ليس في التاريخ الحديث والمعاصر دولة كإسرائيل، أقامها الإرهاب، وتأسست وعاشت عليه. وجاءت الصهيونية إلى فلسطين غازية، فاحتلت بعضها، واقتلعت الشعب الفلسطيني من وطنه ودياره، واحلّت مكانه المستعمرين الصهيونيين. بدأ الغزو منذ العام 1880، واستمر حتى قيام اسرائيل، حين خلفت الدولة المنظمات الصهيونية في عمليات الإرهاب. وكانت حرب 1948 أكبر فرصة اغتنمتها اسرائيل لتواصل أَسْرَلَة فلسطين واقتلاع الفلسطينيين من ديارهم. تحدثت مصادر دولية كثيرة عن خطط الارهاب الصهيوني. ونكتفي، من قبيل المثل، الاشارة إلى كتاب "العلاقات الخارجية للحكومة الاميركية". ففي المجلدين الرابع والثامن ما يثبت ان الحكومة الاميركية كانت على علم، منذ العام 1943، بأن الوكالة اليهودية والهاغاناه خططت لطرد الأكثرية العربية من فلسطين، واقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه، قتلاً وإبادة وطرداً وتهجيراً. وحينما نستذكر المنظمات الصهيونية التي باشرت عملية اقتلاع الشعب الفلسطيني قبل قيام الدولة، فنتذكر في مقدمتهم الهاغاناة، والبالماخ، بيتار، والإرغون، وشيترن، التي شكلت، بمجموعها، جيش الدفاع الاسرائيلي، إثر قيام الدولة. تعرض الشعب الفلسطيني في حرب 1948 لعملية طرد ونفي وإبادة. وخرج قسم منه مهاجراً الى القسم غير المحتل من فلسطين، وإلى الدول العربية، ومنذ ذلك الحين حمل هذا القسم من الشعب الفلسطيني اسم "اللاجئين الفلسطينيين". وعاجلت الأممالمتحدة شؤونهم، فأصدرت القرار رقم 194 في 11/12/1948 الذي ضمن لهم حق العودة، والتعويض على من لا يرغب في العودة. واستمرت الجمعية العامة للأمم المتحدة تكرر حق العودة هذا وتؤكده في كل عام حتى اليوم. وهكذا اخرجت المنظمات الصهيونية، ومن بعدها الجيش الاسرائيلي، 750 ألف فلسطيني من وطنهم وديارهم. وحتى يبلغ الصهيونيون والاسرائيليون هذه النتيجة، توسلوا بالارهاب، وبخاصة المذابح. ونكتفي، من قبيل المثل، الإشارة إلى بعض تلك المذابح: 1- مذبحة قريتي بلد الشيخ وحوّاسة 1/1/1948. وهما قريتان واقعتان جنوب شرقي حيفا. هاجمتهما قوة مؤلفة من حوالي 200 مسلح، وقتلوا جميع سكان القريتين. 2- مذبحة دير ياسين 9/10/1948. وهي قرية قريبة من القدس. وعدد سكانها أكثر من 600 نسمة. هاجمتها قوات مشتركة من الارغون وشيترن، قوامها 300 مقاتل، ترافقهم مدرعات. وأعملوا السلاح قتلاً وتدميراً. و كانوا يحتلون القرية بيتاً بيتاً، ويقتلون الفلسطينيين فرداً فرداً، وأسرة أسرة. ثم جاءت قوة من الهاغاناه، وحفرت قبراً جماعياً دفنت فيه 250 جثة عربية. 3- مذبحة ناصر الدين 13/4/1948. وهي قرية قرب طبرية. دخل عليها الصهيونيون وهم يرتدون اللباس العربي. وحينما استقبلهم أهل القرية، قتلوهم جميعهم. 