كانت قرارات القمة العربية في القاهرة الاسبوع الماضي عاقلة ومتزنة وواقعية الى ان جاء رد الحكومة الاسرائيلية عليها فوضعها وراء الزمن والحدث. وهذا يتحدى القادة العرب ويدفعهم الى ضرورة الاسراع في التعاطي تماماً مع ما تجاهلته القمة، وهو التمعن في الخيارات التي تقع بين انتهاء العملية السلمية وبين الحرب المرفوضة، ودراسة البدائل، والنظر في ما هو العمل اذا رفضت اسرائيل التجاوب مع رسالة القمة المعتدلة. فالآن، وقد قامت الحكومة الاسرائيلية بما صممت القمة العربية عدم القيام به، اي التعليق الرسمي لعملية السلام، مع اتخاذها الاستعدادات لخيار الحرب على الفلسطينيين وعلى الجيرة العربية، دخلت المعادلات منعطفاً جديداً. والامر يتطلب نضوجاً في فرز الخيارات. وليس هناك ما يمنع القادة العرب من عقد قمة طارئة فورية اخرى لاستئناف قمة القاهرة التي نص بيانها على هذا الخيار. انما من الضروري ان يسرع صاحب القضية الفلسطينية الاول، قيادة ومعارضة، نخبة وقاعدة شعبية، الى صياغة التصورات والمواقف المشتركة بعيداً عن ذلك التخبّط الداخلي الفلسطيني ومع بُعده العربي ليشرح حالاً وبوضوح ما يريد. ومن الضروري ان يواجه القادة العرب استحقاقات التعهد بدعم القرار الفلسطيني. كانت قمة القاهرة قمة "الممكن" وقدمت "قدر المستطاع" في تبنيها موقفاً استبعد الحرب عن الخيارات وحجب ورقة النعي عن عملية السلام للشرق الاوسط. قالت القمة للفلسطيني في السلطة وفي الانتفاضة "نحن معك" فاحترمت بذلك صاحب القضية الاول ليصيغ خياراته، مع التعهد بدعم هذه الخيارات. وقالت للاسرائيلي ان القرار العربي هو عدم الخوض في حرب معه وانما العمل على انقاذ عملية السلام. لو اختارت الحكومة الاسرائيلية العملية السلمية التفاوضية لمعالجة الخلل الذي طرأ على مسيرة العلاقة الفلسطينية - الاسرائيلية نحو التعايش لردت على القمة العربية برسالة اعتدال مشابهة. لكنها شاءت عكس ذلك، وتبنى رئيس الوزراء ايهود باراك التعليق الرسمي لعملية السلام باعلانه "الاستراحة" ذات النهاية المفتوحة من عملية السلام، وتشديده الخناق على الاقتصاد الفلسطيني، واتخاذه اجراءات "الفصل" واستمراره باللغة العسكرية، واستعداداته على الجبهات الفلسطينية والسورية واللبنانية على السواء. الرد الاسرائيلي على القمة العربية لا ينفي واقع توجهها برسالة عاقلة ومتزنة وحكيمة في تجنبها قتل عملية السلام للشرق الاوسط التي بدأت قبل تسع سنوات. فالعرب نطقوا بلسان السلم المعتدل، والاسرائيليون ردوا بلسان الحرب والتطرف. وليأخذ الرأي العام العالمي علماً بذلك. هذا الرد يفرض اعادة خلط الاوراق عربياً والقيام بما تجنبت القمة العربية القيام به وهي في صدد صياغة التضامن. فقد غاب عن قمة القاهرة وضع رؤية لسيناريوهات الاستمرار في العملية التفاوضية او تعليقها او دفنها، وغاب النظر في الاجراءات المترتبة على اي من هذه السيناريوهات. حدث ذلك لأن القادة العرب ارادوا ان يبلغوا اسرائيل والعالم انهم لا يريدون الحرب وانهم عازمون على اعطاء العملية السلمية فرصة لاستعادة الزخم. والآن، على العواصم العربية، كما على السلطة الفلسطينية، ان تتدارس في الخيارات وتتصارح في الامكانات لتضع استراتيجيات السلم ونقيضه، كان ذلك في حرب محصورة فلسطينياً او موسعة عربياً او في معادلة اللاحرب واللاسلم عربياً فيما تحسم اسرائيل المسألة الفلسطينية باستفراد. اولى حلقات المصارحة تدخل في خانة امكانات قلب الطاولة على التصعيد والاستفزاز الاسرائيلي بمبادرة سلم مدهشة. مثل هذه المبادرة تتطلب من الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ان يفعل ما فعله آية الله الخميني عندما قرر ان يتجرع "كأس