اكثر الاحتمالات استبعاداً في القمة العربية التي تُعقد غداً ان يصدر عنها نعي لعملية السلام وتبني استراتيجية نقيضة تستبدل أداة التفاوض بأدوات المواجهة. فباستثناء دولة هنا ودولة هناك، فإن الأكثرية تنطلق من أولوية انقاذ العملية السلمية لأن تتويجها باتفاقات في مصلحة المنطقة، بدءاً بالمصلحة الوطنية الفلسطينية وانتهاء بالمصلحة العربية عموماً. ما لن تتمكن القمة من تجاهله ان العملية السلمية قد تكون في حال احتضار بما يتطلب اتخاذ الاستعدادات للخيارات البديلة الممتدة من خيار إحياء "الدفاع العربي المشترك" أو "العصيان" على الولاياتالمتحدة الى خيار مكاشفة المواطن العربي باستحقاقات الانسياق وراء الغليان عليه وعلى مستقبل فلسطين. وفي أي من الحالات، يواجه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات أحد أصعب مراحله السياسية، ذلك انه يتصدر واجهة القرارات في القمة والمحاسبات عليها بعد انتهائها. والمطلوب في هذا هو العدل والموضوعية. يكفي ياسر عرفات ما يواجهه من حملة اسرائيلية عليه تدعمها حملة اعلامية اميركية، وآخر ما يخدم المصلحة الفلسطينية هو ذلك التأجيج لثقافة "التخوين" وثقافة "التحريض" السائدة في كثير من القطاعات العربية. عندما غادر عرفات كامب ديفيد رافضاً توقيع ما عُرض عليه، تحوّل بطلاً عربياً لأنه قال "لا"، فيما توقع له الناقدون ان يقول "نعم، التنازلية". تحوّل ايضاً الى "خاسر جاهل" من وجهة نظر الأكثرية الاميركية والاسرائيلية لأنه لم يقبل بعرضٍ سابقة في التاريخ الاسرائيلي قوامه ان رئيس الوزراء ايهود باراك دمّر فكرة القدس عاصمة "موحدة أبدية" لاسرائيل. الانطباع الذي يسوّق اميركياً هو ان عرفات قال "لا" ومشى. وهذا ليس صحيحاً. ياسر عرفات قال "لا" للعرض الذي جاء به رئيس الوزراء الاسرائيلي في كامب ديفيد لأن باراك اراد سيادة اسرائيلية على الحرم الشريف. كان ذلك في شهر تموز يوليو الماضي. أثناء قمة الألفية في ايلول سبتمبر تقدم عرفات بفكرة سيادة اسلامية على الحرم الشريف تفوّض للسلطة الفلسطينية، وتجاوب بذلك مع طرح اسرائيلي شكّل تغييراً جذرياً عن الطرح في كامب ديفيد، اذ انه فتح الباب على "طرف ثالث" يتولى مهمات السيادة على الأماكن المقدسة. فالطرف الاسرائيلي اقترح عبر الطرف الاميركي ان يقوم مجلس الأمن بتولي مهمات السيادة على الحرم الشريف، الأمر الذي رفضه الطرف الفلسطيني واستبدله بفكرة السيادة الاسلامية المرفوضة اسرائيلياً. خلاصة الأمر، ان باراك أوضح أثناء قمة الألفية انه لا يصر على سيادة اسرائيلية على الحرم الشريف الذي يسميه الاسرائيليون "معبد الهيكل"، لكنه لا يوافق على سيادة فلسطينية عليه، وانه على استعداد للبحث في صيغ سيادة طرف ثالث. وعرفات من جهته أوضح استعداده للبحث في صيغ سيادة طرف ثالث، طالما ينطوي على عنصر اسلامي، بما يؤدي الى تفويض السيادة. يجوز القول ان ايهود باراك تلكأ كثيراً عند ما انتخبه الاسرائيليون بولاية واضحة لصنع السلام، فضيَّع فرصة، وان ياسر عرفات تلكأ في اعقاب كامب ديفيد متجاهلاً الروزنامة السياسية لباراك فأضاع فرصة البناء على ما لم يسبق لرئيس وزراء اسرائيلي ان قدمه أو ما سيقدمه اي رئيس وزراء اسرائيلي لاحق. يجوز القول ان زعيم حزب ليكود، ارييل شارون، أوقع عرفات وباراك في كمين نصبه لهما كي يتوقفا عن البحث في صيغة مقبولة لهما تنطلق من سيادة طرف ثالث على الاماكن المقدسة. فالرزمة، لو تم الاتفاق عليها، كانت ستؤدي الى كل ما يعارضه شارون، وأبرزه اقتسام القدس كعاصمتين اسرائيلية وفلسطينية والاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية على أكثر من 92 في المئة من