يوم العلم السعودي.. رمز الفخر والهوية الوطنية    أعلى نمو ربعي خلال عامين..الإحصاء: 4.5 % ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي    اتحاد الغرف أطلق "تواصل".. تعزيز التجارة والاستثمار بين دول التعاون    في ترتيب الأكاديمية الوطنية للمخترعين الأمريكية.. الجامعات السعودية تتصدر قائمة أفضل 100 جامعة في العالم    وفد إسرائيل في الدوحة.. وويتكوف يصل غدًا.. «هدنة غزة».. جولة مفاوضات جديدة وتعقيدات مستمرة    اليمن.. إتلاف ألغام حوثية في مأرب    42 شهيدًا ومصابا في غزة خلال 24 ساعة    الملك سلمان في جدة    في إياب دور ال 16 لدوري أبطال آسيا للنخبة.. النصر يتطلع للتأهل من بوابة الاستقلال    في ختام الجولة 25 من " يلو".. النجمة والعدالة في صراع شرس على الوصافة    مواقف ذوي الإعاقة    خلال حفلها السنوي بالمدينة.. «آل رفيق الثقافية» تكرم عدداً من الشخصيات    300 مليون دولار.. طلاق محتمل بين جورج كلوني وزوجته اللبنانية    تجديد مسجد «فيضة أثقب» على الطراز المعماري التراثي    مدير الأمن العام يرأس اجتماع اللجنة الأمنية بالحج    تجاوز ال"45″ عاماً.. الإفطار الجماعي يجدد ذكريات «حارة البخارية»    مخيم عائلة شبيرق بأملج لإفطار الصائمين    اغتراب الأساتذة في فضاء المعرفة    الغذامي والبازعي والمسلم.. ثلاثتهم أثروا المشهد بالسلبية والشخصنة    سلمان بن سلطان يدشن مشروعات بحثية توثق تاريخ المدينة    التبرعات ل«حملة العمل الخيري» تتجاوز 740 مليون ريال    أجاويد.. القيادة والريادة والابتكار    الفصول الثلاثة والغياب في رمضان    «السكوتر الإسعافي».. خدمة مبتكرة    خيام الندم    الشيخوخة إرث الماضي وحكمة الحاضر لبناء المستقبل    11 مليار ريال لفرص استثمارية بالأحساء    فيجا يربك حسابات الأهلي    السالم يبتعد بصدارة المحليين    تمبكتي يعود أمام باختاكور    الاتحاد يجهز ميتاي للرياض    سعود يعود بعد غياب لتشكيلة روما    مبالغ النفقة والأخطاء الطبية مستثناة من الحجز البنكي    ارتفاع أعداد الحاويات الصادرة بنسبة 18.25% خلال فبراير 2025    الأمير سعود بن نهار يستقبل قائد منطقة الطائف العسكرية    أمير منطقة تبوك يرعى حفل يوم البر السنوي للجمعيات الخيرية    فتيات الكشافة السعودية روح وثّابة في خدمة المعتمرين في رمضان    الكشافة في المسجد النبوي أيادٍ بيضاء في خدمة الزوار    قطاع ومستشفى تنومة يُفعّل "التوعية بالعنف الأُسري"    أبها للولادة والأطفال يُفعّل حملة "التطعيم ضد شلل الأطفال" و "البسمة دواء"    مستشفى خميس مشيط العام يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للزواج الصحي"    ‏ "أمّ القُرى" تحصد شهادة الآيزو الدَّوليَّة في مجال أمن المعلومات ومجال الأمن السيبراني    نعتز بالمرأة القائدة المرأة التي تصنع الفرق    فرض الضغوط وتعزيز الدعم إستراتيجية بورتمان لسلام أوكرانيا    شبكة مالية حوثية للهروب من العقوبات    «سلمان للإغاثة» يوزّع 450 سلة غذائية في مدينة جوهانسبرغ بجمهورية جنوب أفريقيا    "تكفى لا تعطيني" تحاصر عصابات التسول    سلام دائم    3 مرتكزات تعزز الوعي الصحي بجازان    ترامب يثير الجدل: أوكرانيا قد لا تنجو من الحرب مع روسيا    