بعد فراق استمر اكثر من سبع سنوات، يعود اليوم ياسر عرفات الى حضن القمة العربية ليكتشف عمق الارتباط الذي يشدّ القضية الفلسطينية الى دول شاركت في صنع تاريخها الدامي مدة تزيد على نصف قرن. كان رئيس السلطة الفلسطينية يتمنى الوصول الى قمة القاهرة قبل ان تضطره ضغوط كلينتون وتهديداته لحضور قمة شرم الشيخ، حيث جرده الحاضرون من أهم اسلحته واكثرها فعالية. ذلك ان قرار التخلي عن مواصلة الانتفاضة حرمه من بلوغ قمة القاهرة وسط اجواء الغليان الشعبي في الضفة وغزة... ومنعه من استغلال تظاهرات الغضب والاستنكار في الشارع العربي. وبفقدان هاتين الوسيلتين المؤثرتين، فقد عرفات فرصته التاريخية في كسب دعم الدول الكبرى لموقفه المعارض لاسرائيل... وفي الحصول على القرارات المرجوة من القادة العرب. وتعرض لانتقاد القيادات الفلسطينية لأنه أضاع في شرم الشيخ ما سبق ان أضاعه ايضاً في أوسلو، أي توظيف الانتفاضتين للتغلب على الهيمنة العسكرية الاسرائيلية وتحسين شروطه في المفاوضات. أصدقاء عرفات يدافعون عن قرار وقف إطلاق النار بالقول ان جماعات أصولية استغلت اجواء الانتفاضة لتقوم بإحراق محلات بيع المشروبات الروحية ومكاتب تمثيل الشركات الاجنبية. اضافة الى هذا العامل، فإن القيادة الفلسطينية تعرضت لضغوط دول عربية رأت في الانتفاضة متنفساً داخلياً ومحرضاً قومياً لتصفية حسابات القوى المعارضة للانظمة. وهذا ما يفسر ارتفاع الشعارات المناوئة للحكام فوق التظاهرات التي عمت الشارع العربي. ولقد سجلت تحركات هذا الشارع الناقم سلسلة أحداث خطيرة ليست لها أي صلة بالانتفاضة الفلسطينية. من هنا رأى العديد من المراقبين ان اصرار كلينتون على عقد قمة شرم الشيخ كان الهدف منه الحفاظ على الحلول السلمية، وضمان استقرار الانظمة المتعاملة مع اميركا، وتنفيس الاحتقان العربي قبل قمة القاهرة. ويبدو ان العقيد معمر القذافي لمس هذا التوجه من خلال مسودة مشروع معتدل قال انه تسلمه قبل انعقاد القمة العربية، لذلك أعرب عن استيائه من اعداد بيان ختامي قبل الاجتماعات، مؤكداً انه لن يشارك في هذه المسرحية المعدة سلفاً. بين الدوافع الاساسية التي شجعت كلينتون على استعمال عبارات التهديد والوعيد، كان الخوف من تنامي شعور الكراهية والحقد ضد الوجود العسكري الاميركي في المنطقة. قال سيد البيت الأبيض لرئيس السلطة الفلسطينية في مكالمة هاتفية قاسية اللهجة: "أنا لا أسمح للجثث بأن تؤثر على مستقبل السلام، وعلى مستقبلنا جميعاً. وعليه أتوقع منك ومن باراك الدعوة الى التهدئة والحوار". والمؤكد ان جثث بحارة المدمرة التي ضربت في مرفأ عدن، كانت بمثابة انذار سياسي بأن الحضور الاميركي - العسكري والمدني - يتعرض لمخاطر الارهاب، خصوصاً بعدما استغل العراق هذه العملية ليطالب بسحب القوات الاميركية، ويقترح تشكيل نظام أمني تقيمه دول المنطقة. وواضح من اهتزاز اسعار النفط، ان الأزمة الفلسطينىة - الاسرائيلية مرشحة لإحداث خلل في الاسواق المالية العالمية، الأمر الذي يعني ان العولمة بدّلت قواعد اللعبة الاقتصادية... وان الدول الصناعية المعتمدة في رفاهيتها واستقرارها على نفط الخليج، يمكن أن تتأثر بانهيار مشروع السلام. لذلك صدرت صيحات التحذير من كبار رجال المال والمصارف، بأن توقف عملية السلام يمثل الدخول