صيغة العناوين الثلاثة، المتدرّجة والمتفرّعة من بعضها البعض، والموضوعة على غلاف كتاب المستشرق الفرنسي الراحل في حزيران يونيو عام 1995، جااك بيرك، الصادر حديثاً عن دار "ألبان ميشال" في باريس، هذه الصيغة تعكس الى حدّ بعيد صيغة تناظرها وتطاول سيرة بيرك الفكرية والذاتية في آن. لدينا، في عنوان أول عريض، عبارة "قضية غير خاسرة أو ضائعة أبداً"، ولدينا عنوان ثانٍ لشرح وتوضيح المقصود وهو "من أجل عالم متوسطي نسبة الى البحر المتوسط متعدد"، ولدينا من ثم عنوان ثالث يصف مدار وقوام وجوه العبارة عن القضية المذكورة، وهو "كتابات سياسية، 1956 - 1995". والحال أن المقالات والمقابلات التي يضمها الكتاب الواقع في نيف وثلاثمئة صفحة من القطع الكبير، والمنشورة من قبل في صحف ومجلات متنوعة على امتداد أربعة عقود، ليست كلها سياسية في المعنى الصريح للكلمة. وإذا كان قسم بارز من المقالات والمقابلات يتناول مباشرة وقائع ومسائل ذات طابع سياسي مباشر، مثل الجزائر وفلسطين وحرب الخليج الثانية والعلاقات الفرنسية - العربية، فإن ثمة قسماً آخر يتناول في الحقيقة وجوهاً ذات طابع فكري وثقافي عريض يضعها بيرك في منظار سوسيولوجي وإناسي أنتروبولوجي ثقافي، مثل الحديث عن ترجمته للقرآن الكريم، وتناوله لتجارب شعرية وأدبية، نذكر منها مقالته عن رحلات وأسفار الشاعر أدونيس، والحق أن الظواهر والقضايا التي يخوض فيها المستشرق، على إيقاع مقابلات وحوارات ومقالات متفاوتة الحجم والمدى، تبعاً لمقتضيات المناسبة والفترة الزمنية، تبقى كلها مشدودة، الى هذا الحدّ أو ذاك، الى تصور عام لابس شواغل بيرك البحثية منذ بداياته وحتى يوم وفاته. ضفّتا المتوسط المنظار الفكري العام الذي من خلاله يتعهد بيرك مادّة أبحاثه يبدو وثيق الصلة بالموضع أو المحل الذي منه ينظر الكاتب والمفكّر الى موضوعاته الواقعة في طول وعرض المجتمعات العربية - الإسلامية، ومنه أيضاً، أي من الحل ذاته، يسعى بيرك الى الإحاطة "المؤسلبة" بمختلف الدلالات وبترتيبها وتنظيمها. والمحل هذا، وقد سبق لبيرك أن تحدّث عنه في سيرته ومساره الذاتيين في كتاب بعنوان "ذاكرات الضفتين"، هو نوع من الإقامة بين ضفتي البحر المتوسط، الشمالية والجنوبية. على أن بيرك يريد لهذه الإقامة أن تكون تاريخية ومادّية ودنيانية متحرراً من أثقال تصورات ميتافيزيقية وصوفية واستعمارية متعجرفة وصلفة كانت كلها شائعة في الحقل العام لأعماله وبحوثه، ونعني بذلك حقل الاستشراق، ويتبدى هذا الأمر بوضوح في حوار طويل نشرته مجلة "أسبري" في الشهر العاشر من عام 1960، بمناسبة صدور كتاب بيرك حول "العرب بين الأمس والغد"، خصوصاً وأن الحوار هذا كان يدور بين بيرك وبين مستشرق ذائع الصيت ومولع بالمقدسات والقيم الثقافية والأخلاقية العريضة مثل الضيافة وشرف الإلتزام بالكلام المبذول والمعطى، وهو لوي ماسينيون. وهذا الحوار، المعاد نشره اليوم الى جانب حوارات ومقالات أخرى، يتمتع في نظرنا بأهمية خاصة، لأنه يلقي الضوء على ملمح من ملامح التحولات التي طاولت عمل ومنظار قطاع بارز من الاستشراق، وهي تحولات ساهم جاك بيرك بالتأكيد، ومعه مستشرقون آخرون مثل مكسيم رودنسون، في دفعها وصياغتها بلغة وأفكار وتعبيرات عن هموم وشواغل أكثر جدّة وصرامة وانفتاحاً