النظام العراقي القائم، هل هو ذاهب في القريب أم باقٍ ويتعافى؟ هذا هو السؤال، ولكن اجابته، كما تبدو الأحداث اليوم، هي اجابة عن سؤال فيه من الطلاسم والأحجيات أكثر مما فيه من معلومات مؤكدة. جزء من المعارضة العراقية عقد ندوة في لندن الاسبوع قبل الماضي دار جلّ موضوعاتها حول مستقبل العراق بعد عشرين عاماً من الآن. قرر معظم المتحدثين فيها أن ذلك سيكون بعيداً عن نظام العراق الحالي، ومناقضاً لتوجهاته، بل لن يأتي ذلك الوقت إلا وقد وُلِد نظام ديموقراطي تعددي ومتسامح في العراق. نظام الأممالمتحدة، من جهة أخرى، لم يتوافق حتى الآن على سياسة جديدة أو تجديد السياسة القديمة تجاه النظام العراقي، كما قدم النظام العراقي نفسه لقطاع من العرب، وللعراقيين في الداخل، كونه نظاماً مقبولاً عربياً بعد أن ترأس اجتماع الجامعة العربية الأخير، وأنه قد يتعافى قريباً. واستمر ذلك ولا يزال. على صعيد الولاياتالمتحدة، فإن اجتماعات تعقد وخططاً توضع لإكمال ما أعلن عنه في السابق وهو عدم قبول هذا النظام في منطقة الشرق الأوسط لما يسببه أولاً من فقر وحرمان واضطهاد لقطاعات واسعة من الشعب العراقي، ولما يضمره من شر تجاه جيرانه، والعمل الجاد على الاطاحة به هو سياسة معلنة، والمعلومات هنا وفيرة ومنشورة. فالرئيس العراقي أصبح العدو الشعبي الرقم واحد لدى الرأي العام الأميركي بما سببه ويسببه من عنت وقسوة، كما أن هناك "قانوناً" تجارياً، هو الأول من نوعه صدر من الكونغرس الأميركي ليحقق ذلك التوجه. هذه الصورة المتناقضة العربية والدولية أو غير الواضحة على أقل تقدير، التي تحمل رسائل عديدة متناقضة هي ما تستوقف المتابع للمسرح السياسي في الشرق الأوسط، وتجبر على طرح هذا السؤال:: هل هو باقٍ أم ذاهب، واذا بقي ما النتائج المترتبة على ذلك، واذا ذهب فمن البديل؟ دراسات مستفيضة أكاديمية وسياسية قدمت في السنوات التسع الأخيرة للاجابة عن هذا السؤال، إلا أن الملاحظ أنه لم يكن في وقت مضى منذ احتلال الكويت وتحريرها أن يبرز التساؤل بقوة عن الذهاب والبقاء، ويتساوى الاحتمالان كما هو اليوم. والتفاصيل كثيرة في هذا الأمر، فإن من الملاحظات العامة والمكررة وواجبة التحليل هي القاعدة القائلة إن نجاح النظام العراقي في سياسات معينة هي بالضبط محط فشله. لنبدأ بقضية أطفال العراق الذي يبدو للعالم أن تعرضهم لهذا الشكل من المعاناة الانسانية والتي تعرض يومياً على شاشات التلفزيون العالمي، هي التي جعلت الرأي العام العالمي يلتفت الى هذه القضية، وتتحدث وسائله الإعلامية والسياسية عن رفع المعاناة عن الشعب العراقي، لأن النظام هو المستهدف لا الشعب. ولكن هذه الصورة لها وجه آخر، إذ استخدم النظام العراقي الأطفال العراقيين في حربه الإعلامية من دون رحمة وبشكل فظ وغير انساني. ومن الثابت لأهل الخبرة والمعلومات ان الأدوية والعلاجات متوافرة منذ زمن طويل في بغداد، بل ان بعض من ذهب الى بغداد لتقديم الأدوية تبرعاً من عرب وأجانب جاء يقول ان هذه الأدوية يمنع وبعضها يترك في المخازن حتى انتهاء صلاحيته، ونظام حب البقاء في السلطة والتشبث بها الى هذه الدرجة من القسوة وتعريض أطفال لا حول ولا قوة لهم ولا لذويهم للإبادة والقتل "حتى يعرف الغرب أية مأساة يعانيها الأطفال"، كما يدعي النظام العراقي هو نظام يمكن أن يستخدم كل الطرق المتاحة انسانية أو غيرها لتحقيق أغراضه، وبالتالي فإن التسامح معه يعني توقع لا محالة إبادة أخرى وبشكل آخر لشعب عانى طويلاً من الويلات والحروب والتصفيات السياسية، لذلك فإن هذا التوجه يذهب الى القول إن التخلص من هذا النظام وبأسرع وقت ممكن هو الأفضل للعراقيين وأطفال العراق أيضاً، وبالتالي فإن هذه الدعاية المكثفة حول أطفال العراق يمكن أن تنقلب الى ضد ما أراد منها هذا النظام. أحمد الحبوبي رجل عراقي لم أتشرف بمعرفته، ولكني أعرف عنه، وقد يكون الاسم غير جديد على القارئ، قرأت له كتيباً هذا الصيف تحت عنوان "ليلة الهرير في قصر النهاية"، وأصدق القارئ القول بأنني لم أذق النوم ليلتها من هول الوصف الذي وصفه الحبوبي للتصفيات العشوائية في العراق، من دون سبب، وبلا رحمة، يعامل فيها الآن في أقل من معاملة الشياه المعدة للذبح! نظام مثل هذا لا يتردد في إبادة الأطفال وخرق أكباد ذويهم، لا يتردد في المستقبل بفعل