسبة التي حصل عليها كل من المرشحين الثالث مصطفى نياس والرابع ديجيبوكا إلا أن النتيجة تعتبر انتصاراً نسبياً لكليهما نظراً لحداثة حزبي كل منهما اذ أسس الأول حزبه: تحالف القوى من أجل تحقيق التقدم A.F.P العام الماضي، بينما كان ديجيبوكا أسس حزبه UPRD خلال العام 1998 وحصل على 11 مقعداً في الانتخابات التشريعية في العام نفسه. كذلك يلاحظ أنه رغم ان جيبوكا كان أكثر تمرساً وأقدم نضالاً في العمل الحزبي، إلا أنه كان من الطبعيي أن يتفوق عليه مصطفى نياس وذلك نظراً لكبر سنه 61 عاماً مقابل 53 لجيبوكا وقوة حملته الانتخابية باعتباره من كبار رجال الأعمال في مجال البترول فضلاً عن صلاته بمعظم قيادات الدول العربية وبخاصة دول الخليج، وأيضاً استناداً الى قاعدته العريضة من اتباع المذهب التيجاني. بينما أن جيبوكا رغم فصاحته البالغة وانتمائه لطبقة الاشراف، إلا أنه كان يؤخذ عليه الاستعلاء والشعور بالتفوق على زملائه من قيادات الحزب السنغالي، كما كان أكثر عنفاً في خصومته للرئيس ضيوف وفي عدائه لشخص السكرتير العام للحزب. * وأعتقد عموماً أن كلاً من نياس وجيبوكا لم يكونا يتوقعان الفوز في الانتخابات بقدر ما كانا يحرصان على تأكيد قوتهما على المسرح الداخلي ولمجرد الاستعداد لانتخابات العام 2000، كما أن مجموع اصواتهما حوالي 25 في المئة يؤكد أن حزبيهما أضحيا يمثلان فقط الجهة الوحيدة التي يمكن ان ترجح فوز أي من اليمين أو اليسار في السنغال والتي سيتعين بالتالي على الحزبين الرئيسيين في البلاد العمل على استقطابها نظراً لمكانتهما الدولية المرموقة كوزيري خارجية سابقين. وتبقى بعد ذلك محاولة التعرف على نتائج معركة الاعادة المقررة، ورغم صعوبة الحسم في هذا الصدد إلا أنه يمكن تصور نتائج الجولة الثانية على النحو التالي: * إما أن يقتنع الرئيس ضيوف شخصياً بملاءمة تنحيه طواعية عن خوض الجولة المقبلة حرصاً على استمرار هيبته في وجدان السنغاليين جميعاً، ويسهل تحقيق مثل هذا الفرض بالطبع مهمة عبدالله واد في الفوز في الجولة الثانية. * واذا أصر الرئيس ضيوف على خوض معركة الاعادة، فإنه يستبعد نجاحه إلا في حالة حدوث فرض واحد يشبه المعجزة، وهو أن يتمكن في النهاية من استقطاب أصوات كل من حزبي نياس وجيبوكا مقابل تفاهم حول اقتسام المناصب الدستورية الثلاثة في ما بينهم رئاسة الدولة - رئاسة الوزارة - رئاسة الحزب. ورغم ما يبدو ظاهرياً من إمكان تحقيق هذا الغرض إلا أنه مستبعد، إذ أن الاعوام الثلاثة الاخيرة باعدت كثيراً بين ضيوف ووزيريه السابقين كما ان مصطفى نياس صرح بأنه في حالة استبعاده من الجولة الاولى فسيصوت في الجولة الثانية لمصلحة خصم الرئيس ضيوف أي لعبدالله واد كذلك فإن جيبوكا طالب الرئيس ضيوف علناً في أعقاب نتائج الجولة الاولى بالتنحي عن خوض معركة الاعادة. كما انه كان يجاهر دائماً بأنه من صنع الرئيس السابق ليبوبولد سنغور وليس عبده ضيوف، فضلاً