على القيمة التاريخية للثقافات والشعوب. ونحن نعلم أن بيرك عمل بالفعل على إحداث نقلة نوعية في ميدان الدراسات الاستشراقية، منذ أن كتب تقريراً عام 1946 عن واقع الاحتكاك بين السكان المحليين وتطلعاتهم وبين الإدارة الفرنسية في المغرب الأقصى، وكان بيرك موظفاً في هذه الإدارة. وفي الحوار مع ماسينيون، يشير بيرك الى أن بعض النقاد وجدوا في بعض مقاطع كتابه "العرب بين الأمس والغد" إعلاناً عن قطيعة مع تفكير ماسينيون. ويوضّح بيرك الأمر بلطف وتهذيب شديدين، قائلاً بأن ثمة نوعاً من التوتر بينه وبين ماسينيون، وهو توتر يشبه بعض الشيء ذاك التوتر السائد "لدى أصدقائنا العرب، بين المقدّس وبين التاريخي". ويضيف بيرك بأنّه يسعى الى رابطة مع العرب لا تقوم كلياً على "الشهادة السامية" التي يتحدّث عنها ماسينيون، بل في "رسالة اغريقية - شرقية. إنني أفكّر في منطقة متوسطية نسبة الى البحر المتوسط عريقة" يكون فيها هيراقليطس قاسماً مشتركاً وليس النبي ابراهيم الخليل. الجدل بين اللغتين ثمة بالتأكيد نوع من التراسل بل التماثل بين وضعية بيرك داخل الاستشراق الفرنسي وفتحه على الاهتمامات السوسيولوجية والأناسية بالمجتمعات والنخب السياسية العربية، وبين الوضعية التي يقيم عليها داخل فرنسا بالذات، فهو يسجّل احتجاجاً عالي النبرة، في مقابلة نشرتها مجلة "أسبري" عام 1970، على القول الزاعم بأن الغربيين هم الوحيدون الذين طرحوا على أنفسهم مسألة الآخر: "بلى، الثقافة العربية، الثقافة الفارسية، والصينية وغيرها أيضاً، طرحت مسألة الآخر وبطريقة موغلة في ذلك الى الحدّ الأقصى". ويضيف بيرك، في ما يتعلق بحالته الشخصية: "نعم، أعتقد بأنني بقيت فرنسياً، لا بل فرنسياً في منطقة الجنوب الغربي، وأنا غربي للغاية، ومستقر على ذاتي للغاية، علماً بأنني بقيت أطبِّق التماهي المنهجي مع الآخر الى درجة يندر بلوغها، على ما أظن، لدى زملائي أو لدى الذين سبقوني. وأعتقد بأنه بسبب ممارستي داخل ذاتي والى حدّ الجدلية الديالكتيك بين لغتين، العربية والفرنسية، أراني متمتعاً بالحظ في أن أفهم وفي أن أكون مفهوماً في آن معاً". وعلى هذا النحو الجدلي النازع الى المماثلة والتناظر أنشأ بيرك نظرة الى العروبة والإسلام وثيقة الصلة بنظرته الى تاريخ وصيرورة وآفاق هوية فرنسية وطنية واجتماعية. فقد رأى بيرك، في نصّ منشور عام 1974 حول الفلسطينيين والنزاع العربي - الإسرائيلي، أن "العروبة تشكّل واقعاً يستحيل تجاهله". البائس في الأمر هو أنه يجري، تحت هذه التسمية، خلط بين مستويين اثنين. فهناك قطعاً وحدة ثقافية وأخلاقية وهي ماثلة في إطار الملموس، وأولئك الذين اصطدموا بها العروبة، كما هي حال المستعمرين الفرنسيين، أو أولئك الذين استخدموها، كما هي حال الإمبرياليين البريطانيين، يعلمون بأن الأمر يتعلّق بشيء ملموس، على أن هذا الملموس بالذات، لا يدخل في مستوى الملموس للأمم والدول التي تنمو في الشرق منذ الحرب الثانية، وفي سياق آخر، يتحدّث بيرك عن حبّه للشعوب العربية كلّها، وإن كان لا يكنّ الى الأنظمة شعوراً مماثلاً، إلا أنه، بحسب ما يقول، يضع في الصدارة بلدين اثنين، وهما الجزائر غرباً والعراق شرقاً. وسبب هذا التفضيل يعود الى أن البلدين المذكورين، بحسب ما قال بيرك عام 1985 