4- مذبحة بيت داراس 21/5/1948. وهي قرية كبيرة شرقي غزة. هاجمها الصهيونيون بالمصفحات من جهاتها الاربع، وأبادوا سكانها. وصف بيغال آلون، القائد العسكري لمنظمة البالماخ، الوسائل التي تبناها الصهيونيون لتحقيق اهدافهم بالعمليات الارهابية. فكتب يوم 10/5/1948: "رأينا أن هناك حاجة لتطهير الجليل من السكان العرب، لنقيم منطقة إقليمية يهودية في كل أنحاء الجليل الأعلى، وأمامها تكمن واجبات كبيرة هي .. إجبار عشرات الآلاف من العرب العتيدين الذين بقوا في الجليل على الهرب ... لقد حاولنا استخدام تكتيك اعتمد على الأثر الذي خلّفه سقوط صفد وهزيمة العرب في المنطقة التي تم تطهيرها، وأدى هذا التكتيك عمله بشكل معجز". وما أن بدأت الحرب، حتى أخذ الجيش الاسرائيلي يُجْلي، بقوة السلاح، السكان العرب عن ديارهم. وبعد أن احتل الجيش، في نهاية الحرب 4،77 في المئة من أرض فلسطين، لم يكن بقي في الأرض المحتلة سوى 156 ألف نسمة آنذاك. وقالت بعثة المسح الاقتصادي التابعة للأمم المتحدة في تقرير نشرته المنظمة الدولية في كانون الاول ديسمبر 1949: "إن نحو 000،726 فلسطيني، وهم الذين طُردوا عنوة من ديارهم أثناء حرب 1948، قد أصبحوا لاجئين، لأن إسرائيل سّدت عليهم سُبل العودة الى ديارهم". كان تدمير القوات الصهيونية، ثم الجيش الاسرائيلي، القرى العربية أحد العوامل المهمة في انتزاع الشعب الفلسطيني من أرضه، فقد أرادت إسرائيل، بسياسة التدمير هذه، أن تؤكّد للفلسطينيين ان علاقتهم بوطنهم انتهت، وان فلسطين لم تعد وطناً لهم، وأنهم لن يعودوا الى ديارهم أبداً. ويقول الكاتب الاسرائيلي اسرائيل شاحاك: "إن الحقيقة حول القرى العربية التي كانت موجودة قبل العام 1948، ضمن نطاق الأراضي المقامة عليها دولة إسرائيل تعدّ من أشدّ الأسرار صوناً في الحياة الاسرائيلية، فلا توجد نشرة أو كتاب أو كرّاس يتحدث عن عددها أو مواقعها. وهذا أمر مقصود، وذلك من أجل ان تكون الاسطورة الرسمية المقبولة المتحدثة عن بلاد فارغة قابلة للتعليم في المدارس الاسرائيلية، ولروايتها للزوار والسياح". ويعرض الدكتور شاحاك قائمة باسماء 385 قرية عربية قامت اسرائيل بهدمها وإزالة معالمها من أصل 475 قرية كانت موجودة قبل العام 1948. وهكذا أُرغم ثلاثة أرباع مليون فلسطيني على الفرار، وطُردوا من الأراضي التي احتلها الصهيونيون إما بالترهيب وإما بقوة السلاح تطبيقاً لفكرة "الترحيل" التي أقرتها المنظمة الصهيونية في حزيران يونيو 1938، والهادفة إلى تحقيق تخفيض جذري في عدد العرب في الدولة اليهودية المنشودة. وبرز، يومذاك، إجماع يساند حرمان العرب من جنسية الدولة اليهودية، وطردهم الى الدول العربية لكي ينالوا جنسيتها. ونادى ديفيد بن غوريون بأن الفلسطينيين في الدولة اليهودية لن يكونوا مخلصين لها، "ويمكن طردهم. فإذا منحوا جنسية الدولة اليهودية، فلا يعود من الممكن سوى زجهم في السجن. ومن الأفضل أن يُطردوا لا أن يُحبسوا". وكان قرار التقسيم يعني أن الدولة اليهودية ستضمّ أقلية عربية كبيرة، يصل حجمها الى 42 في المئة من سكان الدولة، الأمر الذي كانت الصهيونية ترى فيه مشكلة عظمى 520 ألف يهودي " 350 ألف فلسطيني. وحتى لا تواجه الدولة المنشودة هذه المشكلة، أخذت المنظمات الصهيونية الهاغاناه، الإرغون، شيترن تنفذ خطة الترحيل. فشنّت ضربات هجومية منسّقة ضد المدنيين العرب، وبخاصة في حيفا والقدس ويافا، وفي مختلف الأرياف. ونفّذت سلسلة من الغارات الليلية، وعمليات التفجير، وتدمير القرى والمنازل، ونسف الأحياء، والقتل، والإبادة، والمجازر، وكل ما يؤدي إلى ترويع الفلسطينيين وإجبارهم على الرحيل. إضافة إلى