أي شيء خارج عن القوانين والأعراف، والسلوك الانساني السوي. فالنجاح الذي يعتقد النظام العراقي بأنه يحققه من جراء استعراض الأطفال العراقيين وهم يموتون، هو في الحقيقة دليل مادي على قسوته وصلفه واستهتاره بالانسانية جمعاء، وعندما ترفع الغمة عن الشعب العراقي سوف نرى كم هي الأجهزة العراقية ضالعة في هذه المأساة. الصورة الثانية هي حقوق الانسان العراقي، لعل الوضع الدولي انتهاء بتيمور الشرقية، ومروراً بكوسوفو، بدا يؤكد أن مبدأ دولياً جديداً يترسخ، وهو مبدأ عكس الفكرة القديمة والقائلة: "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول" وهو مبدأ يستوجب التدخل العالمي النشط تجاه وقف الإبادة الجماعية، ولا يتحجج أحد "بالشؤون الداخلية والسيادة" كي يعطي نفسه رخصة دائمة للقتل والتشريد في شعب أعزل لا يستطيع ولا يملك الوسائل للدفاع عن نفسه، ودون أية ضمانات مهما كانت أولية وبسيطة. وتاريخ النظام العراقي مشهود في هذا المجال، وفي الإبادة العرقية والطائفية والسياسية، في نهاية السبعينات طرد من العراق آلاف العراقيين "المشكوك في ولائهم" الى الحدود الدولية باتجاه ايران، وهناك اليوم آلاف من هؤلاء يعيشون عيشة الضنك والفقر والتهجير، والدراسات التي تمت على أوضاعهم تثير - إن لم يكن أكثر فبالتساوي - ما يعرضه النظام العراقي على العالم من مأساة أطفال العراق، وهذا التاريخ يمضي ليشير إلينا بيد واضحة لا تقبل التشكيك معاناة الأكراد العراقيين الذين هجروا قراهم ومواطنهم الأصلية، أو الذين أعدموا أمام منازلهم في "حملات" أشبه بحملات الحرب النظامية. أما الشاهد الأكبر على حرب الإبادة فهو تلك الملايين الثلاثة أو يزيد للاجئين العراقيين، مشتتين في بقاع العالم يتشوقون لرؤية وطنهم، ويرجون الفرج صباح مساء، طفلهم يحلم بحضن جده، ورجلهم يحلم بقبر في تراب بلده وموت مسالم بين ذويه، وهي من أبسط المطالب البشرية. أمام هذا العنت الانساني، والإبادة الجماعية، فإن الحديث عن عدم التدخل في "الشؤون الداخلية العراقية" هو نفاق سياسي غير مبرر تحت أي شعار كان. أقف أمام بعض من يبرر الوضع العراقي القائم بتبريرات مختلفة، منها أن هناك انتهاكاً لحقوق الانسان في أماكن أخرى من العالم خصوصاً العالم العربي، وهو قول ليس بعيداً عن الحقيقة، إلا أن درجة الانتهاك ومستواه وطبيعته في العراق اليوم يفوق الخيال كما يفوق أية ممارسات أخرى، وما مطاردة المجتمع الدولي للمسؤولين العراقيين وتهربهم الدائم أمام العدالة الدولية إلا مؤشر لعمق هذا الانتهاك ومستواه، فإن كانت هناك درجات من التسامح مع بعض منتهكي الحقوق الانسانية في أماكن أخرى، فإن ذلك لا يبرر التسامح مع منتهكي كل الحقوق الانسانية. من التبريرات الغريبة وربما الساذجة، القول إن العراق يقف أمام "التوسع الصهيوني" وهنا تبرز تساؤلات عدة منها ما الثمن الذي يجب أن يدفعه شعب العراق وأطفاله "لهذه الوقفة"، ذلك ان افترضنا ان هناك "وقفة"، وهو افتراض غير صحيح، تدعمه أدلة كثيرة دامغة، منها التاريخي، ومنها العملي، فغير بضعة تبرعات من الأموال، والكثير من الشعارات، لم يقدم النظام العراقي أية تضحيات حقيقية باتجاه قضية فلسطين، كما أن القائلين بذلك القول لا يقرأون الأخبار السيارة في الصحف أو يسمعون ما تبثه وسائل الإعلام من تطورات تجاه "القضية" التي تتجه الى الحل النهائي. ويأتي البعض ليقول مسايراً إن هناك برنامجاً علمياً طموحاً يراد ضربه في العراق الصدامي، متناسين أن الشعوب الخائفة - لا تقدم علماً ولا انتاجاً علمياً في أي ميدان. انظروا الى الرايخ الثالث في المانيا الهتلرية أو الامبراطورية السوفياتية السابقة، فلكم فيهما مثال، ومنهما الدرس التاريخي. تأهيل النظام العراقي اذا حصل سيبقي فكر الصدامية، وهي ممارسة تتجاوز عمر صدام حسين نفسه، وترمي بظلال كئيبة على طموحات الانسان العربي في العراق للسير حثيثاً مع شعوب الأرض طالباً الحرية والتقدم والانعتاق. تأهيل النظام العراقي - مهما طال - فهو موقت، ستكون الفترة الصدامية فيه مثل فترة الستالينية في تاريخ الاتحاد السوفياتي السابق ينظر اليها العالم بحسرة لأنها حملت الى القبور ملايين من البشر الأبرياء، فهل ننتظر ان يذهب ملايين العراقيين الى العالم الآخر لنعرف ان نظاماً كهذا معادٍ للبشرية! * كاتب كويتي.