قبل 67 عاماً كان الطفل نبيل شعث طالباً في مدرسة «تابيته» في شارع اسكندر عوض في مدينة يافا، وفي ليلة وضحاها تحوّل مثل غيره من مئات آلاف الفلسطينيين، إلى لاجئ في المخيمات والمنافي. «الحياة» زارت مع شعث مدرسته، ثم بيته ومدينته التي خرج منها قبل 67 عاماً في ما عرف ب»النكبة» الفلسطينية التي تمثلت باحتلال فلسطين وإقامة دولة إسرائيل على أنقاضها وطرد حوالى 800 ألف من سكانها البالغ عددهم 1.4 مليون، وهدم 530 قرية وتجمعاً سكنياً فيها. استعاد شعث طفولته التي تركها هناك في ساحات المدرسة والبيت، وفي الطرق وعلى شاطئ البحر. بدا شعث مثل طفل صغير وهو يستعيد يافا القديمة، يافا الفلسطينية، قبل أن تسقط في الحرب، وتتحول إلى «يافو» الإسرائيلية: «هنا، في هذه الساحة، كنا نلعب. وهناك، في تلك الزاوية، كانت غرفة صفي. هذا الشارع باق كما هو، لم تتغير المباني بل جرى ترميمها، لكنها هي المباني القديمة ذاتها. برج الساعة باقي كما تركناه قبل 67 عاماً، لم يتغير». سمحت إدارة المدرسة، وهي مدرسة أقامتها الكنيسة الاسكتلندية في يافا عام 1863، لشعث بالدخول إليها، لكنها اشترطت أن يكون بمفرده... وهناك استعاد ذكريات طفولته في الصفوف والزوايا والساحات. استعاد شعث الأشكال والأصوات والروائح التي تركها خلفه في يافا: حناطير تجرها الخيول، وحافلات صغيرة تسمى «دلجنس» تتسع الواحدة منها لعشرة ركاب ويجرها بغلان، تعبر الشوارع... وروائح زهر البرتقال والياسمين، وأصوات الباعة، وأصوات تظاهرات ضد الاستعمار الإنكليزي والاستيطان اليهودي. يقول شعث انه تذكر يافا بقوة عندما ذهب إلى قبرص شاباً حيث رائحة الياسمين تملأ الحدائق والطرق: «رائحة الياسمين وزهر البرتقال هي أكثر ما يميز يافا» قال شعث. ومن مدرسته، سار شعث على قدميه في الطريق ذاتها التي كان يسلكها كل يوم إلى بيته في حي هادئ عابراً شارع النزهة. وقال: «كانت أمي توصلني إلى المدرسة صباحاً، وتعود ظهراً إلى اصطحابي إلى البيت، وذات يوم نسيت القدوم، وبقيت منتظراً أمام المدرسة لساعات حتى صدفني أحد معارف أبي وسار بي إليه. وفي ذلك اليوم، قال لي والدي إن علي أن أذهب إلى المدرسة وأن أعود منها بنفسي من دون مرافقة أمي، وهو ما حدث». في شارع النزهة الذي تطلق عليه إسرائيل شارع «يروشلايم»، أخذ شعث بالبحث عن مبانٍ ما زالت تحتل ذاكرته، قال: «سآخذكم إلى سينما الحمرا، هذه السينما كانت مسرحاً للعروض الغنائية للفنانين العرب الكبار. فيها غنت أم كلثوم، وفيها قدم نجوم المسرح المصري مسرحياتهم، يوسف وهبي وغيره». وما زالت بناية سينما الحمرا تحمل الاسم ذاته، لكنها تحولت إلى سوق تجاري. توقفت سيدة يهودية لفت نظرها تأمل المباني القديمة قائلة بالإنكليزية: «هذه الأيام يحتفل الإسرائيليون بالاستقلال، يوم سرقنا بيوت الفلسطينيين بعد أن طردناهم منها». وأضافت: «أنا آلونا كوهين، أسكن هنا»، مشيرة إلى مبنى مجاور. وتابعت: «عائلتي جاءت من يوغسلافيا، عاشت في ديمونا (في صحراء النقب)، وقبل سنوات انتقلت إلى هنا، الحقيقة هي أننا سرقنا بيوت الفلسطينيين، هذه هي القصة الحقيقية». قالت السيدة (52 سنة) التي تعمل في ملجأ للعجزة في تل أبيب: «أعرف أننا سرقنا هذه البيوت، لكني