يعد شهر آب اغسطس من أشد أشهر الصيف حرارة، ويسميه أهل الشام بآب اللهاب كناية عن حر قيظه وارتفاع درجة حرارته... تعيش المنطقة العربية ومنطقة الخليج بالذات هذه الأيام وسط أجواء قياسية من الحر الشديد، متزامنة مع الذكرى الثامنة للاجتياح العراقي للكويت، واحتلال الكويت لمدة سبعة شهور عجاف ارتكبت فيها قوات صدام من الفظائع ما يشيب له الولدان ويعجز في وصفه اللسان، إلا أن خسائر ذلك الخطب العظيم لم تتوقف منذ ذلك اليوم المشؤوم، فتبعات تلك الجريمة النكراء لا تزال تنزف جروحاً غائرة في جسد الأمة العربية وشرخاً يصعب رأبه في ظل المعطيات الحالية. فقوات صدام قتلت وجرحت وأسرت من الكويتيين أعداداً هائلة من دون ذنب اقترفوه، وأحرقت الأخضر واليابس في الكويت بدلاً من أن تحرق "نصف إسرائيل"، وتركت ندبات جراح في القلب الكويتي لا بلسم لها ولا شفاء في المستقبل المنظور، إلا أن الكويت - وللحقيقة - قد تسامت فوق كثير من آلامها، فعلى الرغم من أنها لا تزال مثخنة بجراح العدوان الصدامي عليها، إلا أنها تجاوزت كثيراً من آلام تلك الجراح حين أكدت منذ اللحظة الأولى للعدوان بأنها تميز بين الشعب العراقي وجلاديه وقرنت القول بالفعل بتقديم المساعدات الإنسانية الواجبة للشعب العراقي المغلوب على أمره، كما بقيت ملتزمة بثوابتها القومية ومبادئها الأساسية، ضاربة بذلك مثلاً في المواقف القومية العربية الحقة لبعض الذين رقصوا على أشلاء الكويتيين على "أمل" تحرير صدام لفلسطين، إذ ضربوا أوضح الأمثلة على الإفلاس السياسي والفكري، ثم راحوا يصافحون الأيادي الملطخة بدماء الشعب العربي على دهم الوعود الإسرائيلية، بينما بقيت الكويت في خندق العروبة، رافضة اللهاث وراء السراب ومعرضة عن أي شكل من أشكال الاتصال بإسرائيل ما لم يكن السلم عادلاً وشاملاً في المنطقة العربية بأسرها. ولئن كانت مأساة الكويتيين غير مسبوقة في التاريخ العربي المعارص، فإن ما جرّته تلك الجريمة على الشعب العراقي من آلام ومآسٍ تعد غير مسبوقة في تاريخ الشعوب كافة، إذ خلفت وراءها بين العراقيين أعداداً لا تحصى من القتلى والجرحى والأيتام والثكلى وملايين يعانون الجوع والمرض والفاقة، ودمرت العراق وأخضعته للوصاية الدولية... ولقد تعدت آثار ذلك العدوان الصدامي كلاً من الكويتوالعراق لتمتد إلى الأمة العربية بأسرها. إذ أجهضت دبابات صدام في طريقها إلى الكويت انتفاضة الشعب الفلسطيني التي كانت مستعرة منذ سنين، ودفعت بالمفاوض العربي إلى مدريد مهيض الجناح، وخلقت أزمة ثقة عربية - عربية إلى اتفاقات الليل في أوسلو بين الجانب الفلسطيني وإسرائيل من دون معرفة أو مشاورة باقي الأطراف العربية التي ذهبت إلى مدريد ثم تفرقت بها السبل بين أوسلو وعربه... إن ما يحار في فهمه المرء حقاً، هو تزامن احتفالات صدام بهذه الذكرى الأليمة في تاريخ أمتنا والتي أسماها "أم المعارك" ومنحه لرموز النظام ما "يشاء من الأوسمة" كما يقول مظفر النواب، بمناسبة انتصاراتهم الوهمية، فالعراق عملياً تحت الوصاية الدولية، شماله محتل، وجنوبه يموج ثورة وعصياناً على النظام، ووسطه يرزح تحت قبضة المخابرات بأنواعها السبعين، والشعب يعيش على ما يفيض من برنامج "النفط مقابل الغذاء" وتنتهك إنسانية الإنسان فيه بكافة أشكال القهر والقمع الصدامي، بينما صدام يجعجع مهدداً في وقت يتم فيه تفتيش غرف نومه، ممرغاً كرامة نظامه ومن وقفوا معه في أوحال "أم المهالك"... كما يشن العراق على الكويت هذه الأيام حملة مسعورة لا مبرر لها، رافضاً الاعتذار لها عن الجرم الذي ارتكبه في حقها، ومنكراً أسرى الكويت الأبرياء، ومهدداً مجلس الأمن الدولي بالويل والثبور وعواقب الأمور ما لم يرفع العقوبات عن نظامه، وغرائب ما بعدها غرائب... إن العقلاء والمخلصين من هذه الأمة مطالبون بالوقوف في وجه صدام وهذيانه الممجوج كي لا تتكرر مأساة آب اغسطس عام 1990، رأفة بالعراقوالكويت والمنطقة بأسرها، ودفاعاً عن الإنسان العراقي الذي يراقب وسوف يحاسب من يؤيد صدام الآن ويطيل في عمره ونظامه، وبالتالي يساهم في استمرار معاناة شعب العراق المنكوب... كلنا أمل ورجاء بأن يمر آب اللهاب بلهيب الحر بدلاً من شرور الحرب وويلاتها. * أكاديمي وإعلامي كويتي.