هدم 632 منزلاً في طولكرم    الإفطار الرمضاني بالعُلا تجربة تنبض بعبق التاريخ والتراث الأصيل    أعمال «مرور الرياض» أمام محمد بن عبدالرحمن    مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية يجدد مسجد فيضة أثقب بحائل    أمير منطقة جازان يتسلم التقرير السنوي لجمعية الأمير محمد بن ناصر للإسكان التنموي    يوم العلم السعودي.. اعتزاز بالهوية وترسيخ للقيم    المرأة السعودية.. شريك أساسي في بناء المستقبل بفضل رؤية القيادة الرشيدة    الجامعة العربية تدين تصاعد العنف في الساحل السوري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هجرات مأسوية من يافا وبيروت وكوسوفو : أتكون الذاكرة وزراً ام حرية ؟
نشر في الحياة يوم 26 - 05 - 1999

الحرب القائمة حالياً في كوسوفو تعيد الى العربي صوراً من واقع، اما عاشه مباشرة او سمع عنه عبر السنوات التي مرّت منذ نكبة فلسطين عام 1948 والتي وقع فيها نزوح تلو نزوح في ارجاء المنطقة. فلقد دخلت طوابير المهاجرين ذاكرتنا الجماعية وها هي تُعاد امامنا من جديد كذكرى أليمة مليئة بسخرية القدر: التطهير العرقي، التهجير القسري، المذابح، تدمير القرى كل هذه الوقائع يعيشها الكوسوفيون كما عاشها اجدادنا وجداتنا في فلسطين عام 1948 وكما عاشتها شعوب المنطقة كلها عبر السنين: في لبنان وسورية والعراق والكويت والسودان وغيرها. ان القائمة لا تنتهي.
لم يكن الشعب الفلسطيني عام 1948 ليتمتع بالحماية الدولية التي يوفرها للكوسوفيين حلف الاطلسي. ولم يتمتع بها عام 1967 حينما احتلت اسرائيل ما تبقى من ارض فلسطين وطردت منها ما يزيد عن 170 ألفاً من المشردين الجدد. وها هو الشعب الفلسطيني اليوم يتمسك بسيادة على ما لا يزيد عن 3 في المئة من هذه الارض، محتمياً بمعاهدات فارغة لم تُنفذ، وعلى رأسه سلطة وطنية لا تتسم سوى بالعجز والفساد. زد على ذلك انه حينما وافقت منظمة التحرير على اتفاق اوسلو، قبلت بشرط اسرائيلي - ضمن شروط تعجيزية اخرى - ينص على الغاء "المواد المعادية لدولة اسرائيل في المناهج المدرسية، لا سيما التي تتعلق بنكبة عام 1948 وغيرها من الاحداث الرئيسية في خبرته الوطنية. بمعنى آخر، انه أُجبر على الغاء ما تبقى من ذاكرته.
هذا بالطبع لم يحدث، ليس لانه من الصعب تعديل المواد التعليمية والمنهجية ومنع الكتب والمنشورات للمشروع الصهيوني. بل لأن عملية حذف الذاكرة الجماعية شبه مستحيلة - ومن اعلم من الشعب اليهودي بذلك؟ - لا سيما حينما يكون الواقع المرير الذي تعيشه الضحية بمثابة تذكرة يومية لها عما حدث في الماضي و عما ادى الى وضعها الحالي.
لكننا نعرف جميعاً ان الخبرة الجماعية في طبعها متعددة ومتبعثرة وهي تتغير. فليست هناك ذاكرة واحدة ولا خبرة واحدة يعيشها مئات الالوف معاً. لذا، فالذاكرة مقلقة ومريحة في آن، تارة دافئة وتارة اخرى مشحونة بالآلام، هشّة ملعونة تفاجئنا بصورها المفجعة من دون انذار، وتأتينا في المنام بعد ان نكون ظننا انها اختفت. وكما كل ارث، ترصد لنا كمين الخيانة فتجعلنا نخاف النسيان وكأنه اعظم خيانة لها. واذا اغفلنا عنها يوماً، يؤنبنا ضميرنا حتى تعود بعد قليل لتغمرنا بسعادة مفعمة لتحمل لنا رائحة ما من بعيد الزمان، او صوتاً او وجهاً طالما اشتقنا اليه.
