احمد الشيخ. حوار الاستشراق. المركز العربي للدراسات الغربية، القاهرة. 1999. 240 صفحة. قد يكون غنياً عن القول بأن مجرد تقديم ونشر سلسلة من المقابلات والحوارات الصحافية مع ثلاثة وعشرين وجهاً فرنسياً من الخائضين، على اختلاف مشاربهم ومقاصدهم ومناحي اهتمامهم، في ما يسمى بالاستشراق، مجرد التقديم او العرض هذا ينطوي على فائدة لا يرقى اليها الشك. ذلك ان قارئ هذه الحوارات يستطيع إذا شاء ذلك بالطبع، العثور على عناصر او اشارات تدلل، عموماً، على وجوه المسافة النقدية التي رسا عليها "المستشرقون" الفرنسيون المعاصرون بالقياس الى تراث وتقليد استشراقيين يحسب لهما، بتسرّع وارتياب مسبق، التجانس والامتثال الى مقتضيات نظرة منمّطة. على ان اطلاق اسم وصفة "الاستشراق" على اعمال واهتمامات هذه الكوكبة من الباحثين لا يخلو من بعض سوء الفهم ومن الاصرار على سلوك سجالي ينزع الى ارجاع الفوارق والتفاوتات والتحولات الى مقولات عريضة وكلية من شأنها تذويب وامتصاص هذه التحولات التي هي مدار تاريخ النظر الاوروبي الى قضايا الشرق والعالم العربي والاسلامي. والحال ان الكاتب المصري احمد الشيخ الذي اجرى المقابلات يبدو متمسكاً بموقف سجالي شائع في قسم بارز من الادبيات العربية النازعة الى الارتياب في كل ما يصدر عن "الآخر" وفي شرعية اهتمامه ب "الذات" العربية الاسلامية. غير ان احمد الشيخ يخامره الظن في ان تكون الاعمال الفرنسية المعاصرة ذات قيمة وكفاءة تستحق الاهتمام. اي انه يتأرجح في الحقيقة بين موقفين وبين طريقتين في النظر الى اعمال ووجوه الاستشراق الفرنسي المعاصر. ويتولد عن ذلك اضطراب وتردد في التقويم، وهو اضطراب لا يخلو من دلالة. فهو يتساءل في تقديمه للحوارات عن دواعي استمرار نقد ما انتهى في عالم الاستشراق ونسيان ما هو قائم اليوم. ويرى ان "النقد الاسلامي والنقد العلماني للاستشراق يتفقان، على رغم ما بينهما من اختلافات كثيرة في الموقع والرؤية، على تجاهل الاستشراق الجديد، ولم يمنحاه المساحة النقدية الملائمة للدور الذي نهض به في العقود الاخيرة من هذا القرن". وبقوله هذا يوحي أحمد الشيخ بأن المقابلات الصحافية التي اجراها تتعدى اطارها المتواضع لتطاول انصبة ومستويات واقعة في صلب العمل النقدي لصراع معرفي بين كيانين حضاريين، اي انه يعلي من شأن الكتاب من دون ان يكون لهذا الاعلاء اسباب ودواعٍ ومادة، سوى الاستسلام الى التضخيم والى تكبير الحجر، كما يقال، علماً بأن تواضع الحوارات، الدائرة في معظمها على مبررات وجود الاستشراق المعاصر، يكفي لمن يريد ان يفهم ويتعرّف، واحمد الشيخ يكبّر حجره بالفعل. فهو ينطلق من مسلّمة ذهنية مفادها ان "نقد الاستشراق لم يعد يقتصر على تنفيذ آراء بعض المستشرقين المتعصّبين او اظهار العلاقة الخفية بين سلطة الاستشراق وسلطة السياسة المباشرة، وصار يحمل معه توجهات لها ملامحها البارزة وآثارها في رؤيتنا للآخرين ولأنفسنا في آن معاً، ولما يتضمنه كذلك من ابعاد تؤثر في حاضر المجتمعات العربية ومستقبلها"، لكل ذلك، يضيف احمد الشيخ، "شعرنا بالحاجة الماسة لتقديم معرفة دقيقة، قدر