كنا نتمنى ان يسقط نظام صدام على أيدي ابناء الشعب العراقي لتكون الفرحة اعمق والبهجة اكمل، ولم يقصر الشعب العراقي في مقاومة هذا النظام البغيض، بل قدم من التضحيات مالم يقدمه اي شعب آخر، في النضال ضد الظلم والطغيان، فقائمة الشهداء العراقيين وضحاياهم في المواجهة مع النظام الزائل تعد بمئات الالوف، دون اي مبالغة او تهويل. فخلال الانتفاضة الشعبية في جنوبالعراق سنة 1991م تشير احصائيات، الى ان المفقودين اكثر من 100 الف شخص، اكثر من نصفهم لم يعثر على جثثهم!! وفي شمال العراق بلغ مفقودو عمليات الأنفال التي شنها النظام الصدامي ضد المواطنين الاكراد هناك 200 الف مفقود اعترف مسئولو النظام خلال جولات التفاوض مع الأكراد عام 1991م ان عدد المفقودين لا يتجاوز ال 100 الف!! وفي قائمة الشهداء والضحايا العراقيين، الذين سقطوا في مواجهة النظام، نجد اسماء لامعة، من الفقهاء والعلماء والادباء والمثقفين والسياسيين والعسكريين واساتذة الجامعات وطلابها، من الرجال والنساء، والكبار والشباب، ومن جميع الشرائح والطبقات، والمناطق والمحافظات والمذاهب والتوجهات.. وهناك مئات الألوف ممن استضافتهم سجون الاعتقال، وذاقوا اهوال التعذيب والتنكيل، والملايين من المشردين والمهجرين، الذين غصت بهم الملاجئ والمنافي، وبعضهم ابتلعته امواج البحر غرقا وهو يبحث عن مأوى كما حصل لمجموعة من اللاجئين العراقيين انكسرت بهم السفينة على مقربة من استراليا. بالطبع فان حملات التصفية والاعتقال والتشريد، انما كان يقوم بها النظام كرد على انتفاضات شعبية، او تحرك للمعارضة، او كضربات استباقية رادعة، في اوساط متعاطفة مع المناضلين. لكن هذه التضحيات والجهود التي بذلها الشعب العراقي، والملاحم النضالية التي خاضها، طيلة ثلاثة عقود من الزمن، اصطدمت بجدار سميك من العنف والقمع، لامثيل له في تاريخ الانظمة الاستبدادية، كما استطاع النظام توظيف الظروف الدولية والاقليمية، في كثير من الاحيان، لخدمة تسلطه وديكتاتوريته، ومارس كثيرا من المكر والدهاء، لاستقطاب الرأي العام العربي والاسلامي، بشعاراته البراقة، ومواقعة الخادعة، واغراءاته لمختلف القوى والشخصيات، كل ذلك ساعد على تهميش حركة المعارضة, والتعتيم على واقع معاناة الشعب العراقي. فكانت الفرصة متاحة امام الولاياتالمتحدةالامريكية، لكي تستثمر رفض الشعب العراقي لنظام صدام، وشدة معاناته منه، والتي جعلته يبحث عن اي وسيلة للانعتاق والخلاص منه. ويمكن القول بكل ثقة واطمئنان ان اكثرية الشعب العراقي ومع تجذر الروح الاسلامية والقومية والوطنية في نفوسهم، ومع عمق ابائهم وحساسيتهم تجاه النفوذ الأجنبي، إلا أنهم يرحبون بالارادة والتصميم الأمريكي على اسقاط نظام صدام، بعد أن ضاقت بهم السبل، وأعيتهم الحيل، وخذلهم الأقرباء والأشقاء. والعراقيون يعيشون الآن فرحة وابتهاجا لتهاوي هذه السلطة الظالمة الجائرة، وبدورنا نبارك لهم تحقيق هذه الأمنية العزيزة على نفوسهم ونفوسنا، ونشاركهم مشاعر البهجة والسرور، بالخلاص من هذا الكابوس البغيض. الثمن الباهظ بيد أن سقوط نظام صدام على يد القوات الأمريكية والبريطانية، يستلزم ثمنا باهظا من استقلال العراق وحريته، ومن مستقبل