تُراوح فلسطين، في المِخيال الشعبي، بين "يقينٍ" ب "وطن مُغتصب"، و"حلمٍ" ب "وطن محرر"، ضمن "ثنائية" ظلّت حاضرة في وجدان الشعب الفلسطيني على مدى 67 عاماً، هي عمر الاحتلال الإسرائيلي، الذي يُعرف مجازاً ب "النكبة"، التي تحل ذكراها اليوم 15 مايو، فيما يستمر فعلها منذ عام 1948. ويَعلَق الفلسطيني في "ذاكرة النكبة"، التي عرف تفاصيلها دون أن يُعايشها، فجيل الأجداد منه من قضى نحبه، ومنه من ينتظر، فيما جيل الأبناء والأحفاد، الذي لم يعرف من وطنه إلا سيرة مضت لا تتوقف عن التكرار، فيراوح في تلك "الثنائية"، لا يبرحها حِفظاً لحق أجيال لم تحضر بعد، وإصراراً على أملٍ بعودة إلى الديار، قد لا يكون ضمن قوافلها. أصقاع الدنيا، التي شُرّد فيها الفلسطيني، لم تفقده الأمل ب "وطنه الحلم"، فحمله معه في ترحاله، وراح يعيشه في حِله أنى اتسعت له الأرض، هذا حال شهيرة العابد، المواطنة الأمريكية من أصل فلسطيني تقول شهيرة، التي تقيم في الولاياتالمتحدةالأمريكية وهاتفتها "اليوم" من عمان، إن ثمة ما يطرق مسمعها، يقول لها "نريد العودة إلى البلاد"، لا تدرك هي مصدره، إلا أنها تتذكر أن جدها كان يردد هذا كل يوم. تختزن ذاكرة شهيرة، التي تعود أصولها إلى قرية بيت نبالا المحتلة عام 1948، حكايا مروية عن مسقط رأسها، من بينها "شجرة التين" و"جرة العسل"، التي أخبرها عنها جدها ووالدها، اللذان قضيا نحبهما في دول اللجوء. شهيرة، المواطنة الأمريكية، وبعد حصولها على الجنسية، سارعت إلى زيارة فلسطين، في مفارقة ذات دلالة عميقة في الوجدان الجمعي للشعب الفلسطيني، الذين حرم من وطنه بوصفهم فلسطينيا، وسُمح له بزيارته لأنه يحمل جنسية دولة أخرى. "السياسة لها أهلها"، تقول شهيرة، لكن "حين قال الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن، ذات زيارة له لفلسطين (إسرائيل)، إن قرية بيت نبالا موقع حيوي مُحال أن تعود إلى الفلسطينيين، أثار ذعري، وهاتفت والدي فَزِعَة لأخبره، فقال لي: العودة قادمة لا محالة". والد شهيرة، أبو نبيل، فلاح فلسطيني بسيط، قاده التشرد إلى بلاد اللجوء محملاً بوطنٍ وبعضٍ من حطام الدنيا، شأنه شأن كافة اللاجئين الفلسطينيين، الذين غادروا منازلهم في فلسطين محملين ببعض متاعهم وذاكرة وطن، بيد أنه آمن بالعودة كوعد سماوي، سيحين ذات يوم، إلا أنه لم يدركه. ترى شهيرة، التي رزقت بعد زواجها بولد وبنت بالكاد ينطقان العربية، أن "الفلسطيني مُحمّل بوطنه، الذي لا يملك منه إلا قصاصات رواية يحكيها لأبنائه وأحفاده، وأضطر أحايين كثيرة أن أرويها لهم بالإنجليزية، فهذه مهمتي، التي تُبقي فلسطين حاضرة إلى يوم الدين"رغد الحياة في دولة غربية لم يحل بين شهيرة ووطنها الأم، فحين ترتكب إسرائيل جريمة جديدة، أو تسفك دماً فلسطينياً، تسارع هي وأبناؤها إلى المشاركة في الفعاليات الاحتجاجية قبالة الكونجرس الأمريكي، وتعتبر هذا "جزءاً من دورها في تحرير وطنها، الذي يجثم عليه الاحتلال الإسرائيلي". الحلم ذاته الحُلم لدى الفلسطينيين هو ذاته، في الغرب والشرق سواء؛ ففي أزقة مخيم البقعة للاجئين الفلسطينيين، شمالي العاصمة الأردنيةعمان، تسمع أنّات اللاجئين، الذين تمسكوا بالسكن في "المخيم" باعتباره رمزاً من رموز نكبتهم، التي لم تنل من عزيمتهم، لكنها أيضاً لا تبدو أنها قد دنت من حل ما. "متمسكون بالعودة"، يقول السبعيني أبو خليل المحسيري ل "اليوم" من باب بقّالة في مخيم البقعة يستعين بها على تكاليف الحياة، ويضيف: "لا تسعفني الذاكرة كثيراً عن فلسطين، إلا أني سأعود حتماً ذات يوم". أبو محمد، هاجر من فلسطين وهو في السابعة من عمره، وتحتفظ ذاكرته بقريةٍ لم يكد يطأها، لكنه يذكر جيداً عربة، يسحبها بعير، أقلته وأخوته إلى دولة اللجوء، وكيف قضى هو وذووه ليالي في العراء، قبل أن يتسقبله الأردن، وتحتضنه هذه الأرض. يستذكر أبو محمد، الذي تعود أصوله إلى قرية بيت محسير ويحمل المواطنة الأردنية الآن، استقبال وحفاوة إحدى العشائر الأردنية في غور الأردن له ولذويه، وإيواءهم