عن عدائه الشخصي المعروف والمستحكم ضد السكرتير العام للحزب الاشتراكي، عثمان تاتور ديانغ، المقرب كثيراً من الرئيس ضيوف. وفي المقابل تتزايد فرص عبدالله واد في الفوز رغم حصوله فقط على حوالي 31 في المئة من الأصوات في الجولة الاولى، ويستطيع تحقيق هذا الفوز بسهولة اذا نجح في استقطاب اصوات بعض زملائه القدامى من اعضاء الحزب الديموقراطي السنغالي، وكذلك استطاع أساساً تحقيق تحالف تكتيكي مع كل من حزبي نياس، وجيبوكا استناداً الى مواقفهما العلنية الأخيرة المناهضة للرئيس ضيوف، او أن ينجح على الاقل في استقطاب مجموعة أصوات مصطفي نياس وحده نظراً لصعوبة تصور قبول جيبوكا للتحالف مع عبدالله واد لمواقف الاول غير الودية إزاء واد عندما كان وزيراً للداخلية في العام 1992، إذ هدده بالسجن والمحاكمة باعتباره مسؤولاً عن أحداث الشغب آنذاك. ويستتبع تحقيق الفرض المتقدم تحالف نياس مع عبدالله واد التوصل الى اتفاق بينهما على اقتسام المناصب الدستورية، الحقائب الوزارية بصورة تتوافق عليها الأطراف المعنية وهو فرض يمكن تحقيقه. وفي كل الحالات وبصرف النظر عن نتيجة الجولة الثانية فقد خلقت تلك الانتخابات فعلاً مجموعة من المعطيات الجديدة التي أضحت تفرض نفسها على السنغال والمنطقة كلها ومنها: * إنه حتى بافتراض إمكان نجاح الرئيس ضيوف، بأغلبية ستكون ضئيلة جدا بالطبع، وبعد اضطراره للاستعانة بحلفاء من خارج الحزب الاشتراكي فإن ذلك سيتيح بلا شك فرصة إحداث تغيير سلمي في السنغال ينهي احتكار الحزب الاشتراكي السنغالي الانفراد بالسلطة لقرابة 40 عاماً حتى الان، والذي بات واضحاً أنه أصبح مهدداً بدرجة لم يعهدها طوال حياته بالتشرذم والانقسام منذ تعرضه لأكبر نكسة مني بها في تاريخه نتيجة إنسلاخ كل من مصطفى تياس وجيبوكا عنه. كما استطاعت هذه الانتخابات إنهاء الجمود النسبي الذي اتسمت به الحياة السياسية في السنغال أسوة بغيرها من العديد من الدول الافريقية التي كانت تقع في تناقض ظاهري بين وجود تعددية شكلية واحتكار حزب واحد للسلطة وتفعيل نظام التعددية الحزبية في إطار سلمي يجنب بذلك السنغال - والقارة الافريقية كلها - مخاطر حدوث انقلاب عسكري جديد يهيئ لانتقال السلطة سلمياً في أعقاب انتخابات لاحقة على غرار انقلاب الجنرال جويه الأخير في ساحل العاج في 15/12/1999 على نحو ما كان هدد به واد نفسه من اللجوء للجيش إذا لم ينته نظام الرئيس ضيوف. * كما توضح من الآن فصاعداً - وحتى مستقبل غير قصير - صعوبة إنفراد أي حزب سنغالي بالحصول على الاغلبية المطلقة التي تمكنه من الانفراد بالسلطة بل ترجيح قيام حكومات إئتلافية يشترك فيها أكثر من حزب وتحكم على أساس برنامج ائتلافي وليس على أساس برنامج حزب الأغلبية كما حدث في الماضي في عهد الرئيس ضيوف والذي كان قبل طواعية أن يشترك معه في الوزارة بعض رموز المعارضة من بينهم عبدالله واد نفسه ولكن بشرط الالتزام ببرنامج حكومة