في حوار مع إيف لاكوست، يمكن اعتبارهما بمثابة انطلاقتين للحداثة الممكنة أو الواقعة قيد التحقق. والحال أن بيرك يحبّذ، بالنسبة الى الدولة - الأمة الفرنسية، مشروع اليعاقبة الذين جلبوا الكثير من المكاسب وإن كانوا دمّروا أشياء كثيرة أخرى، وليس هناك، أي في المآل الحزين والمأسوي للنموذجين المذكورين الجزائر والعراق، ما يدلّ على أن بيرك كان سيعيد النظر في نظرته وتقويمه هذين، وهما لا يخلوان من نزعة "بعثية" كان يمكن لبيرك أن يخفف من غلوائها السياسية والإيديولوجية، إذ أنه يمتلك ما يكفي من الحس النقدي ومن أدوات القراءة التاريخية والسوسيولوجية لتجارب العالم العربي. إلا أنه قرر، على ما يبدو، الإقامة على نوع من الانتقائية في ترجيحاته وتشخيصاته السياسية مستنداً الى اعتقاده العام، وفيه الكثير من الصواب، بأن المنطقة العربية تحتاج الى "لحظة قومية" لإنجاز حداثتها ومشروعها. إسلام التقدّم ثمة ثوابت أخرى لدى بيرك، وفي مقدّمها دعوته، المتكررة في غير موضع، الى أن أفضل وسيلة لمواجهة الأصولية الإسلامية هي ما يسميه بإسلام التقدم. فهو لا يعتقد بأن الإسلام في حدّ ذاته ينطوي أو يحضّ على الجموحات وعلى التزمت، بل يرى بيرك، في حديثه عن ترجمته للقرآن الكريم بأن الكتاب يعير أهمية كبيرة للتاريخية وللعقلانية، وقد يكون من السهل، في نظر البعض، أن يروا في توصيفات بيرك ضرباً من الطوباوية، على أن المستشرق الراحل كان ينشد هذه الطوباوية بوصفها واقعاً قائماً وملموساً وان كان التاريخ الحديث ومعه عناصر الضعف الذاتي، تحول دون بلوغ هذا الواقع قيمته السياسية والثقافية في حقل التبادلات العالمية. ولهذا بقي بيرك يصرّ على أهلية فرنسا، تاريخاً وثقافة، للعب دور إيجابي في العالم العربي، على أساس التكافؤ والتضامن، خصوصاً عند ضفتي البحر المتوسط، وهما ضفتان لطوباوية أخرى ربّما، لكنها ليست في الهواء ولا تعدم النزاهة والشهامة واستعجال العدالة، على أي حال. مقطع من خاتمة كتاب جاك بيرك - البحر المتوسط يجمع الإسلام وأوروبا ... ما ان بلغت القوة الحية للبشر حدودها الحقيقية، أي توحيد الكوكب، حتى راحت، كما لو أن الأمر يحصل بقدرة انقلاب صاخب، تتعرّض وتشهد ذواء مضامينها. هذه النقلة أو الطفرة، الأكثر إقلاقاً على صعيد الفكرة والأكثر ملموسية على صعيد التاريخ مما كان يمكن للمذهب الجدلي القديم الديالكتيك أن يتوقع، تسم الحقبة الآخذة في التمدّد أمامنا. فموجة البنيوية ومهارات الفكر التعدّدي في جيلنا وفي الجيل الذي سبقه، ومعها الظواهر التي تعرضها اليوم سوسيولوجيات وفلسفات الاتصال، كانت تحضّرنا لقفزة هائلة: الانتقال الى عالم آخذ في التأحيد على مرأى العين بقايا الهويات القديمة وسط هيجان ضخم. هذه السيرورة، المنخرطة الى حدّ واسع في عملية تعميم شبكات المعلوماتية، مشفوعة بالتزاوج بين التقدّم التكنولوجي وأعلى الدوائر المالية، تستعير لغاياتها الخاصة الشعارات القديمة لليبرالية. هل سيحسن أصحاب اللعبة استخدامها؟ انه أمر غير مؤكّد، نتحسس بأنهم لا ينادون بقانون السوق والتنافس الحرّ، واستقلالية الخبير، إلاّ لتغطية الألاعيب المشبوهة للسلطة. أن يكون "هذا الشكل الجديد للمصير"، بحسب عبارة استشرافية لماركس، يستدعي توازنات مزعومة، وأن يقترحوا علينا الوزن المضاد للنزعات المناطقية، للتشبث بكانتونات أو غيرها من المبادرات التجزيئية، فهذا أمر طبيعي، ولكن هل يكفي هذا؟.... ما علينا، فهذه الصفحات لا تريد أن تنقلب الى محاكمة اتهامية. ولكن يمكن ربما التسليم للمؤلّف بالحق في نظرة استقبالية كان يمكن الإقرار له بها، منذ زمن طويل عندما كان يستبق من دون أدنى ادّعاء بتنبؤ المستقبل، ومقيماً على التحليل المستند الى الحسّ السليم، يستبق بعض السيرورات التي وسمت بالفعل المنطقة العربية - الإسلامية وعلاقاتنا معها منذ نصف قرن، على قدر ما يمكن الحكم على ذلك بواسطة الوثائق المجموعة في هذا الكتاب. صحيح أن كل فرنسي آخذ في احتساب حظوظ بلده، يمكنه بصعوبة أن يتفادى السقوط في الخطل المتعاقب لأقرانه: الغرور الاستعادي المرتد الى الماضي أو المازوشية المتكبّرة، سوف نكتفي إذاً بالإنطلاق من ملاحظة، وهي أن فرنسا استطاعت حتى أيامنا هذه، أو ما يقرب منها، أنت تؤكد على سلوكها مساراً مستقلاً. علامَ يتأسس هذا المسار؟ على رصيد غنيّ بما فيه الكفاية بحيث يسعه تصحيح الأخطاء الكثيرة جداً التي تسم تاريخها، وهي أخطاء عائدة إما الى خفّة قادتها، وإمّا الى أنانية أصحابها، هذا الثراء التصحيحي يقوم قبل كل شيء على علاقة مستديمة بين نوع من العقلانية، النقدية طوعاً، والنازعة لهذا الاعتبار بالذات الى الاستفادة من الأخطاء، وبين ريفية عميقة بقيت حيّة بعد أفول عهد الأرجحية الفلاحية، وهي ما تزال تلابس قسماً بارزاً من السلوكات.... على أن هذا الثراء ما يزال يقوم على التقاطعات التقليدية لبلدنا مع الفضاء المتوسطي، العربي والإسلامي. والتشديد على هذه النقطة ليس من قبيل البرهنة على عناد وضراوة الباحث المتخصص. وبقدر ما أن فرنسا تدمج في مادتها بالذات بين لغتي "الأوك" و"الأويل" لغتان شائعتان في العصر الوسيط، بين السلتيين واللاتين، وسواها كذلك، أي باختصار بين الشمال والجنوب، فإن طبيعتها بالذات تحملها على عقد صلات متزايدة الاتساع على الدوام بين الشمال والجنوب. ذاك كان، منذ قرون عدّة، أحد الخطوط الأساسية لسياستنا. فمن المعاهدات مع الباب العالي الى الحملة المصرية والى التوسّع المغاربي والأفريقي، كل ذلك يصدر عن الهدف ذاته، بالأحرى عن ذات الشعور. أن تأخذ فرنسا، حالياً، في الانكفاء على المجال الأناني لأوروبا الشمالية، فإن هذا يعني أنها تتخلّى عن شخصيتها، وتتخلى عما كانت تدافع عنه بقوة طوال تاريخها بمواجهة انكلترا والإمبراطوريات المركزية. ولكن "حيث يكون الخطر، ينمو كذلك ما يخلّص" هولدرلين، في هذا الخطر المؤذن بالتبعية والخضوع، وهو موضوع سيصبح حساساً لدى الجميع، وفي هذا الشطط الذي يتهدد اليوم كل المجتمعات بالتعرّض لعملية تمييع مشتركة، يمكن البحث عن دائرة للتضامنات الجديدة. من بلدان المنطقة العربية - الإسلامية، مهما كانت درجة تنوعها، من السهول الأطلسية الى وادي النيل والى الفرات، ينبغي عليّ أن أستخلص، كما هي الحال بالنسبة الى فرنسا، الخطوط الأساسية والمنظورات. الحدث الكبير في جغرافيتهم السياسية كان ارتسام الإسلام وتمدّده من الشرق الى الغرب، تبعاً لمسار الشمس، في هذه المناطق العريقة في القدم ما بين الصحراء والشطآن، والتي يمنحها الإسلام حتى أيامنا هذه، رمزاً موحداً وجامعاً، وقد ذهب