الاراضي التي احتلتها اسرائيل عام 1967، والإقرار بمبدأ حق العودة للاجئين الفلسطينيين مع وضع ترتيبات لعودة عدد متفق عليه مسبقاً. ولربما لم يقع باراك في أي فخ نصبه له شارون، بل استخدم زعيم ليكود وسيلة للتراجع عما عرضه على عرفات تجاوباً مع ضغوط اسرائيلية داخلية انطلقت من القاعدتين الشعبية والرسمية بشقيها العسكري والسياسي. ولذلك بعث ألفاً من الجنود الاسرائيليين ليرافقوا شارون في زيارته الاستفزازية الى الحرم الشريف. ما تبع تلك الزيارة من اجراءات حكومية وعسكرية اسرائيلية، ليس فقط ضد المدنيين الفلسطينيين وانما ايضاً ضد السلطة الفلسطينية وبنيتها التحتية، ومن حملة على ياسر عرفات بالذات يدعم نظرية اضطرار باراك للتراجع عن عروضه لعرفات. فهو من وجهة النظر الاسرائيلية فرَّط بالقدس وعبر خطوطاً حمراً، فكان عليه ان يتسلق السلم هبوطاً، وان ينسف العروض عبر تقويض الشراكة مع عرفات في العملية السلمية. ولذلك يكثر الكلام هذه الأيام عن عدم تمكن باراك من تقديم ما سبق وعرضه على عرفات في تموز يوليو في اعقاب ما حدث في الاسبوعين الماضيين. إذا صحت هذه النظرية، يكون الطرف الفلسطيني نفذ استراتيجية اسرائيلية طبقاً لسيناريو الاستفزاز بقراءة مدروسة للفكر والعاطفة الفلسطينيين وباستهداف للسلطة الفلسطينية. فلقد كان امام الطرف الفلسطيني خياران: إما تجاهل الاستفزاز بهدف احباط المناورة وتجنب الوقوع في الفخ، أو التجاوب مع الاستفزاز كإفراز طبيعي وكتصعيد جزءاً من استراتيجية. الطرف الاسرائيلي راهن على تبني الطرف الفلسطيني الخيار الثاني. وهكذا كان. لقد تداخل الفرز العاطفي للاستفزاز مع ايماءة السلطة الفلسطينية بالموافقة على انتفاضة القدس لتنبه الطرف الاسرائيلي الى العواقب. لكن الطرف الاسرائيلي كان جهّز الفصل الثاني من المعركة تحت عنوان: السلطة الفلسطينية وسلطاتها. منطقياً، لا مجال للتعايش الدائم بين السلطة الفلسطينية والانتفاضة، إلا اذا تحوّلت الأوضاع الى مواجهة مسلحة بين الاسرائيليين والفلسطينيين. الانتفاضة الوحيدة الممكنة منطقياً هي تلك التي يقوم بها العرب الاسرائيليون. اما الفلسطينيون تحت الاحتلال أو في الأراضي الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية، فأمامهم إما التحالف العسكري مع السلطة في مواجهة مسلحة مع اسرائيل، أو الحرب الأهلية الفلسطينية اذا وقع خلاف جذري مع السلطة وقراراتها، أو الخضوع لما تقرره السلطة الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للقرار والطموحات الفلسطينية. فمنطق السلطة ينفي منطق الانتفاضة على المدى البعيد، والعكس بالعكس، اذا كان الخيار غير المواجهة المسلحة. اسرائيل لا تخشى المواجهة المسلحة لأنها عازمة على القمع العسكري، وضامنة لتفوقها العسكري، وغير آبهة بالرأي العام العالمي الذي هيأت له آلية تغيير توجهاته، وواثقة من أنها تمتلك مفاتيح حرب أوسع مع الجيرة العربية أو مفاتيح منعها. انه فكر الغطرسة أو هو تفكير قصير النظر. هذا ليس في أولوية الاعتبارات الاسرائيلية في هذا المنعطف. واسرائيل لا يهمها ان اندلعت حرب اهلية بين الفلسطينيين، بل هذا قد يريحها. ولا مانع لديها ان يتحدى قطاع من القاعدة الشعبية الفلسطينية السلطة الفلسطينية ويمنعها من اتخاذ القرارات. وهي ترى ان التشكيك في قيادة ياسر عرفات يخدم اهدافها كما ان اضعافه يناسبها. لذلك لم تتردد حكومة باراك عن تعمد تحطيم مواقع السلطة الفلسطينية بهدف تحجيم عرفات واهانته تحت انظار الفلسطينيين في الوقت الذي طالبته فيه بحسم أمره: إما انه السلطة وللسلطة القدرة على السيطرة على الشارع الفلسطيني، أو انه بلا قدرة على السيطرة