السم" ليقبل قرار وقف النار مع العراق، وهذا يعني ان يوافق الرئيس الفلسطيني على ما رفض الموافقة عليه قبل 28 ايلول سبتمبر الماضي في اطار ما وصلت اليه المفاوضات. فلقد اقترب المفاوضان الفلسطيني والاسرائيلي من الاتفاق على كل التفاصيل باستثناء السيادة على الحرم الشريف الذي تسميه اسرائيل "معبد الهيكل" باعتباره موقعاً مقدساً لليهود ايضاً. طُرح ما يفوق ثلاثين "فكرة خلاقة" لمعالجة مسألة السيادة على الاماكن المقدسة وعلى رأسها الحرم الشريف، من دون التمكن من الاتفاق. ايهود باراك تراجع في اعقاب كامب ديفيد عن طروحات سيادة اسرائيلية لكنه رفض ان تكون السيادة فلسطينية. ياسر عرفات اوشك على الموافقة على سيادة طرف ثالث شرط ان يتضمن عناصر اسلامية قوية. لكنه اراد شراكة عربية واسلامية في اتخاذ مثل هذا القرار. توجه الرئيس الفلسطيني الى القاهرة وعمان والرياض والرباط وغيرها من العواصم طالباً الشراكة في اتخاذ القرار، فقيل له ان ذلك مستحيل واكثر ما يمكن ان يحصل عليه هو عدم الاعتراض. لذلك تلكأ، فيما كانت عقارب ساعة الاعتبارات الاسرائيلية السياسية الداخلية تدق الى ساعة الحسم. قد يكون فات الاوان على مبادرة سلم مدهشة تنطلق من مبدأ "تجرع السم" لا سيما وان هناك كل مؤشر يفيد بأن القاعدة السياسية وربما الشعبية الاسرائيلية ايضاً، مدّت الى باراك السلم ليتسلق هبوطاً عن عروضه في شأن القدس. فهو اجتاز خطاً احمر في الاعتبارات الاسرائيلية، وبات ضرورياً اعادته الى الحظيرة. ولكن، قد يكون ما ذاقه الاسرائيليون من مرارة طعم المستقبل في ظل انتهاء العملية السلمية محركاً لهم ايضاً لتبني مبدأ "تجرع السم" فيتقبلون مبادرة الادهاش ويتجاوبون معها. فاذا كان هذا الخيار قائماً، فإنه لا يتحمل اخذ الوقت بل يتطلب سرعة فائقة في وضع الاسس اللازمة له، فلسطينياً وعربياً واسلامياً ودولياً، مع بضع عواصم اساسية. انه خيار المجازفة والجرأة على المفاجأة. فهو الخيار الاخطر بكل معنى الكلمة يتطلب الجأش والاستعداد للعواقب. قد يكون هذا الخيار غير وارد على الاطلاق بسبب ما وصلت اليه الامور، ولان منطق المواجهة احتل مكان منطق التفاوض. في هذه الحال، باتت سيناريوهات الحل السلمي التفاوضي اكاديمية ولا حاجة للنظر في بدائل عن الرعاية الاميركية المنحازة لاسرائيل كما يطالب البعض، لا سيما وان واقع الامر ان رعاية العملية السلمية توسعت منذ كامب ديفيد لتشمل، الى جانب الولاياتالمتحدة، الاتحاد الاوروبي والامم المتحدة وبعض الدول العربية. واقع الامر ان ما توصلت اليه المفاوضات التي اطلقتها عملية اوسلو وصلت الى اقصى اقترابها من الاتفاق قبل ان يأتي الانفجار ليمنع الوصول الى اتفاق. حقيقة الامر ان منطق اوسلو الذي اطلق المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية الثنائية المستقلة عن مسارات المفاوضات الاخرى التي اطلقتها عملية مدريد يطالب الفلسطيني بحسم خياراته، تفاوضاً او انتفاضياً، سلماً او حرباً، كأساس لأي موقف عربي. وذلك مفقود في هذا المنعطف. من الطبيعي ان تختلف الآراء وان يبرز الانقسام في الصفوف الفلسطينية. فهذه مأساة يتداخل فيها الألم والخوف والاحباط والطموحات المتوقفة على مزاج واعتبارات قوة محتلة تتخبط بدورها في حيرة. ولكن الفلسطيني مطالب اليوم باتخاذ قراره بنفسه اولاً، ثم على بقية العرب دعمه كلياً بكل الامكانات. اما ان يقال ان على العرب اتخاذ القرارات والاجراءات وإلا اتسموا بالتخاذل والفشل، فهذا ينفي سيرة حديثة للعلاقة الفلسطينية بقضيتها، ويضع العلاقة العربية بالقضية الفلسطينية في اطر تتجاهل ما اتخذه الطرف الفلسطيني من قرارات. وباختصار، ان الطرف الفلسطيني اختار في التسعينات