المنطقة العربية والاسلامية، فالأمريكيون مع أنهم جعلوا عنوان حملتهم العسكرية حرية العراق، وأظهروا اهتمامهم بمعاناة الشعب العراقي، لكنهم يعلنون بصراحة انطلاقهم من خدمة مصالحهم الاستراتيجية، وأمنهم القومي، كما يتحدثون عن استهدافات تتعلق بتغيير الخارطة السياسية في المنطقة، وعن مكاسب للكيان الصهيوني بتطبيع وجوده، وازالة عوائق الممانعة من قبوله. هذا الثمن الباهظ على العراق والمنطقة بكاملها، يقتضي منتهى اليقظة والحذر، في التعامل مع واقع الوجود الأمريكي في العراق، من قبل الشعب العراقي، وشعوب وحكومات المنطقة. بالدرجة الأولى ينبغي مقاومة حالة الاستسلام والهزيمة النفسية، حيث لم تحصل معركة حقيقية، بين قوى الأمة والارادة الأجنبية، لأن صدام لم يكن يمثل الأمة ولا الشعب العراقي، بل كان حاكما ظالما خطف إرادة شعبه وشل قدرته، وما انهياره السريع والمدهش، بعد أن ملأ الآفاق بصخب تهديداته، إلا دليل على خواء واقعه وهشاشته. كما يجب الانتباه من ثقافة واعلام الهيمنة الأجنبية، التي تنظر وتبرر للقبول بها، تحت عناوين مختلفة، وبشعارات جاذبة، ويساعدها على ذلك سوء الواقع المعاش، الذي يدفع الرازحين تحت وطأته الى البحث عن طرق الانقاذ والخلاص. والأمل معقود على وعي الشعب العراقي، واخلاص طليعته المناضلة، للتحرر من الهيمنة الأجنبية بأسرع وقت، وعلى العالم العربي والاسلامي أن يجبر تقصيره تجاه الشعب العراقي، في المرحلة الماضية، بتكثيف الدعم والتضامن معه في محنته الحاضرة، ليتجاوزها بأقل قدر من الخسائر والأثمان. المساعدات الإنسانية يعيش الشعب العراقي بعد الحرب الأمريكية وضعا كارثيا، على المستوى الإنساني، فهذا الشعب الذي حباه الله تعالى ثروات هائلة من النفط والمياه وخصوبة الأرض، إلا أنه ابتلي بحكم جائر، استنزف ثرواته في معاركه وحروبه المفتلعة مع جيرانه، إيران والكويت، وهدرها في برامج العسكرة والتسلح، واستأثر بموارده الضخمة لإشباع رغبات وشهوات زمرته الفاسدة، وما قصور صدام المتعددة الفخمة، وأرقام ثروته الخاصة، والنشاط الاقتصادي الواسع لولديه عدي وقصي، إلا نماذج من تلاعبهم بثروات شعب العراق. هذا الشعب الذي أصبح يعيش أسوأ حالات الفقر والحرمان، وخصوصا في ظل الحصار الدولي طيلة أكثر من عشر سنوات، ثم جاءت الحرب الأمريكية، لتزيدمن بلاء هذا الشعب ومحنته، فقد أسقطت على العراق حمم هائلة من النيران خلال أكثر من عشرين يوما، واستخدمت مختلف الأسلحة والقنابل الفتاكة الخطيرة، مما أصاب البنية التحتية بدمار كبير، وأوقع الخراب في المناطق السكنية وبيوت المدنيين، وحصد أرواح عدد كبير من المواطنين عسكريين ومدنيين، ولم تكشف حقيقة أرقام ضحايا هذه الحرب الفظيعة الى الآن، لكنها بالتأكيد تصل الى عشرات الآلاف من القتلى والمعوقين والجرحى، وانتهت الحرب بانهيار كامل للنظام، ولكل المؤسسات المدنية والخدماتية، وحصل فلتان أمني، عرض المنشآت العامة للسلب والنهب. كل ذلك جعل الشعب العراقي في وضع كارثي صعب، يحتاج فيه الى المساعدة والدعم، حيث يعاني الناس من الجوع والعطش، لعدم توفر المياه الصالحة للشرب، ومن انعدام الدواء، ووسائل العلاج للمرضى والجرحى والمصابين. إن من أول واجباتنا تجاه