يبدو المثقف العربي على امتداد تاريخ بكامله وكأنه أسير مرجعية قاهرة مستبدة يدور الى ما لا نهاية في كنفها حتى اذا تجرأ أحياناً على الإفلات من قبضتها، لا تلبث ان تشدّه إليها فيرجع خائباً معتذراً، موفّقاً ملفّقاً، راجياً الطمأنينة والأمان، أو يغامر بمصيره فيدفع من حياته أو كرامته ثمن رفضه للسائد وخروجه على "المرجع" المعصوم الذي لا تساؤل إزاءه ولا نقاش أو حوار أو مكابرة. كانت هذه مسيرة التاريخ العربي منذ نكبة المعتزلة ومحنة ابن رشد الى إغتيال أسعد الشدياق وتشريد أخيه أحمد، الى اغتيال جبرائيل دلال وعبدالرحمن الكواكبي وتكفير طه حسين الى اغتيال فرج الله الحلو وكامل مروة وكمال الحاج ومهدي عامل وحسين مروة وفرج فودة إلى تكفير نصر حامد أبو زيد ونفيه. لقد كانت هنالك دائماً مواجهة مأسوية محكوم أبطالها سلفاً، إما بالانتحار، وإما بالموت الروحي نفياً أو عزلاً وتهميشاً، أو اعتذاراً وتراجعاً وانكفاءً. فثمة مرجعية متسلطة ضاغطة، تراثية أو مذهبية أو طائفية أو ايديولوجية أو سياسية، تنتصر في النهاية وإن بدا ان في الامكان زحزحتها أو اختراقها وتكييفها. لقد بدأت الفلسفة العربية في الاساس في عملية توفيق وتلفيق بين التراث والعقلانية اليونانية بما يبدو في النهاية انتصاراً للمرجعية التراثية وتبريراً عقلانياً لها، رغم كل ما يتراءى عكس ذلك. واذا تجاوز العقل "حدوده" كان ثمة ما يتربّص به من المحن والتنكيل ما يكفل اعادته الى المرجعية السائدة والمهيمنة ويُضيع تمرده هباء. ولنا في محن الفلاسفة العرب ومآسيهم صورة لمعاناة شاقة مع الاستبداد المرجعي ما فتئت اصداؤها تتردد جيلاً بعد جيل. واذا كان عصر النهضة العربية، بعد قرون من السبات والانحطاط، استأنف التلاقي مع الحضارة الغربية الصراع المرجعي وتناسل صور اخرى من الاستبداد المستجد والمتولد من الاحتكاك مع عقل الغرب والاحتكام الى مسلماته وبديهياته والاهتداء بانجازات حضارته. فراح النهضويون العرب يتحسسون هذه الانجازات بخوف وتقية كمن يخطو في الظلام قلقاً من صدمة أو زلّة قد تكون مكلفة وربما قاتلة. فقد اعرب اكثرهم ان لم نقل جميعهم بدرجات مختلفة ومتفاوتة عن التوجس من قيم العقل الغربي، وتعاملوا معه بالحيطة والحذر والشك، واذا كان بعضهم قد اقبل باندفاع نحو حضارة الغرب، الا انه ما لبث ان عاد الى دفء المرجعية السائدة، مشككاً او مسفِّهاً او متفاخراً بأمجاد تاريخه وتراثه، طالباً امانها وطمأنينتها. من مثل هذه المواقف انطلق النهضويون العرب، من رفاعة الطهطاوي وأحمد فارس الشدياق وفرنسيس المراش الى طه حسين وأمين الريحاني مروراً بعبدالرحمن الكواكبي وجرجي زيدان، الى تسفيه الحضارة الغربية وتتفيهها، رغم اقرارهم بتفوقها المادي والعلمي، وتأكيد تفوق القيم التراثية والشرقية. فقد اعتبر اكثر هؤلاء ان حضارة الغرب انما قوامها الكسب المادي والعدوان والتوسل بالآلات الحديثة لقهر الشعوب الضعيفة واغتصاب خيراتها ولو على حساب عذاب وآلام ملايين البشر. ولهذا، في رأيهم، انحطت مثل الغربيين، وقل انصافهم، وانحدرت