والذاكرة هي عدو الواقع الاول، لأن الواقع، بطبيعة الحياة والتاريخ، دليل على رحيلها. لكن الواقع والذاكرة يتحالفان احياناً ليخلقا حافزاً للنضال ضد اللاعدالة والقمع. لذا، حينما يواجه المرء بالهزيمة - ونحن العرب في قاع الهزيمة - يفاجأ بفراغ الذاكرة وعجزها، وتعود فتسكنه مرارة مجددة.
أرى اليوم وجوه اللاجئين الكوسوفيين واتخليهم بعد خمسين عاماً: ماذا لو انتصر الصرب، ليس عسكرياً فهو امر شبه مستحيل، وانما سياسياً، حيث ينجحون بفرض "حل وسط" يعود ضمنه عدد محدود من اللاجئين الى منازلهم وتنقسم كوسوفو الى قسمين، بانتظار الحرب القادمة، كما حصل في فلسطين؟
ماذا لو عاد احدهم بعد خمسين عاماً من الهجرة والتشرد كما فعل ابي قبل اسابيع؟
عاد ابي بعد تردد كبير. عاد ليزور بلاده، لكنه - عملياً كما هو دائماً - حضّر برنامجاً حافلاً يتفحص اثناءه المشاريع التي ساهم عبر السنين في تمويلها او تسهيل تمويلها من ماله الخاص او من مال المؤسسات الدولية. وكان على رأس حفلة تكريمية تلقى فيها شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة بيرزيت الواقعة في الضفة الغربية تقديراً لما قام به من جهود ومؤارزة لفلسطين واهلها منذ ان اصبح، قبل ثلاثين عاماً ونيف احد ابرز الشخصيات الفلسطينية في المهجر.
دخل ابي فلسطين عبر الحدود الاردنية، وكنا قد اتفقنا ان نلتقي في يافا، مسقط رأسه، بعد يومين من وصوله. كان آخر عهد لأبي بيافا عام 1948 حين تركها للمرة الاخيرة الى بيروت حيث التحق بالجامعة الاميركية، وعندما سقطت المدينة في ايدي القوات اليهودية في ايار مايو 1948، انقطع الاتصال بينه وبين مدينته وقرر آنذاك ان يعود للبحث عن عائلته. الا ان الوضع العسكري ومنع الاسرائيليين عودة الفلسطينيين الى ديارهم، جعلا طريقه يتوقف في مدينة اللد التي بقيت في ايدي العرب حتى سقوطها في صيف 1949. ومن حسن حظه انه وجد عائلته لاجئة عند احد اخواله وهم من اللد اصلاً، ومنها قرروا النزوح الى امان مدينة عمان في الاردن حتى تستتب الامور وتضع الحرب اوزارها.
كنت قد اخرجت فيلماً عام 1995 عن سقوط يافا وتعرفت من خلال هذه الخبرة على معالم المدينة وتاريخها جيداً. كانت يافا قبل سقوطها من اكبر مدن فلسطين واكثرها حيوية وثراء، يسكنها ما يزيد عن المئة وعشرين الف نسمة. وقد شهدت معارك ضارية بين المسلحين الفلسطينيين وقوات الأرغون والهاغانا اليهودية في نيسان ابريل وايار مايو عام 1948 لا سيما في حي المنشية حيث ولد ابي الذي يقع شمال المدينة في محاذاة اطراف تل ابيب الجنوبية وقد دُمر هذا الحي العامر عن بكرة ابيه في السنوات التي تلت الاحتلال، وتقوم مكانه اليوم حديقة عامة، باستثناء منزل عربي واحد حوّلت انقاضه اسرائيل الى متحف مكرّس لذكرى "شهداء" عصابة الأرغون التي شاركت بوجه خاص في اقتحام يافا.
حينما سقطت يافا في 13/5/48 كانت قد اصبحت مدينة اشباح وتقلص عدد سكانها الى بضعة الاف فقط، امرتهم سلطات الاحتلال بالتجمع في حي العجمي حيث احاطتهم بأسلاك شائكة ومنعتهم من الخروج. وقبل حرب الايام الستة كان من الصعب على المواطن اليافي ان يخرج من مدينته من دون تصريح عسكري. وحتى تاريخ قريب جداً، كانت بلدية تل ابيب تمنع اليافيين المتبقيين من ترميم بيوتهم او بناء بيوت جديدة لهم. ومع ان المدينة ضُمّت رسمياً الى بلدية تل ابيب، كانت - وما زالت - الخدمات التي تُقدم للمواطنين العرب فيها هزيلة او شبه معدومة.