الامكان، عن هذا الاستشراق الجديد، ووجدنا الطريق الى ذلك، في النقد المباشر او الحوار المباشر مع اقطاب هذا الاستشراق. ربما كانت هناك مداخل اخرى لهذه المعرفة تنتظر ان ينهض بها غيرها". بل يذهب الشيخ اكثر من ذلك، فيخبرنا بأنه اراد بحكم وجوده في باريس طوال عشرين عاماً "ان ادفع بهذا النقد الى مرحلة اعمق وانضج، من خلال التنقيب المباشر في اعماق هذا العالم الداخلي للمستشرقين وتقديم عبر هذا "الحوار النقدي" معهم، "المسكوت عنه" في الوقت الذي اعطي فيه ايضاً، للمرة الاولى، في حدود ما اعلم "الحق في الكلام" لكوكبة من المستشرقين المعاصرين، لا الاموات! كي يقدموا انفسهم ومناهجهم، ويدافعوا، او يؤكدوا الانتقادات الموجهة اليهم من خلال حوار لم تنقصه الجرأة، ولم يعرف مناطق محظورة التناول". يبالغ احمد الشيخ في تثمين جهده وعمله، غير متفطّن ربما الى ان تواضع الحوارات والمقابلات لهو مفيد في حد ذاته ولا يحتاج الى تسويرات بلاغية وخطابية. ولا معنى حقيقياً لعبارات من نوع النقد المباشر او اعطاء المستشرقين "حق الكلام" وللمرة الاولى، او الكشف المباشر عن "المسكوت عنه". اذ معلوم ان الصحف والمجلات والدوريات العربية حفلت وتحفل بحوارات مع ابرز المتخصصين الفرنسيين بالعالم الاسلامي، بل ثمة حوارات معمّقة ومطوّلة صدرت في كتب كما هي الحال مع جاك بيرك ومكسيم رودنسون والباحث الجزائري الاصل محمد اركون. والامر كذلك في ما يتعلق بالتوظيفات العاطفية والايديولوجية التي يشحن بها احمد الشيخ صورة حواراته، اذ انها زائدة عن الغرض، وهو الفهم والتعقل النقديين. ذلك انه يحرص على التأكيد بأنه لم يكن يتحاور مع المستشرقين من موقع صحافي واعلامي، "بل كنت اشعر انني امثل في هذا الحوار ثقافة وحضارة انتمي اليها اليهما قلباً وقالباً، ولم يكن حواري معهم، حوار شخص جاء يطلب احاديث للنشر، وانما انسان يحمل معه، في عقله وعروقه ومشاعره، ثقافة امة وتاريخها، وكانت هناك قضية واضحة في ذهني عما اريد وانا احاور المستشرقين من خلال معرفة دقيقة بأعمالهم وصراعاتهم و"المسكوت عنه" في هذه الاعمال، لذا كان "توليد" الافكار والآراء متاحاً بسهولة ويسر امامي، ومن دون ان يستشعر احد من المتحاورين انني عمدت الى جذبه نحو هذه القضية او تلك". والأبلغ من ذلك، ان احمد الشيخ يضيف على الفور: "بالطبع هناك قضايا اخرى واسئلة اخرى، كان من المتوجب طرحها، لكن المناخ الذي دار فيه الحوار لم يسمح بذلك، فضلاً عن اجابات المستشرقين عليها لم تكن لتضيف شيئاً جديداً الى ما قالوه" كذا. والحال ان الاضطراب الذي يشوب التقديم لحوار الاستشراق يجد قرينه في اضطراب عملية تنظيم وترتيب المقابلات. فهو يخبرنا بأن هذا الحوار النقدي انطلق في منتصف 1986 وحتى اوائل 1988 ثم يضع هامشاً في اسفل الصفحة ليعلمنا بأن اغلب حوارات الكتاب نشرت في مجلة "الفرسان" حيث كان يعمل في باريس خلال الفترة المذكورة، باستثناء القسم الثاني من حواري مع جاك. بيرك وهو قسم يصعب الاستدلال عليه وحواري مع فرنسوا بورغا وميشال لولوف ومالك شبل المنشورة في جريدة ، اما القسم الاول من