دخلت العلاقة الفلسطينية - الاسرائيلية مرحلة جديدة لا سابقة لها، يصعب على بقية العرب فهم تفاصيلها النوعية، مهما تضامنوا مع او زايدوا على العاطفة والفكر الفلسطينيين. انه مشروع تعايش في السلم او نقيضه. ذلك ان الفناء ليس وارداً لأي من الطرفين، فيما التداخل بين مصير الشعبين يفرز الاعتباطية والكراهية كما الإقرار بحتمية مراحل انتقالية الى قرار نهائي. فالتجربة الفلسطينية - الاسرائيلية فريدة في الصراع العربي - الاسرائيلي، وليس في مصلحة فلسطين والفلسطينيين ان تتبارى بقية العرب على اختراعها بتجاهل تام لخصوصيتها. وهناك جيل جديد في انتفاضة القدس، غير جيل الانتفاضة الاولى، وهناك لغة جديدة في المخاطبة الفلسطينية - الاسرائيلية، التفاوضية منها والانتفاضية. ولذلك، على الآخرين، بدل اغداق النصائح والاملاء، ان يصغوا الى العمق الفلسطيني والاسرائيلي ليتوضح ان كان هذا انحسار ثقة او انهيارها، محطة تصحيحية في العملية السلمية او مدخل لدفنها. اكثر ملامح المسيرة الفلسطينية - الاسرائيلية وضوحاً في هذا المنعطف ان القاعدتين الشعبيتين في حيرة، وهما في صدد اتخاذ القرار. الحيرة سبقت اندلاع انتفاضة القدس، والحيرة ترافق ما يأتي معها وبعدها. انها حيرة القاعدتين الشعبيتين كما هي حيرة القيادتين. هناك رأي، فيه الكثير من العناصر المقنعة، فحواه ان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات لو وافق على طروحات رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود باراك، في شأن القدس، لوجد باراك في حيرة، بل في بلبلة وتراجع وسعي الى إفشال طروحاته بنفسه، لأنه غير قادر على نقل القاعدة الشعبية والسياسية الاسرائيلية الى خانة تنفيذ ما عرضه على عرفات. وهذا ليس رأياً عربياً ينطلق من التشكيك والرهان على افتقاد باراك الصدق والصدقية. انه رأي خبراء اميركيين يهود يقرأون الفكر والعاطفة الاسرائيليين ويستنتجون الخلاصة بصراحة. من هذا المنطلق، فإن ما فعله ايهود باراك، بتفجيره موضوع القدس في الفكر والعاطفة الاسرائيليين حدث تاريخي، بغضّ النظر عما اذا كانت خلفية الطرح الصدق او المراوغة، الرهان السياسي الضيّق او الرؤية الخلاّقة. لكن الاخطاء، او ربما الاجراءات التصحيحية في رأي بعض الاسرائيليين، التي رافقت تطورات الاسبوعين الماضيين تضع باراك على منصة محكمة: "من أنت؟". فكما انقلب رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق شمعون بيريز من "الحمائم" الى "الصقور" بين ليلة وضحاها في عملية "عناقيد الغضب"، كذلك فعل باراك في تناوله انتفاضة القدس. انه في حيرة، تماماً كما الاسرائيليين، معتدلين ومتطرفين، والفلسطينيون يسألون: ماذا تريدون؟ الجواب يأتي على دفعات. الدفعة الاولى سوداء وحقودة، فيها من المرارة والبغض ما كفى لتبرير قتل الاطفال الفلسطينيين على ايدي القوات الاسرائيلية بلا اي رادع اخلاقي متكامل سياسياً. الدفعة الثانية قد تأتي بغضّ نظر القاعدة الشعبية الاسرائيلية عن الاجراءات الحكومية الاستطرادية، تلك التي تستبدل القتل المباشر بذخيرة حيّة، بخنق اقتصادي يجعل الحي ميتاً. السؤال عندئذ هو: ثم ماذا؟ وبالتالي الاستحقاقات. ولأن الاستحقاق مصيري للاسرائيليين بمقدار ما هو للفلسطينيين، وربما اكثر لمجرد ان لدى الفلسطينيين اقل مما لدى الاسرائيليين مما هو قابل للخسارة - تطرح المعادلة نفسها ما بين العقاب والاستدراك. فاذا كان القرار الاسرائيلي تصعيدياً، لأن القاعدتين الشعبية والحكومية غير جاهزتين للنقلة النوعية في العلاقة مع الفلسطينيين، ستُتخذ اجراءات تُسقِط كل محاولة لانقاذ عملية السلام. واذا كان فحوى القرار استمرار الحيرة، ستُتخذ اجراءات متناقضة على نسق التظاهر بالرغبة في السلم، فيما تتجنب القيادة الاسرائيلية أية اجراءات عقابية، بل تتخذ بدلاً منها اجراءات تهدئة على نسق وقف اي نشاطات استيطانية واطلاق سياسات دعم اقتصادية للفلسطينيين تحت السلطة الفلسطينية كما تحت الاحتلال. قد تكون هذه هي الاجراءات الصحيحة الى حين الخلاص من التردد والحيرة والوصول الى ما بات يسمى "لحظة الصدق" ذلك ان الاجراءات المرحلية، التهادنية منها او الاصلاحية، اجراءات انتقالية مهما اتخذت من طابع مؤسساتي، لكنها ضرورية في الفسحة العملية ما بين الانفجار والاستدراك. ورغم ذلك، فإنها ليست كافية لنقل الوضع من الهشاشة الى الاستقرار، او من الهشاشة الى الحسم المسلح. لهذه الاسباب قد تنجح مرحلياً "المساعي