لذا تحولت يافا الى مدينة فقيرة سرعان ما اصبحت بؤرة لتجارة المخدرات والدعارة، وحلّت على أناقتها وجمال طابعها العربي علامات الحزن والاهتراء. ودمّر الاسرائيليون بيوت "الغائبين" او استولوا عليها وأسكنوا فيها مهاجرين يهوداً من جميع ارجاء العالم. ووضعوا ايديهم على المدينة القديمة وعلى بعض البيوت الأنيقة، فحوّلوها الى معالم أثرية اخترعوا لها تاريخاً يهودياً اسطورياً لاستهلاك السائح حيث لا يظهر العرب سوى عابري سبيل على احداث مدينتهم.
وعلى رغم هذه المحاولات لإزالة شخصية يافا العربية، الا ان اهلها المتبقين فيها - وقد اصبح عددهم اليوم يزيد عن العشرين الفاً - قاموا بنضال عسير وطويل للحفاظ على وجودهم فيها وعلى ما تبقى من طابعها العربي. وأخذوا يرممون البيوت والمدارس ودور العبادة الاسلامية والمسيحية على رغم قوانين البلدية. لذا، فان من الاشياء التي تلفت نظر الزائر لدى دخوله يافا بعد ضخامة تل ابيب وضوضائها، مدى تعمّق هذه الشخصية العربية حيثما نظر.
التقيت ابي في المكان المُتفق عليه وكان بصحبته العديد من الشخصيات اليافية وبعض الاصدقاء، منهم الدكتور ابراهيم ابو اللغد الذي نشأ هو ايضاً في يافا وتوفي اخوه شهيداً في الدفاع عنها. لمحت على وجه ابي مزيجاً من الحزن والحماسة الطفولية، ووجدته متأثراً ولكن مليئاً بالفضول لرؤية مدينته من جديد. قررنا الذهاب فوراً للبحث عن منزله العائلي. وبعد نقاش مطول حول موضعه بالضبط، انطلقنا الى منطقة جبلية حيث كان يقع البيت، وتذكر ابي انه كان بالقرب من جامع صغير ومن المدرسة الايوبية التي ما زالت موجودة وان شجرة جميز كانت امامه. ومن دهشتا جميعاً اننا ما ان اقتربنا من الحي الذي وصفه ابي، حتى تعرّف عليه من دون تردد… "هذا هو. هذا هو بالتأكيد ولا شك لديّ. كنا نسكن الطابق الثاني. هذا بيتي، حيث توفي ابي. وهذه الجميزة، وهناك بيت عائلة عبدالرحيم وقبلها المدرسة الايوبية. وهذا الشارع المؤدي الى شاطئ الشباب، ابداً وكأني أراه قبل خمسين عاماً. ولكن، أين البيوت؟ كان الشارع كله بيوتاً". وعندما نظرنا الى حيثما اشار، رأينا جانباً كاملاً من الشارع خالياً من البناء.
هذه هي يافا اليوم: بقع هنا وبقع هناك، حيث كانت تقف في يوم من الايام البيوت والمباني. تخيلتها ثوباً جميلاً متآكلاً مرقعاً بخرق سوداء وكأنه يتشبث بجماله العابر. فهل تشي البقع بالجمال المنقرض ام ان الجمال يُظهر البقع الفتاكة؟ هل يستعيد الحاضر ماضيه المجيد او الماضي حاضره الأليم؟ فالبيت الجميل، مثلاً ذو الطابع العربي اشتراه اخيراً وزير الاستيعاب الاسرائيلي...