اخلاقهم. ويعبّر عن ذلك تعبيراً نموذجياً محمد كرد علي، اذ يقول: لا يستغربن احد ما يشاهد من غارات الدول المستعمرة ما دمنا موقنين ان المدينة الحديثة هي ابنة المادة، والانصاف يقل في اصل المادة، وهم يحتقرون في سبيلها المثل العليا والاخلاق الفاضلة، وتقبل اذهانهم كل وسيلة ما دامت الغاية جمع المال". وفي المقابل ركز النهضويون على فضائل الشرق الاخلاقية ومثله الانسانية والروحانية وسبقه العلمي، حتى ان بعضهم ذهب الى ان خلاص الغرب، انما هو في اقتداء قيم الشرق وأخلاقه وروحانيته. من هذا قول الطهطاوي ان الافرنج "يعترفون لنا بأننا كنا اساتذتهم في سائر العلوم"، وقول خير الدين التونسي ان ما توصل اليه الغرب من رقي علمي وحضاري انما "كنّا عليه وأُخذ من أيدينا" وقول أمين الريحاني إن لدى الشرقيين من السكينة والاطمئنان ومن القناعة والاكتفاء "ما لو وُجد شيء منه في الغربيين لقلت في مجتمعهم المنكرات والمفجعات... ولخفّ التكالب على الماديات ولقلت الحروب ونكباتها... ولو كان لهم ما للشرقيين من الديموقراطية الحقيقية في الحياة الاجتماعية ليُسر حل المشكلات الاقتصادية التي تهدد بالبلشفية دول الغرب كلها". في هذا الاطار نُظر الى تخلف العرب الحضاري على انه ناجم عن الابتعاد عن التراث لا عن التقصير في التشبه بالحضارة الغربية وتمثل قيمها وأخلاقها وعقلانيتها. وإذ أحّس المثقفون العرب، من الطهطاوي الى طه حسين، ان لا مناص من اقتباس الحضارة الغربية ومثلها العلمية، دأبوا على الفصل بين علم الغرب وحضارته، وعقل الغرب الذي انتج هذا العلم وهذه الحضارة. وما ذلك في الحقيقة سوى موقف دفاعي هدفه صيانة المرجعية التراثية واقصاؤها عن النقد والمساءلة. واذا كان طه حسين قد بلغ حداً كبيراً في تحدي المرجعية التراثية ودعا الى اقتباس الحضارة الاوروبية كاملة، بوصفها المدنية الخالدة وحاملة القيم الانسانية والمثل السامية الحقة، ورأى ان الاستقلال العقلي والنفسي والعلمي يكون ب"أن نتعلم كما يتعلم الأوروبي، لنشعر كما يشعر الأوروبي، ثم لنعمل كما يعمل الأوروبي ونعرف الحياة كما يعرفها"، فإنه لم يجرؤ على ذلك لولا ان مصر في نظره هي جزء من حضارة أوروبا، ولولا أن "شرقنا القريب" هو مهد العقل الذي يزدهي ويزدهر في أوروبا". ومع ذلك لم يلبث طه حسين ان انكفأ الى التراث ليبيّن ان المثل والمبادئ السياسية والاجتماعية التي يقتبسها المصريون من الغرب انما هي في تراثهم الاسلامي، وهكذا كان تفلّته من الفضاء المرجعي مشروطاً ومحدوداً وانتهى بعودة ميمونة الى كنفه ورحابه. وما انتهى اليه زكي نجيب محمود لا يختلف عما انتهى اليه طه حسين، اذ بعد رحلة طويلة في عالم الوضعية المنطقية التجريبية صحا محمود متعذراً "صحوة قلقة" يفتّش و"الحيرة تؤرقه" عن "طريق للمواءمة بين المنقول والاصيل"، وراح "يزدرد تراث آبائه ازدراد العجلان... ويعب صحائفه عبّاً سريعاً". وزكي نجيب محمود اذ يصوّر تجربته الشخصية هذه في كتابه "تجديد الفكر العربي" انما يعبّر عن حالة اكثر المفكرين والمثقفين العرب الذين لا يلبثون