هذه الهجمات المتواصلة على السكان العرب. اقترح بن غوريون وسائل عدة تهدف إلى تهجير العرب تهجيراً جماعياً شاملاً. واستخدم بن غوريون وقادته العسكريون تلك الوسائل. ورأى آلون استخدام تكتيك الحرب الاقتصادية: "إن العقاب الجماعي فقط هو الأمر الممكن. إن الدعوة إلى السلام قد تُفسر بأنها علامة ضعف. ينبغي لنا أن نوجه الضربات الى اقتصادهم". وكانت الحملة العسكرية التي شنتها المنظمات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني وُضعت بصورة مفصّلة، من قبل الهاغاناه في "الخطة- دال"، التي قضت بنسف وحرق وتدمير القرى العربية الفلسطينية "وطرد السكان العرب المحليين الى خارج الحدود". واحتوت الخطة، أيضاً، نصوصاً تفصيلية للاستيلاء على المدن العربية، وطرد السكان العرب منها، والاستيلاء على القرى الواقعة على جانبي طرق المواصلات. إن أشهراً عدة من الغارات والهجمات والقنابل والتدمير والقتل والمذابح نجحت، كلها، في إخراج قسم كبير من الفلسطينيين من وطنهم وديارهم. وهو ما كان يعني في الواقع، تنفيذ التعليمات الخاصة بالترحيل في "الخطة - دال". وبموجب التقديرات التحليلية الصادرة من قسم الاستخبارات في الجيش الاسرائيلي، عقب تنفيذ أهداف الخطة "ثمة 55 في المئة من إجمالي الهجرة سبّبتها عملياتنا أي الهاغاناه ثم الجيش وبتأثير منها". وكانت هجمات الإرغون وشيترن مسؤولة عن "15 في المئة من الهجرة"، أما الحرب النفسية فكانت مسؤولة عن "14 في المئة من الهجرة". وإذا كانت مذبحة دير ياسين، التي أشرنا إليها، نقطة تحول في عملية الترحيل، وأحد العوامل الأكثر حسماً في اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه، فهناك مذابح أخرى، لا تقلّ عن مذبحة دير ياسين وحشية. وكشفت الوثائق الاسرائيلية، أخيراً، النقاب عن مذبحة قرية الدَوايْمة، جنوب شرقي الخليل، يوم 29 - 30/10/1948 حين قاد موشى دايان الكتيبة 89 من الجيش، ودخل القرية، وذبح 96 عربياً. وقتل الاطفال بتكسير رؤوسهم. ولم تكن هذه المذبحة سوى واحدة من كثيرة ارتكبها الجيش الاسرائيلي، وسلفه المنظمات الصهيونية، في الأشهر التي تلت مذبحة دير ياسين. ففي قرية عيلبون في الجليل، ذبح 12 شابا في 30/10/1948. وفي قرية صفصف، في الجليل أيضاً، ربط 52 رجلاً بالحبال، وأُلقي بهم في البئر. وفي اللدّ، قُتل بالرصاص عشرات من غير المسلحين في مسجد وكنيسة البلدة في 11 - 12/7/1948. وقدّر مصدر اسرائيلي عدد القتلى بپ250 قتيلاً، اضافة الى الجرحى. وشهدت اللدّ مذبحة أخرى، يوم قُتل 350 من أبنائها، في اثناء طرد سكان المدينة وإرغامهم على مغادرتها سيراً على الأقدام. وفي صفد ذبحت الهاغاناه 70 شاباً عربياً. وكل هذه المذابح موثقة ومعروفة. أما المذابح غير الموثقة، أو الصغيرة، والحوادث المتفرقة فكثيرة ومتنوعة. قدّر الصهيونيون أن إرهاب الفلسطينيين واخراجهم بالقوة من وطنهم وديارهم سينسيانهم الأمل بالعودة الى ديارهم، أو أنهم سيتنازلون عن حقوقهم بذوبانهم في البلاد العربية المجاورة. ولما أظهر الفلسطينيون كل تمسك بوطنهم وحقوقهم، لجأ الصهيونيون الى تضليل الرأي العام، فافتروا على العرب الكذب، وقالوا إنهم أمروهم بالخروج حتى يُخلوا