لست اعلم بالضبط لماذا اخذ ابي يكلمنا عن لحظة وفاة ابيه في هذا البيت. كيف انه استعيد من القدس حيث كان تلميذاً في مدرسة النهضة، كيف أحضر الطبيب من المستشفى الحكومي الذي هُدم ايضاً ليعالج اباه للمرة الاخيرة. ذلك الأب الأمي الذي كان يحلم ان يصبح ابنه رجل دين وان يبني له جامعاً في يافا يؤم فيه… هل لأن موت الأب لحظة الانقطاع الاساسية في حياة الانسان، حين تفلت اواصر الصلة مع الماضي فتخيفنا، ثم تحررنا؟
في طريق العودة الى القدس، حيث كنا نبيت، اخذت أتأمل احداث اليوم. لماذا فؤجئت وحزنت لذكرى والده؟ اخذت امدّ حصيرة الماضي امامي، وانتابني احساس غامر بالفشل وبالذنب، كما قد تكون انتابت لأبي. فهل لاننا لا نحفظ الاستمرارية على الارض. او لأننا جيلان لم يعرفا سوى عار الهزيمة وعار الحروب الاهلية؟
"أنظر يا ابي. ها أنا اليوم أمامك، فكيف تراني؟ ما رأيك؟ أعرف ان كل أب يخفي اسراراً عن اولاده، لا سيما تلك العواطف الغامرة التي يحسّها تجاههم، مزيج من العطف وعدم الرضى، ثم الفخر ثم الشك والغضب احياناً. ها نحن عائدان من زيارة منزلك حيث مات أبوك، فلماذا ينتابني هذا الرعب القديم من رحيلك انت وأمي؟ أرى نفسي طفلاً في بيروت تهدهده مخاوف غيابكما فيختبئ تحت أغطية السرير ثم يستيقظ في الصباح فرحاً لوجودكما. اما الآن، وانت تكلّمنا عن وفاة والدك، أرى هذا الرعب امامي من جديد: صحيح ان شجرة الجميز ما زالت قائمة وان البحر لم يتزحزح من مكانه. ولكن، ما الذي سيتبقى لنا نحن عند رحيلك أنت؟".
لقد مرّ المجتمع الفلسطيني بتجارب عدة غيّرت الكثير في العلاقات الاجتماعية والطبقية فيه، بشكل غالباً ما كان عنيفاً وسريعاً، وذلك لقوة الصدمات التي تعرض لها منذ نزوحه. وتحول مجتمع بسيط وفقير نسبياً الى مزيج غريب من الافراد الذين في الامكان وصفهم بأنهم مليئون بالتناقضات العنيفة. لذلك، لاحظ ابي مدى التفاوت والتباين بين افراد شعبه: فهناك الكفاءة العالية ممزوجة بأقصى التخلف، والانفتاح التام على العالم ثم الانكماش والتمسك بقيم الماضي. وفي فلسطين اليوم دلائل كثيرة الى هذا التفاوت، بالذات بعد ان عاد عدد غير قليل من اهل المهجر اليها في اعقاب اتفاق اوسلو.
كانت ملاحظة ابي الاكثر دقة كيف انه على رغم وجود امثال مضيئة من البشر من حيث الشهامة والكرم والمعرفة والنزاهة، الا ان هؤلاء محاطون بمجتمع عجز حتى الآن عن اقامة بنى حديثة ومنفتحة وديموقراطية، وليست سلطته الوطنية سوى انعكاس اليم لهذا العجز.
كان ابي استقال من المجلس الوطني الفلسطيني عند نشوب ازمة الخليج، دفاعاً عن الكويت واحتجاجاً على احتلالها، فكيف نؤيد احتلالاً ونحن ضحايا احتلال آخر؟ وأدت استقالته الى انقطاع شبه تام بينه وبين ياسر عرفات. مع ذلك، وصلت لأبي دعوة من الرئيس الفلسطيني للغداء، حيث استقبلنا في مقره في رام الله بحرارته المسرحية المعتادة. وكان أبو عمار محاطاً كالعادة رجاله - من حراس وموظفين - ودعانا للجلوس الى مائدة انضمت اليها كل الرعية. وأصرّ - لتكريم ابي - ان اجلس انا بقربه، على رغم انه لم يكلمني طوال الوجبة.