ان يشعروا بالذنب بعد خروج مرحلي عابر على "المرجعية" التي تشدّهم في النهاية وتبدّد ثورتهم. هذه الحالة ما هي في الحقيقة وفي خلفياتها البعيدة الا تعبير عن استبداد الروح السلطوية المتحكمة بالعقل العربي والانسان العربي عبر وسائط متعددة، هي التراث احياناً وهي الايديولوجيا الطائفية او الحزبية او القبلية او القومية احياناً اخرى. فالمرجعية السلطوية هي هي سواء داخل القبيلة او المذهب او الحزب او الجماعة. أليست التصفيات الدموية التي طاولت ولا تزال "الخوارج" على الخطوط المرسومة دليلاً على الاستبداد المرجعي المتواصل على مدى التاريخ العربي كله؟ ألا تشبه محنة فرج الله الحلو الخارج على الايديولوجيا الستالينية محنة أسعد الشدياق الخارج على الايديولوجيا الطائفية رغم التناقض الفلسفي والتاريخي بين الايديولوجيتين؟ ألا يشبه تشريد أحمد فارس الشدياق تشريد نصر حامد أبو زيد؟ ألا يشبه اغتراب محمد أركون اغتراب رزق الله حسون وجبرائيل دلال وأمين الريحاني؟ أليس مؤسفاً بل فاجعاً ان يبقى الاستبداد المرجعي مُغلِقاً أي كوة يمكن ان تتسلل منها رياح التغيير والتحوّل، وأن يبقى المثقف العربي اما مهاجراً يعاني التهميش والاحباط او يواجه في وطنه موقفاً عدائياً يضطره الى "الاندماج في الخط السائد وتقديم التنازلات، بل وحتى التخلي عن خطه النقدي الحر في التفكير والكتابة" على حد تعبير محمد أركون في كتابه "قضايا في نقد العقل الديني" دار الطليعة 1998. اننا على مشارف قرن مقبل يحمل في احشائه مفاجآت ومتغيرات يمكن ان تُبدّل مستقبل الانسانية بالكامل. ولقد كانت السنوات الاخيرة من قرننا هذا مؤشراً ونذيراً لما يمكن ان تكون عليه صورة المستجدات الآتية. فالثورة التي عرفتها هذه السنوات في السياسة والاقتصاد والفكر والايديولوجيا والبيولوجيا والتكنولوجيا بدّلت تبديلاً جذرياً في كل المفاهيم المعروفة والسائدة وزلزلت المطلقات العقائدية والايديولوجية وفتحت الابواب على كل الاحتمالات مهما تكن غريبة وغير متوقعة. ان عصرنا يشهد ولادة واقع انساني جديد ومصير انساني جديد، فهل من المعقول ان نبقى اسرى مرجعياتنا المستبدة فيما عواصف التبدل والتحول والانقلاب تهب علينا من كل الجهات؟ هل من الجائز او المقبول ان يُرمى بالتكفير كل مثقف عربي يحاول ان يخرج ولو قيد أنملة على الانماط المرجعية السائدة، وأن يُحشر بين خيارات مرة كلها: إما الخروج من التاريخ، وإما الخروج من الجغرافيا، وإما الخروج منهما معاً؟! إن منع كتاب "النبي" لجبران خليل جبران في مصر مؤخراً، بالاضافة الى الحصار المضروب على كل الافكار التجديدية في اكثر من قطر عربي، يجب ان يطرح بصورة اكثر جدية من اي وقت مضى مسألة التعامل مع "الاستبداد المرجعي" اذ ان "الابسمية" المدهش في استمراره منذ القرون الهجرية الاولى الى يومنا - على حد تعبير محمد أركون - بكل يعنيه من انماط الادراك والتصور وأنماط المحاجة والتأويل ورؤية العالم، يجب ان يخضع للنقد والمساءلة اذا ما اريد ان يبقى للعرب مكان في القرن المقبل. * كاتب لبناني.