النسق، في مجال الالتقاءات القاريّة المتداخلة، أبعد مما فعلته امبراطوريات داريوس والإسكندر. وكان يسعه أن يفضي الى توازن فسيح المدى بين السهوب والبحر. من جهة البحر الأبيض المتوسط، لم ينجح العرب والأتراك أكثر مما نجح الفرس. ان التاريخ الشقي أخضع هذا البعد الأساسي لهويتهم لحرب دائمة، كانت الفتوحات الإيبرية الإسبانية المتجدّدة ومن ثم الإمبريالية الغربية هي التي طغت على مراحلها الأخيرة، كان عليهم إذن أن يتلقوا عملية طرد قارية، ولهذا السبب فإنّ عظمتهم، المشتعبة من بدايات عظيمة، تبدو محتفظة على الدوام بشيء من عدم الاكتمال والإنجاز. ولنضف بأنه إذا كان عليهم من الآن وصاعداً، مثلنا نحن، أن يعثروا على أنفسهم داخل وضدّ ذواء عالمي، فإنهم يضيفون الى هذه المهمة الشاقة صعوبة إضافية تلزمهم بأن يتعهدونها مع مواصلة الجهد لاستدراك الحداثة، الإسلام، وهو العين الساهرة في الليل الاستعماري، يمنحهم بالتأكيد في هذه الأيام رمزاً هويتياً، وان اقتضى ذلك تفعيل قيم أكثر سياسية مما هي روحية داخل هذه الوظيفة. قوة هذه الرمزية تفترض نزوحاً من المقدّس نحو التاريخي. وليس لنا أن نقلل لهذا من فعاليتها قوة الرمزية، كما لا نقلّل من لائحة براهينها، ولكن بما أن الأمر يتعلق خصوصاً بالطابع التاريخي - السياسي، فكيف سيمكنه الإسلام أن يتفلت من تطلعات البشر والشعوب الى الحرية والتقدّم؟ لذلك فإن إسلاماً محمولاً على التقدم هو الذي يسعه، على ما نعتقد، أن يصالح في صورة أفضل حقيقة الإسلام بالذات مع مسيرة العالم من حوله. والحال أنه لا يوجد مكان يتموضع فيه هذا الإسلام أفضل من تثمينه وإعلائه شأن بعده المتوسطي بالذات، وهكذا سيكون له أن يضمن نفسه في مواجهة الشطط العام الذي وصفناه ومع بعضنا البعض، بالاستناد الى هذا الرسو المشترك، يسعه أن يجدّد علاقاته مع أمم الضفة الشمالية على أساس التكافؤ والتضامن. لئن كنت المؤلّف أو المحاور في هذه النصوص الممتدة على أربعين سنة، ولئن كنت باحثاً ومناضلاً، فإنني لا أملك بالطبع سوى موضع صغير جداً في مجرى الأشياء خلال الفترة المذكورة. الى هذا التحديد الذاتي، تنضاف تحديدات حصرية أخرى. إذ من وجهة نظر العلاقات الفرنسية - العربية، قبل أي اعتبار آخر، كانت هذه التأملات الفكرية تتحصل على صياغتها. والحال أن الضفة الشمالية في جملتها كانت معنية بالأمر، مع الانعطافات الخاصة بمساهمات اسبانيا وإيطاليا. واليوم أرى أن مشاريعي مستوحاة من رؤية لاتينية أكثر اتساعاً. مأخوذاً بنظام آخر للأفكار، كنت أترك في حالة فاغرة البعد الهلليني والبعد التركي للمشكلة، وهما البعدان اللذان يسعهما أن يوحيا إليّ بالكثير وعلى غير صعيد. في النهاية، ومنذ عام 1967، راحت الحاحات المشكلة الفلسطينية، وهي ما تزال تختلج في أيامنا هذه، تثير وتحرّك اهتمامي الى حد اغفال نصيب ودور اليهودية في مجتمعات الضفة الجنوبية. .... أختم بالقول بأنني أدعو القارىء الى رؤية واحدة ومتعددة، إنها الرؤية المتعلقة بالبحر المشترك، "المتوسط" كما تسميه العرب، حتى وان كان ينتظم بين أربع نقاط أساسية، وأسماء البلدان والمناطق لا ينبغي فهمها إلا بالرجوع الى ترتيب لا علاقة كبيرة له مع الحدود والدول. هذا الإستئناف التوحيدي يفرض نفسه كذلك على البعد الزمني.