الكتاب: ديوان الأساطير - سومر وأكاد وآشور الكتاب الثالث الحضارة والسلطة ترجمة وتعليق: قاسم الشواف تقديم وإشراف: أدونيس الناشر: دار الساقي - لندن - بيروت عأن يخرج علينا الآن، اثنان من أبرز أسماء ثقافتنا العربية، جهداً وريادة، وإثارة للجدل أيضاً، في هذا الوقت من تبلبل الذات الثقافية العربية، أمام الآلاف من التحديات الراهنة التي تواجه هويتنا، ليقدما، أو على الأرجح، ليشرعا في تقديم موسوعة كاملة. تجمع الأساطير في عشرة أجزاء، منذ البدايات الأولى على الأرض التي ننتمي إليها، في سومر، بين أحضان دجلة والفرات، وفي سورية، والجزيرة العربية، وانتهاءً بمصر. فهو إذن مشروع طموح وجريء في الآن نفسه، يجعلنا نستعيد الثقة التي اهتزت داخلنا، في جذورنا وحاضرنا ومستقبلنا. بل ويجعلنا نسعى جريئين الى صوغ قواعد هذا المستقبل بموازاة الحضارات والثقافات الأخرى، إن لم يكن أسبق من بعضها. بعد صدور الكتابين: الأول والثاني، من هذا المشروع الطموح والضخم، صدر منذ أسابيع قليلة، الكتاب الثالث الذي خُصص ل"الحضارة في مراحل بنائها، وفي ما تخوله المعرفة من قدرات وسلطة"، تحت عنوان "الحضارة والسلطة". وكان الكتاب الأول خُصص ل"أناشيد الحب السُومرية"، المتعلق بنصوص الحب الخصب. أو كما يقول الشعراء السُومريون: "بماء السماء" يخصب الأرض، و"بماء القلب" يخصب الأرحام. وفي الفصل الأول منه، عرض تحت عنوان "ماء الأرض وماء القلب" يصور كيف تم بواسطة الماء إحياء بلاد "دلمون" من الإله "إنكي" Enki إله الأبسو، ومحيط المياه العذبة وسيد المعرفة والخلق ومهارة الصنع، وكيف يقع الإله "إنليل" ENLIL سيد مجمع آلهة سومر، وإله الهواء والأمطار، في غرام "ننليل" Ninlil ذات البهاء والظُرف والحسن، مقدماً لنا تفاصيل حية ورقيقة عن خطبته وزواجه من "سود" Soud الجميلة. ولا يُنسى فوق ذلك تتبع الإلهة "إنانا" - Inanna إلهة الحب السُومرية وابنة الإله القمر "نانا"- Nana وأخت الإله الشمس - "Utu" ويرمز إليها كوكب الزهرة، حين تنزل من سمائها لتتفقد أحوال الأرض حيث يغتصبها بستاني الإله "إنكي". وبين أشهر حبيبين عرفهما العالم القديم، ينقل إلينا الفصل الثاني أجمل أناشيد الحب والعشق، في علاقة الراعي "دوموزي" وإلهة الخصب والجمال "إنانا"، لينتقل بعد ذلك الى دور ملوك سومر في مراسم الزواج الإلهي، وهنا أيضاً نقرأ عن سومر أناشيد حب رائعة حتى في عفويتها الإباحية، ولذا أمكن القول أن مجمل أناشيد الحب المعروضة، تشكل ما يمكن أن يُسمى "نشيد إنشاد سومري"، ما جعل الفصل الثالث ينتقل الى عرض دراسة هي الأولى من نوعها في اللغة العربية، حول توازي الإنشاد السومري مع نشيد الإنشاد التوراتي المنسوب الى سليمان الملك. أما الكتاب الثاني، فجاء تحت عنوان "الآلهة والبشر" طارحاً مواضيع مثل: "البدء والأصول"، الذي يستعرض قصص التكوين والخلق في ما بين النهرين، التي سبقت تحفة النظرة الشاملة في "قصيدة التكوين والخلق البابلية" مُكرسة ارتقاء الإله "مردوك"، معددة أسماءه الخمسين تمجيداً له، ثم قصيدة "الفائق الحكمة وقصة انقاذ البشر من الطوفان"، التي تروي تاريخ البشرية من الخليقة حتى الطوفان، وهو النص الذي كان في أساس المواضيع التي تأثرت بها التوراة، فالثواب والعقاب في انطباق على الآلهة وعلى الملوك والمدن. ثم مسرحية "البكاء على خراب سومر ومدينة نفّر"، وهو أقدم نص عن المسرح الديني السُومري الذي سبق المسرح الاغريقي بألف عام، ثم موضوعان أخيران: "العادل المعذب والعدالة الإلهية"، وهو في أساس وصلب قصة أيوب التوراتية، و"الصعود الى سماء الآلهة"، ويعرض لكل من مغامرتي "أدابا الحكيم" و"إيتانا" الذي صعد الى السماء على جناح نِسر ونُبْل سعيه. من هنا، كما يقول قاسم الشواف في التقديم، يدور موضوع الكتاب الثالث الرئيسي، حول الحضارة في مراحل بنائها، وفي ما تخوله المعرفة من قدرات وسلطة. وتحت عنوان "الحضارة والسلطة" يتطرق الكتاب في أول فصوله، الى بدايات الاستقرار لانتاج الغذاء والكساء مشيداً بثالثوث هذه البداية: "النعجة - الأم، والشعير والكتاب"، كما يحتفل باستقرار الإله البدوي "مارتو"، نتيجة لزواجه من ابنة إله المدينة، الفتاة الجميلة التي اعجبت بشجاعته، فيما يمجد بعد ذلك الإله "إنليل"، وسيد الآلهة والبلاد، متغنياً بفضل سيد الهواء والأمطار في إطلاق مسيرة الحضارة وإقامته في "بيت الجبل الكبير" أو معبده في مدينة "نفّر" وجعله هذه المدينة محجاً للآلهة لتقديم ولائهم له. وفي دور حضاري مُكمل، يقوم الإله "نينورتا" ابن "إنليل"، بعد أن كان فلاح الآلهة، وأصبح بطل المعارك والانتصارات، يقوم بإخضاع "شعب الحجارة" في المنطقة الجبلية المتمردة، عبر تسخير مقالع الجبل وصخوره، كما يقوم ببناء السدود، وتنظيم أعمال الري والزراعة والمساحة. ففي النص رقم 79 وعنوانه "نينورتا يُخضع شعب الحجارة"، نقرأ ست عشرة لوحة شعرية كاملة، في ما يشبه الملحمة الميثولوجية، عندما كانت الصخور والجبال تمثل أشخاصاً محاربين يجب إخضاعهم، وفيه يُصدّر الإله المنتصر "نينورتا" Ninurta ومعناه سيد الأرض بطريقة ميثولوجية، بسلاحه السحري "شارور" Sharur، الذي يتحدث معه، ويراقب أرض المعركة، محذراً وناصحاً. ويؤكد قاسم الشواف أنه يعتقد أن "التأليف" بصدد الإله "نينورتا" يعود الى الفترة المعاصرة ل "جوديا" ملك "لغش". إلا أن اللوحات المكونة للنص تعود في أبعد حد الى الثلث الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، أي حوالى 1700 ق.م. ويذكر أن ثلثي الأجزاء المكتشفة، وعددها مئتان تحمل نصوصاً سومرية، ويضيف اليها الثلث الباقي تكملات، هي ترجمات إلى الآكادية عن أصولها السومرية، ومن ثم، فإن شهرة "نينورتا" وشعبيته وأهمية منجزاته، جعلت الكتابات بصدده تستمر حتى الفترة السُلوقية. في اللوحة السادسة، يقول "شارور" لصاحبه "نينورتا"، وهو يلفُّ ذراعيه حول عنقه عن عدوه "اساكو" Asakku، الذي هو نوع من الوحش العملاق الذي ولدته الأرض حين اخصبتها السماء، وهو بدوره ولد باتحاده مع الجبل أتباعه من مختلف الصخور، يقول "شارور" لصاحبه: "أنت لا تعلم ماذا ينتظرك ايها البطل / لن تستطيع أبداً مهاهجمته/ في قلب الجبل!/ إنه ثقيل كالإعصار/ أيها الإله "نينورتا"، يابن "إنليل!"/ إنه كورم متقيح وخبيث/ بشاعته تضاهي بشاعة البرص على الوجه!/ كلمته مراوغة: ولا يطيع الأوامر أبداً/ هذا الذي يجابهك، يكاد يكون إلهاً!". ويبرز الفصل الثاني، تدخل الإله "إنكي"، في دوره التنظيمي للبلاد وفي ترسيخ أسس الحضارة. واستقطاب الولاء نحو مدينته "إريدو" Eridu- وهي المدينة التي بنى فيها "إنكي" مقره في وسط الأبسو، وتقع على بُعد حوالى 10 كلم من "أور" - مالكة جميع أسس الحضارة، مما حدا بالإلهة "إنانا" ركوب سفينتها السماوية، والسعي نحو "إريدو" للحصول عليها. ولا ينسى الكتاب دور الإلهة "إنانا/ عشتار"، في ما عرفته من محاولات للحد من عنفوانها وحيويتها، بصفتها قائدة الجيوش وسيدة المعارك، ولا يحول ذلك دون ارتقائها وتمجيد سلطتها. واستكمالاً للبعد الحضاري والتاريخي، يتحدث الفصل الثالث والأخير، عن دور المدرسة والحكمة في تعميم وتعميق الحضارة، ونشر القيم الاخلاقية التي تبني مجتمع البشر، فيتعرض لدور التعليم في مدارس سومر وآكاد، ويعرض مجموعة من الحكم والأمثال، منتهياً بتقديم قصة "أحيقار الآرامي" حكيم بلاط "نينوي" في القرن السابع قبل الميلاد، وحكمته. كما يطرح موضوع دراسة للتعرف الى أصول "كليلة ودمنة" ل"بَيْدَبا الهندي" على ضوء قصص وحكايات الحيوانات المماثلة التي عرفتها آثار "سومر" و"أحيقار" و"لقمان الحكيم". أما "أدونيس"، فيقول في حاشية تلت استهلاله للكتاب، إن "المؤلف" في هذه النصوص لا يقول نفسه، وإنما يقول "الجماعة"، فاسمه وهويته ذائبان فيها، ويقوم "التأليف" على قاعدة رؤيوية يمتزج فيها الدين بالفكر، والفكر بالفن، والحس الفلسفي بالحس الجمالي، ويمكن القول تبعاً لذلك، إن التأليف يصدر عن رؤية تكوينية للعالم، و"الجماعة" كلها هي "الكاتبة". إن "ديوان الأساطير" يجعلنا نعيد تقويم إرثنا الثقافي الذي ملكناه من جديد.