بالذات ان يكون سيد قضيته وهمش البقية العربية في هذا القرار. وهذا حقه. اما ان يعود فجأة ليستدرك وليطالب ان يقوده القرار العربي، ففي ذلك ازدواجية واجحاف. فالعملية السلمية التي انطلقت من مؤتمر مدريد عام 1991 انحرفت في عملية اوسلو عام 1994 بقرار فلسطيني فحواه الانفصال عن التعددية العربية في المفاوضات مع اسرائيل. فإذا فشلت عملية اوسلو اليوم فهذا ليس خطأ بقية العرب. واذا كانت اوسلو نجحت، وهي تتعثر مؤقتاً، فإن مهمة العرب هي دعم الفلسطيني وليس اتخاذ القرارات نيابة عنه. ولهذا، ان القرار فلسطيني اولاً، والقمة العربية حافظت على ذلك القرار واحترمت في الوقت ذاته حق الفلسطيني ان يغير رأيه او خياراته عبر دعمها الانتفاضة والسلطة وابراز الاستعداد لاستمرار التضامن مع القرار الفلسطيني. هدف هذا الكلام ليس تبرير التقصير العربي او اعفاء القادة العرب من المسؤولية. هدفه ابراز اهمية ان يكون تقرير المصير الفلسطيني فلسطينياً اولاً كي تبقى القاعدة الشعبية العربية المتضامنة مع الشعب الفلسطيني متماسكة في هذا الدعم مهما سعت قيادة هنا او هناك ان توقع شركاً في هذه القاعدة. هدفه ان تعي القطاعات الفلسطينية المختلفة ان عودة القضية الفلسطينية الى صميم العاطفة والفكر العربي لا تعني استعداد القاعدة الشعبية العربية ان تخوض حرباً من اجل القضية الفلسطينية. فالحرب ليست مستبعدة في القرار السياسي فحسب وانما ايضاً في اعتبارات الفرد العربي غير الواقع تحت الاحتلال. ذلك ان الشارع العربي، على رغم صدقه العميق في تعاطفه وتضامنه مع الانتفاضة فإنه ليس قادراً، وربما ليس مستعداً لعبور الحدود ليقدم اطفاله بسلاح الحجارة في وجه الجندي الاسرائيلي حامل البندقية والمختبئ وراء الطائرات والدبابات. لقد قرر ايهود باراك "الاستراحة" من العملية السلمية ومواجهة الانتفاضة عسكرياً. قد يقمعها بنجاح وقد يفشل في قمعها. قد تدعمه القاعدة الشعبية الاسرائيلية وقد تحاسبه لتسقطه شأنه شأن شمعون بيريز عندما خاض معركة "عناقيد الغضب". هذا لاحقاً، اما اليوم فإن باراك يتخبط في الارتباك ويركز على انقاذ مستقبله السياسي بأي ثمن. اليوم، يقع الاصطدام المباشر بين الطرح الفلسطيني القائل باستمرار الانتفاضة والمفاوضات معاً والطرح الاسرائيلي القائل بأن تزاوج الانتفاضة والتفاوض مستحيل. التطورات على الساحة توحي بأن الخيار وقع على المواجهة. فإذا كانت هذه هي ملامح الفترة المقبلة، لا بد للطرف الفلسطيني من ايضاح انسحابه هو ايضاً من العملية التفاوضية السلمية واستيضاح العرب عن معنى الدعم والتضامن معه في مرحلة المواجهة. الانظمة العربية ستستمر في دعم الانتفاضة، حتى وان لم ترغب، ذلك ان التقاعس في دعم الانتفاضة يهددها في الداخل بسبب صدق العاطفة الشعبية في تضامنها مع الانتفاضة. في قمة القاهرة وُضعت آلية دعم، مالية وسياسية، لكن استخدام سلاح النفط تم استبعاده كلياً لان الرسالة الاساسية كانت سلمية ولأن هذا السلاح ليس على الطاولة لاعتبارات المصالح الوطنية. ما افرزه الرد الاسرائيلي على القمة العربية يتطلب عودة القادة العرب الى البحث في الخيارات الواقعة ما بين النعي الاسرائيلي للعملية السلمية وبين النعي العربي لوسيلة الحرب. فاذا تعذر عقد قمة عربية اخرى بذريعة او بأخرى، فإن القمة الاسلامية بعد اسبوعين في الدوحة مناسبة لعقد قمة عربية جانبية ضرورية لرسم ملامح الخيارات. اما اذا كانت القيادات العربية واعية لعنصر الزمن في الرزنامة السياسية الاسرائيلية قد تستنتج ان عليها الاجتماع فوراً لاتخاذ القرارات. هذا اذا لم يكن القرار اتخذ باطنياً في قمة القاهرة وفحواه التمترس ما بين ورقتي النعي لان هذا كل ما في المستطاع.