في أزمة جديدة وصفها العالم الاقتصادي لاروش بأنها مرحلة غامضة تثير الهلع. الدافع الآخر الذي حمل كلينتون على المطالبة بعقد قمة مصغرة تجمعه وعرفات وباراك، كان التأثير السياسي الذي أحدثته تظاهرات العرب الأميركيين على الميزان الانتخابي. ولقد حاول اللوبي اليهودي تنظيم تظاهرات مناهضة لعرفات والانتفاضة، إلا أن الجاليات العربية والاسلامية أثبتت هذه المرة قدرة فائقة على خلق جو مؤيد للحق الفلسطيني. والملاحظ ان زعيم "أمة الاسلام" لويس فرقان قد أحدث بلبلة داخل الحزب الديموقراطي عندما استطاع أن يقود مسيرة مناهضة لإسرائيل تحت شعار "مسيرة المليون عائلة"، ويطالب في خطابه المرشح لنائب الرئيس جوزف ليبرمان بأن يحدد ولاءه الحقيقي لإسرائيل أم لأميركا؟ وبما ان الحزب الديموقراطي يمثل تضامن الأقليات المضطهدة... وبما ان الجالية اليهودية تعتبره قاعدتها الانتخابية، فإن التمادي في توسيع حجم التظاهرات، سيؤثر بالطبع على شعبية آل غور ونائبه ليبرمان. وهذا ما دفع كلينتون للضغط على المشتركين في قمة شرم الشيخ لاعلان وقف الانتفاضة، والشروع في تهدئة الأوضاع. يجمع المراقبون على القول بأن الحملة الاعلامية العربية المساندة للانتفاضة، نجحت في اختراق جدران الصمت التي شيدتها الجاليات اليهودية في العواصم الغربية. ولقد اعترف ايهود باراك بأن الفضائيات والاذاعات والصحف العربية ربحت حرب الاعلام، لأنها عرفت كيف تحرك المشاعر وتبدل مزاج الرأي العام. أي انه لم يعترف بصدقيتها واخلاصها المهني، وانما اتهمها بالتحريض واستثارة العواطف. ولهذا برر ضرب موقع ارسال التلفزيون الفلسطيني في رام الله لأنه يعتبر التلفزيون مسؤولاً عن تأجيج الشارع باستخدام صور الكراهية وعبارات التمرد والعصيان. والثابت ان شراسة الجيش الاسرائيلي هي التي وسعت حجم المقاومة، خصوصاً بعد قتل سبعة فلسطينيين اعترضوا على زيارة شارون للمسجد الأقصى... واغتيال الطفل محمد الدرة بطريقة لاإنسانية ولاأخلاقية ذكّرت بأعمال النازيين. ثم اتبعت الآلة العسكرية الاسرائيلية حصادها الدموي بقتل أكثر من مئة متظاهر بينهم ثلاثون طفلاً لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشرة. وادعى رئيس الأركان شاؤول موفاز ان عرفات يحرض أطفال الحجارة على الاشتراك في التظاهرات لكي يحصل بواسطتهم على عطف الرأي العام ومساندته. ومثل هذا التشويه المتعمد لفكرة النضال، يعكس الى حد كبير مدى القلق الذي سببته الانتفاضة الشعبية للدولة الاسرائيلية عندما كشفت عن دورها في تقليد الارهاب النازي. وأيدت هذا الوصف بطريقة مخففة افتتاحية صحيفة "الاوبزرفر" يوم كتبت تقول بأن حكم اسرائيل لا يختلف عن حكم البيض في دولة جنوب افريقيا، وأن المنطق يفرض على الولاياتالمتحدة معاقبتها بالحظر الاقتصادي. وكما تطالب السلطة الفلسطينية من لجنة التحقيق المرتقبة اكتشاف الدوافع الحقيقية لحضور شارون الى ساحة المسجد الأقصى، كذلك ستطالب بالكشف عن سبب ارسال جنديين اسرائيليين الى رام الله في وقت كانت الجموع الغاضبة تشيع الشهيد بدر سمور. وكان لا بد من اعتقالهما بواسطة الشرطة الفلسطينية التي رأت في ظهورهما المفاجئ قرب الجنازة استفزازاً قد يعرض حياتهما للخطر، خصوصاً وأنهما يحملان كميات من الذخيرة والقنابل اليدوية. وتنظر قيادة الشرطة