الحميدة" التي يبذلها الاوروبيون والروس والامين العام للامم المتحدة كوفي انان، وقد تسفر عن اختراق، الا انها في الوقت ذاته، قد تؤجج الوضع اذا كانت تجميلية او تسويقية او مجرد مهمة "نزع الفتيل". فالقاعدة الشعبية الفلسطينية تطالب اليوم بأكثر من الشعارات والقرارات الدولية والوعود والتهافتات على "حمايتها". انها في غير وارد التهدئة والصيغ الديبلوماسية الخالية من استحقاقات. جزء منها بالطبع، يريد إطاحة الخيار التفاوضي لتقرير مصيرها، لكن الجزء الاكبر قال "نعم" لوسيلة المفاوضات، وهذا الجزء يريد الوضوح في ما راهن عليه ليقرر اذا كان سيستمر تفاوضياً او انتفاضياً. لذلك، لن يكفيه ان يأتي كوفي انان، او وزير الخارجية الروسي او البريطاني ليناشده "ضبط النفس" او الخروج من "حلقة العنف" فهو ليس مُنبهراً بالاهتمام الدولي وليس منساقاً وراء التعبئة العربية التي تعتقد ان الأفواه مدافع كافية لإلحاق الهزيمة بالاحتلال. قد يكون الفلسطيني اليوم اقوى مما كان عليه في السنوات الماضية لأن عملية "اوسلو" أفرزت دولة فلسطين كأمر واقع وحرّرت جزءاً من الاراضي الفلسطينية من الاحتلال. ولأن الفلسطيني اليوم شريك مباشر في صنع الحرب والسلام، انه واثق بأن مصيره في يديه. فهو لم يعد شاهداً على مصيره، انه في صلب صياغة المصير. من هنا الحيرة في خضم الانقسام والاختلاف على كيفية تحقيق المصير وبأي ثمن، وبأية نسبة من التنازلات، وبأية وسيلة، والقرارات صعبة. انطلقت أحداث الاسبوعين الماضيين من نقطة تصادم بين الاقدام على السلم والخوف منه على الساحتين الفلسطينية والاسرائيلية. ثم اتضحت هشاشة الثقة بشراكة سلمية وبرز عمق العداء. واليوم، قبل التمكّن من احياء الخيار التفاوضي، اذا كان ذلك ممكناً، قد تكون هناك حاجة الى فسحة انتقالية يُعمّق فيها الانفصال بين الفلسطينيين والاسرائيليين الى حين حسم قراراتهما المصيرية. فالقاعدتان الشعبيتان في حال غضب عارم غير قادرتين لا على التدقيق الموضوعي في تفاصيل الخيارات وكلفتها، ولا على التمييز بين التطرّف والاعتدال واستحقاقاتهما. لكن الحصيلة ستكون بالضرورة إزالة الاحتلال، وهذا ما على القاعدة الشعبية الاسرائيلية امتحان نفسها فيه كي تتوصل الى قرارات. فالمعادلة بسيطة، في الواقع، اما ان تبقى اسرائيل دولة قائمة بالاحتلال او تخلع عنها صفة وهوية المحتل وعبء الاحتلال، هي ذي الخلاصة. وفي نهاية المطاف، لن يكون في وسع اسرائيل ان تستمر في قصف الفلسطينيين لتدمرهم في حرب تقليدية، فهم في خاصرتها. ولأن العنف الاسرائيلي بدا جلياً في الاسبوعين الماضيين، امام القاعدة الشعبية الفلسطينية ايضاً خيارات صعبة ما بين تغليب لغة الاحباط والغضب كي "تكبر لتصغر" بثمنٍ غالٍ يدفعه الفلسطينيون وبين توظيف الوساطات الدولية كمدخل الى العودة الى المفاوضات بهدف ازالة الاحتلال. قد يرى البعض ان المرحلة الراهنة لصالح الفلسطينيين لأن اسرائيل اليوم في عزلة وهي تفضح نفسها بممارسات تعسفية وتفقد اعصابها ببطش وتوعد وانذار وتهديد، ولأن التعاطف الدولي مع الفلسطينيين في ذروته، ولأن التضامن العربي يأخذ منعطفاً جديداً لفظياً وإجرائياً على السواء. الخوف من الزئبقية كما من انحسار الاهتمام عندما تتحول الحرب الاسرائيلية على الفلسطينيين من عسكرية الى اقتصادية وتتلاشى حدّتها الظاهرة في التلفزة وعلى الصفحات، عندئذ لن تكون المعادلة لصالح الفلسطينيين بل على حسابهم. لذلك ليس كافياً ان يتم "نزع الفتيل" عبر الجهود المبذولة الآن، بل من الضروري وضع الاسس التي تكفل عدم استبدال سلاح بآخر. وإلا فإن انتفاضة القدس ستتفجّر تكراراً في فلسطين وداخل اسرائيل، وسيكون فرز العلاقة الفلسطينية - الاسرائيلية دموياً وقدرياً يفتقد صواب تحديد الأهداف. واقعياً، قد يكون صعباً على الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي الانتقال الفوري من المواجهة الى طاولة المفاوضات حيث التسوية السلمية جاهزة بتفاصيلها يرتهنها الخوف من الاقدام. وعملياً، ليس واضحاً ما اذا كان القرار الفلسطيني والاسرائيلي اكثر ميلاً الى المواجهة، او الى ترك نافذة على التهادنية، او انه ذاق ما يكفي من مرارة الحرب فأصبح اكثر استعداداً للسلام. الواضح ان العملية السلمية دخلت شفير الهاوية في مسارها الفلسطيني - الاسرائيلي، وان تداخل المصيرين وتشابك الحيرة وخصوصية العلاقة الفلسطينية - الاسرائيلية ستفرز جديداً في عمق الفكر والعاطفة فلسطينياً واسرائيلياً.