الان يمكننا ان نقول بكل بساطة ان زكي نجيب محمود لم يكن حدثاً عادياً في الحياة الفكرية العربية، بل كان - باجماع خصومه قبل مؤيدي فكره - واحداً من المفكرين العرب القلائل الذين كانت لهم فلسفة محددة، محددة رغم نموها الدائم، ورؤية واضحة للمجتمع والحياة. ومع هذا، كثيراً ما اثار صاحب "في حياتنا العقلية" و"تجديد الفكر العربي" و"خرافة الميتافيزيكا" ضروب سوء الفهم من حوله، ولعل السبب في ذلك احادية النظرة، والتحديد المسبق وهما الموقفان السائدان في فكر عربي لم يكف بعد عن الوصول الى عتبات النضوج من دون ان يجتازها، على الرغم من الجهود الجبارة التي قام بها عشرات المفكرين من فلاسفة وعلماء وباحثين، وحتى ادباء وشعراء، ملأوا حياتنا الثقافية. بالنسبة الى سيرة حياته وسيرته الفكرية، وفّر زكي نجيب محمود على الباحثين ضروب العناء، حيث وضع، خلال فترتين متمايزتين من حياته كتابيه الشهيرين "قصة نفس" و"قصة عقل"، وهما يرويان سيرته، ويختص ثانيهما بميزة كونه واحداً من الكتب النادرة في تاريخ الكتابة العربية، التي تصف التكون العقلي والفكري لصاحبها بصرف النظر عن مسار حياته وتقلباتها. وفي جميع الاحوال كان زكي نجيب محمود يصرّ دائماً على ان حياته لا تستحق ان تروى فهي كانت على الدوام حياة من دون مغامرات ومن دون مفاجآت: تعلّم باكراً ثم درس في المدارس الثانوية، ثم التحق بالجامعة المصرية قبل ان يرسل في بعثة الى انكلترا حيث كان احتكاكه الاساسي بالفكر الغربي الذي اهتم به كثيراً وكتب عنه العديد من الدراسات، وذلك قبل ان يكتشف غنى وحقيقة التراث الاسلامي في مرحلة لاحقة من حياته، فيقف عند لحظة القطافية من تلك الحياة، وقفة تأملية احدثت لديه انقلاباً فكرياً خطيراً عبّر عنه بقوة في مقدمة كتابه المهم "تجديد الفكر العربي" حيث يقول، بعد ان يروي كيف ان "كاتب هذه الصفحات لم تكن قد اتيحت له في معظم اعوامه الماضية فرصة طويلة الامد تمكنه من مطالعة صحائف تراثنا العربي على مهل، فهو واحد من الوف المثقفين العرب الذين فتحت عيونهم على فكر اوروبي - قديم او جديد - حتى سبقت الى خواطرهم ظنون بان ذلك هو الفكر الانساني الذي لا فكر سواه"، يقول كيف "اخذته في اعوامه الاخيرة صحوة قلقة، فلقد فوجئ وهو في انضج سنيه بان مشكلة المشكلات في حياتنا الثقافية الراهنة ليست هي: كم اخذنا من ثقافات الغرب وكم ينبغي لنا ان نزيد ... وانما المشكلة في الحقيقة هي: كيف نوائم بين ذلك الفكر الواحد الذي بغيره يفلت منا عصرنا او نفلت منه، وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا او نفلت منها؟". ويتابع زكي نجيب محمود قائلاً: "استيقظ صاحبنا كاتب هذه الصفحات بعد ان فات اوانه او اوشك، فاذا هو يحس الحيرة تؤرقه فطفق في بضعة الاعوام الاخيرة، التي قد لا تزيد على السبعة او الثمانية، يزدرد تراث ابائه ازدراد العجلان ... وهكذا اخذ صاحبنا يعب صحائف التراث عباً سريعاً والسؤال ملء سمعه وبصره: "كيف السبيل الى ثقافة موحدة متسقة يعيشها مثقف حي في عصرنا هذا، بحيث يندمج فيها المنقول والاصيل في نظرة واحدة؟". والحال ان معظم ما كتبه زكي نجيب محمود منذ تلك اللحظة وحتى وفاته اليوم السابع من ايلول سبتمبر 1993، كان عزفاً على تلك الالحان التي اكتشف في ذلك الحين ضرورتها. وهكذا حدث انقلاب في اهتماماته كان جذرياً من دون ان يصرفه مع ذلك عن نظرته الفلسفية القديمة التي كانت مزيجاً من عقلانية تنويرية معاصرة، ووضعية منطقية اكتسبها في لندن خلال تتلمذه على اساتذة من طراز جورج مور. في مصر بعد عودته، وفي بعض الاقطار العربية التي عمل فيها خلال بعض سني حياته، اكتفى زكي نجيب محمود بالعمل الجامعي والفكري، وساهم في لجان رسمية للترجمة والتأليف وفي العديد من الموسوعات الفكرية، وخاض العديد من المعارك دفاعاً عن العقل والعقلانية، ولا سيما مع خصوم عارضوه انما دون ان يخاصموه وهو على هذا النحو، ورغم النقد الذي كان يوجه اليه ذات اليمين وذات اليسار، حظي باحترام الجميع وكتبت عنه نصوص ركزت على الابعاد العقلانية والتوفيقية في فكره، وكان له تلامذة تعلموا عليه المنهج حتى وان خالفوه في استنتاجاته.