أرفض ذلك، أنا أشارك في التظاهرات ضد الاحتلال الإسرائيلي، أذهب كل يوم جمعة إلى التظاهرات التي يقيمها الفلسطينيون في كفر قدوم وبلعين في الضفة الغربية للتظاهر ضد الجدار وضد الاستيطان». سار شعث في حي المنشية الذي لم يتغير، فالبيوت الصغيرة المحاطة بحدائق هي البيوت نفسها، لم يتغير سوى سكانها، وهو ما تدل عليه الأعلام الإسرائيلية المرفوعة على بعضها احتفالاً بذكرى «استقلال» إسرائيل، وهي الذكرى التي تمثل للفلسطينيين نكبتهم. مرر شعث بمدرسة العامرية التي كان والده يعمل مديراً لها قبل أن تقرر السلطات البريطانية خفض درجته الوظيفية عقاباً له على التظاهرات الاحتجاجية التي كان يقوم بها تلاميذ المدرسة، وهو ما دفعه إلى ترك الوظيفة والانتقال إلى الاسكندرية للعمل في البنك العربي. قال شعث: «ملعب كره القدم كان هنا، وهناك كان مستشفى الدجاني، وهنا كان خزان المياه الرئيس للمدينة، هذه تغيرت». وقف شعث أمام بيته قبل أن يضغط على جرس عند بوابة السور الخارجي، وتذكر: «انه البيت نفسه، لم يتغير سوى أبوابه ونوافذه... تفقد الشجرات: كانت هناك شجرتا جوافة وشجرتا اسكيدنيا، واضح انهم استبدلوها، وكان هنا في الحديث نافورة ماء كنا نسبح بها ولم تعد قائمة». اطل حارس من غرفة صغيرة في محيط البيت، وقال بلغة عربية مكسرة بعد أن عرف أن البيت يعود لعائلة شعث: «هذا مركز لتأهيل مدمني المخدرات، وتم إخلاؤه أخيراً إلى مبنى جديد أقيم في الجوار لأنه لم يعد آمناً، ربما سيجري هدمه، لا أعرف». قال شعث: «لم تغير إسرائيل كثيراً في مدينة يافا، لم تغير سوى الميناء وحي المنشية». كانت يافا العاصمة الحضرية لفلسطين، ففيها الميناء الذي يربط فلسطين بالعالم الخارجي استيراداً وتصديراً، ومنها كانت تصدر الصحف الفلسطينية (فلسطين والدفاع)، وفيها كانت تنشط النقابات والأحزاب، وتقام الحفلات والأنشطة الثقافية على أنواعها. تذكر شعث يافا وقال: «كانت تسمى مدينة الغرباء لكثرة ما كان يقصدها الناس من مناطق فلسطين والعالم العربي للعمل، ففي يافا كان يعيش عشرة آلاف مصري، ومن يافا تعود جذور العائلات التي تحمل اسم مصري في فلسطين، اذ كان المصريون يأتون إليها للعمل». وفي أيار (مايو) عام 1948، تعرضت يافا إلى قصف شديد بالهاون من المنظمات اليهودية المسلحة، ما دفع الآلاف من أهلها إلى الهجرة. وقال شعث: «جاءت سفينه كبيرة حملت معها أعداداً كبيرة من أهل يافا إلى بيروت، تبعهم الكثيرون في سفن وقوارب حملتهم إلى غزةوالاسكندرية». زار شعث مدينة يافا للمرة الأولى بعد النكبة عام 1994 عندما عاد إلى البلاد مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية، وقال: «كنت حينها رئيساً للوفد المفاوض، وكان لدي اجتماع مع الوفد الإسرائيلي في تل أبيب، وطلبت الذهاب إلى يافا وزيارة بيتي، وفعلاً وصلت إلى البيت، لكن وجود سيارات الشرطة التي رافقتني أثار ضجة في المكان، وغادرته على وجه السرعة». وأكثر ما يقلق شعث اليوم هو مساعي رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو لما اسماه «سرقة» تاريخ فلسطين بعد سرقة حاضرها. وقال: «يريدون سرقة فلسطين اليوم وفلسطين الأمس، يريدون سرقة ارثنا عبر ما يسمونه الدولة اليهودية».