اخوتنا في العراق، المبادرة الى مساعدتهم إنسانيا، بتقديم الغذاء والدواء، ومستلزمات الحياة المعيشية. إن الله تعالى يقول: (فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة، أو إطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة) إن الاقتحام يعني الدخول بمشقة وجرأة، والعقبة هي الموقع المرتفع من الطريق، والآية تحريض ودفع لكي يسلك الإنسان طريق الخير، غير متوقف أمام العقبات، بل متجاوزا لها بإقدام وعزم، وأهم نموذج تقدمه الآيات الكريمة هو عتق العبيد (فك رقبة) وإغاثة المحتاجين، في أيام الشدة (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) أي في يوم ذي مجاعة. وهوما ينطبق على واقع الشعب العراقي اليوم. الامتحان الصعب إن مقاومة نظام صدام هو الجهادا الأصغر للشعب العراقي، وقد انتهت هذه المهمة إن شاء الله، وبقي أمام العراقيين الجهاد الأكبر، وهو القدرة على بناء واقع جديد. إن عهد الديكتاتورية والقمع يصيب النفوس والأفكار ببعض التشوهات والعاهات، كما أن اختلاف مناخات المعارضة خارج العراق، قد يباعد بين توجهاتها وآرائها، والتنوع الاثني في الشعب العراقي، بتعدد قومياته ومذاهبه وطوائفه، يجعل الوضع أكثر دقة وحساسية، مما يعطي الفرصة للقوى الخارجية، والجهات المغرضة الداخلية، أن تلعب على هذه التناقضات، وتضرب على وتر هذا التنوع، لإثارة النزاعات والخلافات. ومما يزيد المشكلة إعضالا، أن الثقافة السائدة في عالمنا العربي والاسلامي، بتوجهاتها المختلفة، من دينية وغيرها، في المجال الفكري والسياسي، غالبا ما تشجع على الاستبداد والاستفراد، وتدفع نحو الإقصاء والإلغاء للطرف الآخر، والرأي الآخر. والشعب العراقي خاصة في ظروفه الصعبة الحاضرة، في حاجة ماسة لثقافة التسامح، وقبول التعددية، واحترام الرأي الآخر، والاحتكام الى النهج الديمقراطي، في ميدان السياسة والحكم، بالأخذ برأي الأكثرية العددية، دون تصنيف قومي أو طائفي. إن توافق قوى الشعب العراقي، على اعتماد سياسة الحوار، وادارة التنافس السياسي بالطرق الايجابية، والوسائل السلمية، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الفئوية، هذا التوافق هو الذي يساعد الشعب على تضميد جراحات الماضي، وتجاوز مآسيه وآلامه، لبناء غد مشرق جديد. وهو الذي يمكن الشعب العراقي من انتزاع حريته واستقلاله من القوى الأجنبية، الجاثمة على أرضه. بينما تأزم الخلافات والصراعات، يطفىء نور الأمل في نفوس العراقيين، ويصيبها بالاحباط والانكسار، ويعطي الذريعة والفرصة لاستمرار الهيمنة الأجنبية. والدول المجاورة للعراق، عليهاأن تساعد الشعب العراقي على حفظ وحدته وانسجامه، وأن تشجع أطرافه المختلفة على التوافق والتعاون، لأن استقرار العراق يخدم أمن واستقرار دول المنطقة جميعا، بينما اضطرابه مصدر قلق أمني للجميع. إن أخطر شيء على وحدة العراق واستقراره، أن تسعى أي دولة مجاورة لدعم طرف في مقابل بقية الأطراف، كأن تخص بالدعم الأكراد أو التركمان أو العرب أو الشيعة أو السنة، إن ذلك يشجع النزاعات الفئوية، ويكرس الاستقطابات الإقليمية، في داخل الساحة العراقية، بل ينبغي دعم الشعب العراقي بأجمعه، وتشجيع قواه على التوحيد.