حواري مع بيرك وحواري مع بيير تييه وجانو دوجو وبرونسيل هوغوز واربعة من مترجمي النصوص العربية الى الفرنسية فقد نشرت في مجلة "الاسبوع العربي" وهناك اقسام اخيرة من حوارات اخرى نشرت في صحيفة "الوطن" الكويتية، اضافة الى مقابلتين لم تنشرا من قبل. ألم يكن من الافضل، وبكل بساطة، ان يضع صاحب الكتاب، هامشاً في اسفل الصفحة الاولى من كل مقابلة لتحديد تاريخ اجرائها ونشرها مع الاشارة الى اقسام ثانية في حال وجودها. وفي السياق ذاته، نحرص على ابداء انتقادنا "الشكلي" للاخطاء الطباعية والفنية وربما النحوية والتي تبلغ حداً يثير السخط، آملين تدارك الامر في حال اصدار طبعة ثانية او في اصدار كتاب لاحق، ويخيل الينا، كذلك ان بعض الاسماء تكاد تكون مشكلة كما هي الحال مع اسم الناقدة الادبية المعروفة خالدة سعيد. ففي مقابلته مع فرنسوا بورغا يجري الحديث عن ناشطة جزائرية تلقفها الاعلام الفرنسي ويرد اسمها خالدة سعيد. وفي المقابلة ذاتها، تشير ندى طوميش الى وجود كتب تدور على "الاستغراب" وتذكير كتاب "جولة حول حانات شرق المتوسط للعجيلي في تونس" وكان يجدر بصاحب الحوار ان يدقق في العنوان وفي اسم صاحبه وهو علي الدعاجي وليس العجيلي، تفادياً للخلط مع اسم روائي آخر هو عبدالسلام العجيلي. لا تسعى هذه الملاحظات الى التقليل من شأن الكتاب جملة وتفصيلاً بل تريد، على العكس، ان تتقدّم مادته، اي الحوارات مع "المستشرقين" الفرنسيين المعاصرين متخففة من اثقال مصادرات ايديولوجية جاهزة وسابقة على الحوار نفسه، ومن اثقال اخطاء فنية، وهذه امور تدل على ان المبالغات الخطابة العربية انما هي تعويض عن "كسل مائج ومحموم" على قول فيلسوف فرنسي. وبقولنا هذا لا نغمز من قناة صاحب الكتاب، بقدر ما نشير الى ارض قائمة في سجالاتنا الثقافية، وهي عوارض تشي بالوهن والاضطراب وعدم الدقة وصعوبات العيش، خصوصاً اللائق منه. ليسنا ملزمين، اذاً، بقراءة الحوارات طبقاً لمقدّمات صاحبها، بل الحرية متروكة للقارئ الذي يسعه ان يجد فيها اشياء كثيرة يمكن تأويلها في سياقات اخرى غير تلك القائمة على المجابهة والمبارزة والسجال. اضف الى ذلك ان غالبية المستشرقين باستثناء الصحافي بيرونسيل هوغوز المذكورين تتمتع بمقادير من النزاهة والتعاطف مع موضوعات بحثهم، ومن الحس النقدي والاستعداد لمراجعة الافكار والتصورات. يبقى على القارئ ان يتعقل في آن وجوه القواسم المشتركة بينهم ووجوه الاختلافا والفوارق في ما يتعلق بشواغلهم ومنظورات ابحاثهم. بل يسعنا ان نوافق جاك بيرك اذ يقول بأنه "عندما اسمع بعض العرب من الذين ينتقدون الاستشراق يقولون بأن الشرقي فقط هو الذي يملك الحق والامكانية لدراسة الشرق فانني اشعر بأسف. هل نقول نحن الفرنسي فقط هو الذي ينبغي ان يدرس ديكارت". وفي معرض حديثه عن مكاسب الاستشراق، يرى بيرك بأنها "عظيمة الوزن مع ما فيها من مراراً من سوء اعتدال. خذ مثلاً عمل الالماني "نولدكه" عن المتن القرآني وماسينيون وكوربان عن التصوف. وما ذكرته قليل من كثير، فلعله كان انفع لأصدقائي الشرقيين ان يزاحموا اولئك الفحول بالعمل العلمي الجاد.