دار حديث عام ورسمي بعض الشيء حول الاوضاع السياسية لم اشترك فيه كثيراً، سوى اني فوجئت بسذاجة المستشارين المحيطين بأبي عمار. اخذوا يقنعونا ان اسرائيل ليست دولة قوية كما تدعي وسائل الاعلام وان الاوضاع "ستتدبّر" ان شاء الله وان المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة ليست اكثر من مشكلة عابرة لها حل سريع. اخذت - وانا استمع الى هذه التحليلات "الثاقبة" - أنظر الى يدي عرفات، فاذا بهما صغيرتان بيضاوان تتناقضان تماماً مع الهيبة الأبوية المنبثقة منه.
ثم اخذت ألحظ شيئاً غريباً في وجوه موظفيه، عاملاً مشتركاً بينهم، ليس في الشكل بل في التعبير، مزيجاً من الطيبة والسذاجة، عندئذ فهمت انهم جميعاً متأهبون امام ابيهم الروحي، يخشون غضبه، ولكنهم - كالإبن المراهق امام ابيه - يكنّون له كمّاً ليس بسيطاً من المراراة والعدوانية. أفهل يحكمنا مجموعة من المراهقين وأب روحي لا يشي بسره لأحد ويبقيهم في حال من التوتر والترقّب لأدنى اشارة منه لا يعلم احد مثلاً، سوى عرفات، كم من المال موجود لدى السلطة الوطنية…. وهل المجتمع الفلسطيني كله رهينة هذا المأزق النفسي الخانق، سجين سلطة أبيه الباطنية؟
اثناء رحلة يافا، دُعينا لشرب القهوة في احدى البيوت، واجتمعت المجموعة التي رافقتنا لزيارة منزل ابي لتتحدث معه. كان الحديث عاماً، الى ان قاطعنا فجأة احد الموجودين وأصرّ على صديقه الجالس بقربه ان يسمعنا مواهبه في تقليد اصوات الزعماء السياسيين. فتكلم ببراعة مثل جمال عبدالناصر، ثم انور السادات، واخيراً مثل عرفات. وغمرني فجأة احساس عميق بالحزن، لأني فهمت ان هؤلاء عاشوا طوال هذه السنين الاحداث العربية من بعيد، وما كانوا قادرين سوى على السخرية منها واحيائها من خلال التقليد. اشباح تقلّد اشباحاً. تذكرت حينئذ ذلك المشهد في كتاب المؤلف الفرنسي الكبير جان جينيه، "سجين عاشق"، الذي يصف فيه مجموعة من الفدائيين في أغوار الاردن يلعبون الورق بأوراق وهمية لأن لعب الورق كان ممنوعا بأمر من قائدهم.
في ليلة من ليالي اقامتنا في القدس، دُعينا الى حفلة خيرية لمساعدة المستشفيات العربية في المدينة. اذكر هذه الحفلة لأن ضيف الشرف كانت الطبيبة البريطانية بولين كيتنغ، تلك الانسانة الشجاعة التي أصرّت على البقاء في مخيم برج البراجنة اثناء حصار المخيمات الفلسطينية في بيروت من قبل ميليشيا حركة "أمل" في الاعوام 1985، 1986، 1987، والذي انتهى بانهيار المخيمات شبه التام وإلحاق اضرار واصابات مفجعة بأهلها.
تكلمت كتينغ عن خبرتها اثناء الحصار وعن بطولة اهالي المخيمات وكرمهم تجاهها. وروت قصة فتاة صغيرة كانت قذيفة قد بترت رجلها واصابت أخاها الصغير الذي كان يقف بقربها. وروت كيف ان الفتاة رفضت البكاء على رغم ألمها الشديد، وكيف انها حينما سألتها: "لماذا لا تبكين؟" أجابت انها اذا بكت سوف يبكي اخاها وهي لا تريده ان يبكي.
أعادت لي هذه القصة فقرة اخرى من العودة الى الماضي، ماضيّ انا هذه المرة. اذ اني ذهبت قبل اشهر، وبعد غياب طال اكثر من عشرين عاماً، الى بيروت، مسقط رأسي. وزرت بيتنا هناك بصحبة صديقين مقرّبين. قد تكون هذه العودة اشد قسوة من عودة ابي الى بيته، انني لا اعتقد ان الآلام تقاس هكذا او تقارن، لكن قصة بيتنا في بيروت، في الطابق الثالث من مبنى قرب المطار ومن مخيمات صبرا وشاتيلا وبرج البراجنة التي تكلمت عنها كتينغ، انما تحمل في طياتها ليس ألم الفقدان فحسب بل عاراً اعمق: عار الاقتتال بين ابناء الشعب الواحد.