مما يسلب عنه سلطة السلطة. إذا كان قرار السلطة الفلسطينية ان التصعيد الذي حدث جزء مفيد من استراتيجية لأنه خلق ديناميكية جديدة، لا بد ان لديها استراتيجية خروج من التصعيد. فليس ممكناً ان تكون السلطة الفلسطينية اتخذت قرار المواجهة كنهاية مطاف إلا، وان تكراراً، اذا كانت قررت دفن العملية السلمية واستبدالها بمقاومة مسلحة. أما اذا كان قرارها الالتزام بالعملية السلمية واستئناف المفاوضات، وهذا ما تقوله، فإنها في حاجة الى وعي الشعب الفلسطيني كما الى استراتيجية مضادة للاستراتيجية الاسرائيلية. معنى ذلك ان تستعيد السلطة زمام السيطرة وصلاحية القرار وان يطلق ياسر عرفات مبادرة متكاملة توضح ما عُرض عليه وما يوافق عليه وما هو على استعداد لتوقيعه فوراً. فليس مفيداً للرئيس الفلسطيني ان تتحول القمة العربية الى جلسة استجواب له ليقر تدريجياً بما في حوزته. بعض القادة العرب قال صراحة انه لا يدري ماذا في جعبة عرفات أو في ذهنه، والبعض يتذمر من ثقافة "الإخفاء" بين القيادات العربية والتي يُتهم عرفات باعتناقها. وعليه، من بالغ الضرورة ان يتوجه الرئيس الفلسطيني الى القمة العربية بدعم فلسطيني متماسك له، كما بوضوح تام وإفصاح متكامل لما عُرض عليه وما هو قابل به أو رافض له، وكذلك بتصور موضوعي للخيارات واستحقاقاتها. ولأنها قمة عربية، ستكثر فيها المزايدات والاتهامات، كما ستتعالى فيها الاصوات والعتابات سيما في هذه الاجواء المشحونة بمزيج من الاحباط والفورة العاطفية. لذلك، ومن اجل التحسب لوطأة الرسالة من القمة العربية على المصير الفلسطيني كما على البيئة الاقليمية والبيئة الدولية، يجب الا يكون الغضب قاعدة السياسات التي تعتمد. فالانفعالية لا تنتج استراتيجية، والمرارة تعمي عن الموضوعية. ولربما بين أهم ما يمكن للقادة العرب القيام به هو القراءة الدقيقة للاستراتيجية الاسرائيلية والتمعن في ما يريده ايهود باراك تكتيكاً أو هدفاً. عندئذ يمكن وضع سيناريوهات المبادرة أو نقيضها. فالمهم الا تسير القمة في خطوات رسمتها لها السياسة الاسرائيلية، من دون ان تدري. والمهم ايضاً الا تتظاهر ان شيئاً لم يحدث للعملية السلمية. فقد وقع حدث جذري في عملية السلام للشرق الأوسط يضعها في موازين جديدة نحو القرار الحاسم أو الانهيار. اللافت في القمة العربية ليس فقط انعقادها بعد طول غياب وانما انعقادها بدعوة من انتفاضة القدس واستعادة الشارع العربي حس التضامن مع القضية الفلسطينية. والخوف عليها ليس من العاطفة العربية وانما من افراط المندفعين في ثقافة التحريض والتخوين بما يجعلهم حليفاً، ربما عن غير قصد، لغايات اسرائيلية باسقاط الحل التفاوضي الذي يعطي دولة فلسطينالقدسالشرقية عاصمة لها. فهؤلاء يتكاتفون، من دون ان يدروا، مع حملة المحرضين على ياسر عرفات، الاسرائيلية منها والاعلامية الاميركية، الرامية إما لايقاع حرب اهلية فلسطينية، أو لحذف عرفات شريكاً شرعياً في المفاوضات، أو لإسقاط العملية السلمية في مسارها الفلسطيني لأنها أوشكت على التوصل الى نتيجة تنسف احتفاظ اسرائيل بالقدس عاصمة "موحدة وأبدية" لها. ليس معقولاً، ولا واقعياً، ان نتوقع من القمة المبادرة الى طرح مسودتين لاتفاقيتي سلام مع اسرائيل، فلسطينية وسورية، تعالج عقدتي القدس وبحيرة طبريا، وتضع اسرائيل في موقع يضطرها لحسم قراراتها وايضاح ان كانت حقاً راغبة في السلام أو مرتاحة فقط في مؤسساتية العملية السلمية. فهذه ليست من عادات القمم العربية. انما ليس ممكناً ان تنتهي القمة بغموض يكتفي بحجب ورقة النعي لعملية السلام. لذلك، انها قمة القرارات الصعبة التي تستلزم الصدق في فرز الخيارات والاستحقاقات.