لهم، ويقول "بعد عناء طويل استقبلتنا أسرة من عشيرة الزناتي، وآوتنا في كنفها، لقد أنقذونا من موت محقق". المهاجرون والأنصار يستضيف الأردن الحصة الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين، الذين يضاهي تعدادهم عدد الأردنيين أنفسهم، وباتوا اليوم مكوناً أصيلاً في السياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأردني، في علاقة أشبه بعلاقة المهاجرين والأنصار في المدينةالمنورة عند هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام وأوائل المسلمين من مكةالمكرمة. يرى أبو محمد أن "للفلسطيني في الأردن موطنين، الأردنوفلسطين، يعيش في الأول ويدين بالولاء له، ويحلم بالثاني ومتمسك بالعودة إليه". يتجاوز تعداد الفلسطينيين حول العالم حاجز ال 9 ملايين فلسطيني، وفق إحصاءات غير رسمية، ويشتركون جميعاً في الحلم بوطنهم، رغم أنهم وُطّنوا في غالبية دول اللجوء والمهجر، ما يُعتبر أكبر معيق لتمام المشروع الصهيوني في فلسطينالمحتلة، التي ظلت عربية إسلامية على مدى التاريخ. "لم تكن فلسطين لقمة سائغة للعصابات اليهودية إبان "النكبة"، فعلى أرضها استشهد مئات الجنود من مختلف الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي شاركت في حرب عام 1948"، قال خالد زقوت، الذي أصر على استضافة "اليوم" في منزله بمخيم غزة للاجئين الفلسطينيين، شمال الأردن، للقاء جده أبي إبراهيم، الذي يتوسط العقد الثامن من عمره. ذكريات الحرب أبو إبراهيم، لاجئ فلسطيني من غزة، شارك في حرب 1948 في صفوف القوات الشعبية، وكان شاهداً على أرض المعركة، واقتادته رحلة اللجوء إلى الأردن، حيث يمكث الآن على فراش المرض بعد أن نالت منه سنين العمر. يقول أبو إبراهيم، الذي ابتسم حين علم أن "اليوم" هي صحيفة سعودية، إن "المغفور له – بإذن الله – الملك عبد العزيز آل سعود انتصر لفلسطين منذ البداية، وأمر الجيش السعودي بالتأهب والمشاركة في حرب النكبة خلال 24 ساعة، وكانت مشاركة ذات أثر استراتيجي". "رافقت جنوداً من الجيش السعودي، الذي "دخل إلى فلسطين من حدودها مع مصر، وقاتل إلى جانب الفلسطينيين ببسالة عبر فرقة عسكرية كاملة، بعديدها وعتادها"، يقول أبو إبراهيم. شهيد سعودي ويضيف: "في ذاكرتي صورة لجندي سعودي، لا أذكر اسمه لكنه من قبيلة عنيزة، لم يكن يكترث لرصاص العدو، ويقاتل وصدره فوق الخندق، وكأنه كان يرى موطئه في الجنة، لقد استشهد على مشارف مدينة المجدل الفلسطينية". تبدي نظرة أبو إبراهيم عرفاناً للدور السعودي في حرب فلسطين، ويتحدث بكلمات بالكاد مسموعة عن بسالة الجيش السعودي. "ثمة مقاربة لدور المملكة العربية السعودية، وإقدامها على مواجهة ما يعترض الأمة"، يقول الحفيد خالد، ويشرح "قبل 67 عاماً، في فلسطين، سارع الملك عبد العزيز، رحمه الله، إلى نجدة أهلها، واليوم في اليمن، يسارع ولده خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، عزز الله ملكه، في نصرة أهلها ومواجهة العدوان الفارسي". ويرى خالد، الذي يأسف لما حل بدول المنطقة، أن "السعودية ظلت على الدوام رأس الحربة في مواجهة ما يتهدد المنطقة من مخاطر، وسارعت إلى نصرة شعوبها، لقد سمعت الكثير من جدي عن دور الجيش السعودي في حرب فلسطين". خالد شأنه كأبناء جيله، يحلم بالعودة إلى فلسطين، وتحديداً إلى المجدل، التي احتلتها العصابات الصهيونية في نكبة فلسطين عام 1948، ويرى أن الواقع العربي المأمول هو الرافعة لتحقيق حلمه، فيما ينظر بعين الأمل للجهود التي تبذلها السعودية بقيادة الملك سلمان بن عبد العزيز، ويقول: "لقد أحيت فينا الأمل بعودة العرب إلى مكانتهم الحضارية التي تليق". ثمة إيمان لدى اللاجئين الفلسطينيين بأن استعادة فلسطين المغتصبة لا تكون دون نهوض الأمة العربية، واستعادتها لحواضنها، التي كانت فريسة ذات يوم لحالة التردي، فيما تحيي خطوات العهد الجديد في السعودية الأمل بمشروع نهوض يقوده الملك سلمان بن عبد العزيز، سيكون حتماً استكمالاً لسيرة عطرة خطها آل سعود.