الفلسطينية إلى هذا الحادث المدبر بعين الريبة، كأن إسرائيل كانت بحاجة ماسة إلى عمل دموي يمكن أن توظفه إعلامياً لتغطية مظاهر الصور البشعة التي تبثها الفضائيات يومياً حول عمليات القتل الجماعي!! السؤال المطروح بالحاح في قمة القاهرة يحاول رسم معالم المرحلة المقبلة بعدما ربطت قمة شرم الشيخ اتفاق أوسلو باتفاقي كامب ديفيد مصر ووادي عربة الأردن. ويرى العديد من المحللين ان القمة العربية ستتبنى توصيات قمة شرم الشيخ، وان اجتماعاتها أصبحت استعراضية لكونها أنهت أعمالها قبل أن تبدأ. ومن المؤكد أنها ستقوم بتعديل التوصيات على نحو يبرر لعرفات دعوته إلى التهدئة، مع الاعتراف بأن بديل وقف عملية السلام يمهد لاستئناف حالة الحرب. ومن المتوقع أن تجدد لعرفات مهمته التفاوضية بعدما أعلن ايهود باراك أنه يبحث بين القيادة الفلسطينية عن شريك آخر. ومثل هذا القرار يحرر عرفات من العزلة الداخلية التي ضربها الجيش الإسرائيلي حول سلطته في غزةورام الله، كما يمنحه تفويضاً بتمثيل محور عربي يطالب بقطع العلاقات ووقف التطبيع في حال رفضت إسرائيل استئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني. وفي مطلق الأحوال، يبقى حضور غالبية الزعماء العرب في قمة القاهرة، الخطوة الايجابية الأكثر تميزاً، كأن كراهية إسرائيل بقيت وحدها حلقة الوصل بين الأنظمة المتنافرة، وبالمقابل يمكن الاستطراد في الاستنتاج بأن كراهية إسرائيل للعرب هي التي جمعت الأحزاب الدينية واليمينية وراء سياسة باراك المتشددة. وبناء على ما تقدم، يمكن القول إن أخطاء باراك قطعت نسيج العلاقات الشخصية بينه وبين شريكه عرفات... كما أحدثت ممارسات جنوده قطيعة شاملة بين الشعبين يصعب تجسيرها. ومن قمة القاهرة تنطلق أسئلة جديدة تتعلق بمستقبل المفاوضات، وما إذا كان عرفات قد أعلن يأسه من انحياز أولبرايت ودنيس روس، وقرر انتظار نتائج الانتخابات الأميركية لعله يجد لدى الإدارة الجديدة ما فشل كلينتون في تقديمه. وهذا يقتضي ملء الفراغ الزمني باستئناف نشاط طواقم المفاوضين، شرط أن تصدر لجنة التحقيق قرارها حول أعمال العنف. هذا مع العلم بأن باراك أصرّ على أن تكون واشنطن هي مصدر صلاحيات اللجنة، وان يكون دور كوفي أنان استشارياً فقط... وان تمنح إسرائيل حق الفيتو، إضافة إلى حق اختيار الأعضاء من دول معينة. كما أصرّ أيضاً على جمع الأسلحة من أعضاء في منظمة "فتح"، قال إنها غير قانونية، لكونها أخرجت من مخازن السلطة الفلسطينية من دون مراقبة إسرائيل وموافقتها. أما في المجال السياسي، فقد أبلغ باراك حليفه كلينتون بأن هناك مرحلة قصيرة جداً لم تعد صالحة لاستئناف المفاوضات على أساس التسوية الدائمة، وان الوضع المستجد يقتضي الاتفاق على حلول مرحلية بانتظار الرئيس الأميركي الجديد. تقول الصحف الإسرائيلية إن باراك لا يستطيع الاستمرار في الحكم من دون دعم شارون، وان ربط الانتخابات المقبلة باستفتاء آخر للسلام مع العرب، هو خيار فاشل. ومعنى هذا ان برنامج حزب العمل قد سقط، وان الحاجة تقتضي تعويمه ببرنامج آخر ربما يشعل انتفاضة ثالثة في الضفة وغزة. عندئذ لن يكون البحث عن شريك غير عرفات مقتصراً على باراك وحده... بل ان الفلسطينيين سيبحثون عن بديل آخر يخرجهم من ورطة السلام الإسرائيلي! * كاتب وصحافي لبناني