كنا على موعد مع مسؤول في المؤسسة الخيرية التي أعارها والديّ بيتهما مقابل ان تقوم هذه المؤسسة بترميمه. وفوجئت لأول وهلة بمهارة الترميم ومدى حفاظ المقاول على الشقة، وكأن كل هذه السنين لم تمرّ على رحيلنا: قبضات الابواب لم تتغير، حتى بلاط الحمامات والمطبخ ما زالت كما كانت، الا الاثاث طبعاً، وجدت الشقة اصغر بكثير من الصورة العالقة في ذاكرتي الطفولية، لأني ربما كنت، ابن الحادية عشرة، أرى كل شيء اكبر مما هو عليه.
ثم نزلنا الى الملجأ الذي رُمّم هو الآخر وحيث امضينا ليالي عدة لدى اندلاع الحرب الاهلية عام 1975، لذلك كنت اذكره جيداً. اخذ المسؤول يكلمنا عن تاريخ الملجأ: كيف انه كان سجناً لحركة امل اثناء حرب المخيمات... وكيف ان المقاول لدى عملية التصليح، وجد جثة مدفونة تحت الانقاض، وعلى الحائط كتابات المساجين اليائسة.
سأل كل فلسطيني وفلسطينية - سراً ام علناً - ابويه في يوم من الايام السؤال نفسه: لماذا تركتم؟ ويخيل اليّ ان الاجابة تأتي دائماً على مرحلتين: اولاً التبرير البديهي ان القصف والتهديد والخوف على العرض والشرف طبعاً هي الدافع الى النزوح، ثم يأتي صمت مطوّل يتأمل فيه النازح ذاكرته، قد يشك بهذه الاسباب ويؤنبه ضميره ثم يحسّ بالذنب والحياء وقد يشك بأنه جبان ربما، ثم، كالامواج على شاطئ املس، تذهب الذكريات ويُنسى السؤال لأنه يجب ان يواجه حياته الآنية.
هكذا سألت اهلي عن رحيلنا من لبنان. واليوم أتخيل في عيون اطفال كوسوفو طيف السؤال نفسه، نواة تكبر وتتضخم كسرطان مفجع لا بد له ان يتفجّر هباء في يوم من الايام.
لكن صورة الجثة في الملجأ تعود اليّ. وتعود اليّ تلك المقولة الجميلة التي ذكرها ابي - لست اذكر - اثناء رحلتنا الى فلسطين: "الإبن سر أبيه". ما اصعب هذه الجملة، اذ ان السرّ سرور ولكن السرّ عبء ووزرٌ ايضاً، نحمله معنا حيثما ذهبنا.
فكيف نحوّل الذاكرة - الحب والألم معاً - الى مشروع مستقبلي ونحن في قاع الهزيمة؟ كيف نعود فنحول الحنين الى نضال، كيف نتحرر من طغيان الاب القمعي الذي لا يريد افلات زمام الحاضر - وتعود هنا وجوه مساعدي عرفات - الى تمرد وتحرر، والى حياة من الكرامة تليق بذكرى كل من استشهد وذكرى تلك الطفلة التي رفضت ان تبكي؟
ليس في امكاننا ان نعود الى نقطة الصفر، ان نلغي ما حصل ونعيد لحظة الطهارة الوهمية التي يعيشها كل مراهق في أوج ازمته الاوديبية حيث يحلم بالغاء الأب، وهو حلم خائب لأنه بمثابة محاولة لالغاء الماضي، ولكن، بعد هذه الرحلة مع ابي، فهمت ان لحظة وفاة أبيه عالقة في ذهنه ليس لحبه له فقط، بل لأنها كانت لحظة انطلاقة الى الحياة، حيث لم يدع هذا الرجل العصامي الماضي يحتل وعيه، وحيث حوّل الحنين الى تحدٍ واصبح اكثر الافراد فعالية في النضال الوطني الفلسطيني.
لكن متى ينتقل الفلسطينيون الى هذه الدرجة من الوعي ومتى أنا؟
* مخرج سينمائي فلسطيني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.