الميدان للحرب بين الجيوش العربية واسرائيل، وزعموا ان الفلسطينيين لم يُخرجوا ولم يُكرهوا على الخروج ولم يكن اخراجهم من ضمن خطتهم. ونسبوا الى المبالغات في البلاغات العربية السبب في تخويف الفلسطينيين. وأول ما يلاحظ على هذا الزعم أنه لم يصدر في وقت الأحداث، بل بعدها بزمن طويل، إذ لم يذكره المسؤولون الاسرائيليون، لا تصريحاً ولا تلميحاً، عندما كان الوسيط الدولي الكونت برنادوت في خريف 1948 يحثّهم على وجوب السماح للعرب، الذين أخرجوا من بيوتهم بسبب الحرب، بالرجوع إلى ديارهم. والملاحظة الثانية هي أن الدعاية الاسرائيلية لم تسمّ مسؤولاً عربياً واحداً أصدر الأمر المزعوم، ولم تذكر في أي تاريخ كان صدوره، ولا من أي محطة إذاعية في فلسطين أو خارجها أُذيع، ولا في أي صحيفة نُشر. والملاحظة الثالثة هي أن أمراً كهذا لا يمكن أن يصدر من دون أن تعلم به الصحف العبرية والصحف العالمية، ومحطات الاذاعة المحلية والخارجية. فلا ذكر للأمر المزعوم في تلك الصحف والاذاعات، في حين أن الصحف والاذاعة العبرية ذكرت نداءات للزعماء العرب بالصمود لا بالخروج. وحدث أن اهتم بالموضوع صحافي إيرلندي، هو إرسكين شلدرز، فراجع هذا سجلات هيئة الاذاعة البريطانية، ووكالة الانباء المركزية الاميركية الخاصة، بكل ما أذيع منهما باللغات العربية والانكليزية والعبرية، من فلسطين والبلاد المجاورة، في العامين 1947 و1948. وكانت النتيجة برهاناً آخر على اختلاق الأمر المزعوم. كُشف عن هذه الحقيقة مرة أخرى في العام 1987، حينما ثبت أن خروج القسم الأكبر من الفلسطينيين من المناطق التي احتلتها الهاغاناه، ثم الجيش الاسرائيلي، في حرب 1948، كانت نتيجة مباشرة للعمليات الارهابية التي نفذتها المنظمات الصهيونية والجيش، وليس نتيجة رغبات ونداءات الهيئة العربية العليا لفلسطين والحكومات العربية المجاورة، وهي الدعوى التي تشبثت بها اسرائيل وأجهزة الإعلام الصهيونية لتفسير ظاهرة الهجرة الجماعية الفلسطينية من مناطق الاحتلال. وكشف عن هذه الحقيقة الكاتب الاسرائيلي بني موريس في كتاب عنوانه: "جذور مشكلة اللاجئين الفلسطينيين "The Origins "of the Polestinion Rrfugees Problem من مطبوعات جامعة كامبردج - 1987. ونشر موريس في كتابه وثيقة من وثائق الجيش الاسرائيلي، مؤرخة في 30/6/1948، وتغطي المدة من 29/11/1947 الى 1/6/1948. وجاء فيها أنه، خلال المدة المذكورة، غادر فلسطين 239 ألف عربي من المناطق المخصصة للدولة اليهودية، و152 ألف عربي من المناطق التي احتلها الجيش من أراضي الدولة الفلسطينية. وأثبت موريس، بالوثائق والوقائع، أن "الهجرة العربية" كانت على عكس رغبات القيادات الفلسطينية وحكومات الدول العربية المجاورة، وأن هذه الحكومات كافحت "الهجرة بالتهديد والترغيب وفرض العقوبات". بدأت عملية ترحيل الشعب الفلسطيني، بقوة السلاح والارهاب، منذ أن وطئت أقدام الصهيونيين أرض فلسطين، وبلغت إحدى ذراها في حرب 1948، وتواصلت خطط الترحيل حتى يومنا هذا. وعلى مدار خمسين عاماً من الاحتلال والارهاب، نزعت اسرائيل مليونين من الفلسطينيين، من وطنهم وديارهم، وأصبحوا اليوم، في المنافي، خمسة ملايين و400 ألف لاجئ فلسطيني.