الأغلبية، وهو ما يساعد في النهاية على ضمان تحقيق الأمن والاستقرار والسلم الاجتماعي للدول الافريقية وليس مجرد النصر في معركة انتخابية وإرضاء تطلعات الصفوة الافريقية في اقتسام السلطة. كذلك تتيح نتيجة الانتخابات الفرصة مستقبلاً لقيام صيغة التعايش بين رئيس دولة من حزب الأغلبية ورئيس وزراء من حزب آخر، على غرار الصيغة الفرنسية القائمة حالياً ومنذ 1981. * كما ستفرض نتيجة هذه الانتخابات وبشدة ضرورة تعديل الدستور السنغالي في اتجاه تقصير مدة الرئاسة الى 5 سنوات بدلا من 7 حالياً وقصر حق الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية لثلاث فترات دستورية على الأكثر، وفقاً لما كان وعد بتحقيقه الرئيس ضيوف نفسه في حال نجاحه. * فضلاً عما ستفرضه نتيجة الانتخابات بداية من إحداث تجديد شامل للمسرح السياسي السنغالي بكامل مكوناته خصوصاً لدى قطبيه الرئيسيين: الحزب الاشتراكي والحزب الديموقراطي السنغالي، إذ سيتعين على الأول محاولة تطوير نفسه والاستفادة من دروس وأخطاء الماضي بحيث يصبح قادراً على استعادة بعض عناصره الشاردة أو على الأقل لمنع زيادة تشرذم الحزب أو انقسامه، واستعادة قاعدته الانتخابية ولو بصورة تدريجية. ولا شك أن اختفاء الرئيس ضيوف بكل ثقله الاقليمي والدولي من المسرح، سيفرض على الحزب مشكلة آنية، وهي مشكلة إيجاد خليفة له يكون قادراً على استعادة أمجاد الحزب، كما سيفرض إعادة صياغة وتشكيل هياكله من خلال البحث عن معايير جديدة تحدد أولويات الاختيار للمناصب القيادية داخل الحزب، ولتقليص ظاهرة عثمان تاتور السكرتير العام العالي التي كانت اساساً وراء كل الانقسامات الحادة التي شهدها الحزب خلال العشرة أعوام الأخيرة. * وتثور المشكلة بالنسبة لحزب عبدالله واد حزب المعارضة التاريخية للبلاد، إذ إن كبر سنه 74 سنة سيفرض على الحزب المشكلة نفسها وهي قرب اختيار خليفة لواد من العناصر الشابة التي تكون قادرة على مواصلة العطاء خصوصاً أنه أعلن أيضاً أنه ربما لن يكمل في حالة نجاحه فترة ولايته الدستورية وإنما قد يلجأ بعد عامين من بدايتها للتنحي لغيره من القيادات الشابة في الحزب. أما عن نتائج هذه الانتخابات على الصعيدين المحلي والدولي: * فلا شك أن اختفاء الرئيس ضيوف من المسرح السياسي السنغالي لأي سبب سيفقد فرنسا حليفاً تاريخياً مهماً من أقطاب الفرانكوفونية. * كذلك فإن توجهات أي رئيس مقبل للسنغال ستكون بلا شك أكثر اقتراباً من الخط الاميركي عما كان عليه الحال بالنسبة الى الرئيس ضيوف، كما أن تولي واد السلطة في تحالف مع مصطفى نياس سيزيد من تطلعات الولاياتالمتحدة لتحقيق مزيد من التغلغل الى معاقل النفوذ الفرنسي في جنوب الصحراء، ويعيد ذلك للأذهان جولة الرئيس كلينتون الافريقية الشهيرة في آذار مارس 1998 التي كانت السنغال هي المحطة الفرانكوفونية الوحيدة فيها. * عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية.