ات موضوع "العولمة" موضوعاً انشائيا بامتياز. نجده على ألسنة كل الناس، في الشمال والجنوب، والشرق والغرب. يناقشه المختصون في الاقتصاد والمالية والتقنية، ويلوكه السياسيون، ويردده الأساتذة والمعلمون... الخ. موضوع مستهلك لدرجة يتساءل فيها المرء عن مدى حجم الاستهلاك الذي يتعرض له قياساً بعناصر الانتاج الدلالية التي يتضمنها. تبادل لا متكافئ بين التضخم الخطابي حول العولمة، وبي الوقائع والاطر المولدة لها. داخل هذا الكرنفال الانشائي - والكلامي - نجد المتحمسين لها، والمدافعين عنها، والمعارضين المنددين بالمآسي المتنوعة التي تخلقها. كما نجد المترددين والمتفرجين الذين لم يصدقوا بعد بأن العالم اصبح "معولما"، وبان العولمة تنزع نحو السيطرة على العالم. هناك من يعتبرها "فخا" او "هوسا" او "حمى" او "خطراً"، او "موجة" او "ثورة"... الخ. وفي كل الاحوال، حتى ولو لم تكتسب هذه الظاهرة طابعاً دولياً معمما، فإن الكلام المتضخم عنها، وايمان البعض - الفعلي او الوهمي - بها تجعل الانسان يحسب لها الحساب الملائم. يتعين التأكيد على حقيقة اولى وجوهرية، لا احد ينازع فيها، وان كان البعض يغفل وجودها، او يجانب الصواب في الحكم عليها. تتمثل هذه الحقيقة في كون العولمة تشكل مرحلة جديدة في تطور الرأسمالية. فنمط الانتاج الرأسمالي، منذ بداياته الاولى الى الآن، تمكن من الاستمرار والتوسع بفضل قدرته على انتاج نمط مغاير للتراكم كلما تعرض نمط التراكم القديم لازمة او لاختلال. ولان الرأسمال يتوزع الى رأسمال زراعي، ورأسمال تجاري، ورأسمال صناعي، ورأسمال مالي، فان نمط الانتاج الرأسمالي يغير نمط تراكمه كلما تأزم النمط القديم من جهة، وكلما اصبحت للزراعة، او التجارة، او الصناعة، او المال الدور الحاسم في حركية الرأسمالية. تشير كل الدلائل الى ان ظاهرة العولمة تساوقت مع تطور وازدهار وتوسع الرأسمال المالي، الى ان اصبح يتجلى في المظاهر الثلاثة التالية: اولا، حرية تنقل الرساميل: ثانيا، حرية الاستثمارات لدرجة انقلبت فيها المقاييس، وبات الحديث يدور حول حقوق المستثمرين اكثر من الاشارة الى واجبات الدول، ثالثا، التبادل الحر. لم تكن هذه المظاهر لتتبلور لولا الانتصار التام للرأسمالية على ما يخالفها من انظمة حاولت تجريب انماط مغايرة في الانتاج والتوزيع والاستهلاك. ويرى الباحثون ان هذا الانتصار يمثل، لربما، اكبر انجاز تاريخي في هذا القرن، اذ تحقق على ثلاث جبهات: الاولى حين دخلت مارغريت تاتشر، ورونالد ريغان في حرب ضد تدخل الدولة في العملية الاقتصادية، حيث عملا على تخفيض نسبة الضرائب على مالكي وسائل التمويل لانجاز تنمية، في نظرهما، يستفيد منها الجميع، الثانية ربحتها الرأسمالية ضد الشيوعية باعتبارها تناقضا هدد اختياراتها الكبرى طيلة القرن العشرين واما الجبهة الثالثة فتمثلت في انتصار التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدة الاميركية على العراق وتدميره وتحجيم قدراته، بدعوى محاصرة الانظمة الديكتاتورية، ومنعها من تحقيق تنمية لا يتحكم فيها المركز الرأسمالي. للوصول الى هذا المستوى من صنع تاريخه الخاص كان على النظام الرأسمالي ان يغير، جذريا، مفهوم الزمان والمكان، وان يعيد النظر، في طبيعة علاقاته مع الدولة. وفي هذا السياق يرى ميشال البير ان هناك ثلاثة عهود رئيسية عرفتها الرأسمالية فيما بين 1791و 1991، يبتدئ العهد الاول من سنة 1791 حيث كانت "الرأسمالية ضد الدولة"، ويؤرخ لها قانون لوشابولييي الشهير، الداعي الى الغاء التعاونيات ومنع النقابات، وتأسيس قواعد حرية التجارة والصناعة. اما العهد الثاني للرأسمالية فينطلق ابتداءا من 1891 حين اصبحت "الرأسمالية مؤطرة من طرف الدولة"، وتركزت كل الاصلاحات في اتجاه تصحيح تجاوزات السوق، التخفيف من عنف الاستغلال الرأسمالي، لدرجة باتت فيها الدولة تشكل عائقا امام تعسفات وتعديات السوق الحرة، وتحت تأثير النضالات العمالية، والاتفاقيات الجماعية، عملت الدولة على "انسنة" الجموح الرأسمالي. امتدت هذه المرحلة الى حدود 1991، حيث دخلت الرأسمالية في طور ثالث، انقلبت فيه الاولويات، وتحولت الدولة، في اعين الليبراليين الجدد، الى عنصر تشويش على حركة الرأسمال. ففي الوقت الذي تحاول فيه الدولة تنظيم السوق تعرقل الياته وتشل حركته. هكذا دخل العالم في عهد ثالث جديد، وهو العهد الذي يمتد بصيغته الجديدة الموسومة ب"العولمة"، حيث "حلت الرأسمالية محل الدولة"، على اعتبار ان السوق جيد ودور الدولة معرقل، وعليها ان تنسحب الى الاهتمام بمجالاتها الخصوصية، وان تساعد الرأسمال على خلق ظروف نمو افضل. وهكذا ففي الوقت الذي كانت فيه التغطية الاجتماعية دليلاً على تقدم المجتمع، اصبحت، في عرف الليبراليين الجدد، تشجيعاً على الكسل، ويتعين، بالتالي الغاؤها او انسحاب الدولة من الصرف عليها، كما انه في الوقت الذي كانت تعتبر وسيلة للتوفيق بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، اصبح النظام الجبائي متهماً بتعطيل المبادرة الحر، وعرقلة حركة الاستثمارات. على الرغم من الميل الجارف للنزعة النيو - ليبيرالية المرافقة لحركة العولمة، فإن هناك اختلافات وتمايزات داخل الرأسمالية ذاتها، لهذا السبب عنون ميشال البير كتابه ب"الرأسمالية ضد الرأسمالية"، وتتجلى هذه الاختلافات في الاجوبة العملية التي يقدمها كل بلد رأسمالي عن قضايا جوهرية ومحددة، مثل الهجرة، التي ستمثل اكبر موضوع، بالنسبة لبعض الباحثين، في المناقشات السياسية لبداية القرن المقبل. للبلدان الاوروبية سياسات متباينة لمعالجة موضوع الهجرة، وللولايات المتحدة اختيار مميز في تنظيم شؤونها، ومن المؤكد ان لرأسماليي هذه البلدان دور حسام في رسم هذه الاختيارات. اما موضوع الفقر فالتباين صارخ بين المقاربة الاميركية واليابانية، وبين الاساليب التي تنهجها البلدان الاوروبية لمعالجته. فالانسان العاطل، عند الاولين، كائن كسول يصعب ترويضه، ويفتقد الشجاعة الضرورية للتكيف مع مقتضيات سوق العمل، اما الاوروبيون، بصفة متفاوتة، فيرون في العاطل ضحية اكثر مما هو مذنبا، اذ تلتقي في حالته اعتبارات الجهل واللامبالاة، واليأس الشخصي والعجز الاجتماعي. ولذلك يصعب تركه يواجه مصيره دون ان تسهم الدولة في التخفيف عن معاناته. اختلافات وتمايزات عديدة اخرى تفرق مناهج الرأسماليين في زمن العولمة، في مجالات التغطية او الضمان الاجتماعي، وسلم الاجور، النظام الجبائي، المرفق العمومي، دور الابناك والبورصات، طرق تنظيم المقاولات، ووظيفتها في التربية والتكوين المهني، والتأمينات.. الخ، وفي كل الاحوال يدعو الليبراليون الجدد في العهد الثالث للرأسمالية عموماً الى الحد من تدخل الدولة قصد انجاز نمو من نمط جديد. وعلى رغم الفوارق الثقافية، التاريخية بين الانظمة والبلدان والجهات، فإن العولمة تسعى الى التقليص منها ان لم نقل الى محوها. هكذا اصبح الاشتراكي الديموقراطي الاوروبي يلتقي بالليبرالي الاميركي، والعمالي البريطاني، كما يتحالف الجمهوري الاميركي، والمحافظ البريطاني مع الليبرالي الفرنسي، حين يتعلق الامر بالاعبتارات الاستراتيجية الكبرى التي تهم مصالح الرأسمال العالمي. تبرز مقاومات، هنا وهناك، من قبيل "الاستثناء الفرنسي"، او "الخصوصية الاوروبية"، او الاختلافات العقدية والثقافية والاثنية لهذه الجهة من العالم او تلك، والحالة الصينية لها اكثر من دلالة في هذا السياق، لكن المنطق الاميركي، ينزع الى قيادة العالم في اتجاه تبني الاختيارات التي جعلت من الولاياتالمتحدة الاميركية قائدة العالم، دون ان تسمح لقوى تتطلع الى الصعود او التكتل لمنافستها او مزاحمتها في املاء تعليماتها وتوجيهاتها. اذا كان العهد الثالث للرأسمالية نشأ جراء الاختراقات التي انجزتها التاتشرية والريغانية، وبعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، والانتصار في تدمير وتحجيم العراق، فإن هذا العهد الذي اقترن بظاهرة العولمة، هو عهد اميركي بامتياز، وعلى جيمع الصعد والمستويات. فكما كان شعار "النظام العالمي الجديد" الذي رفعه جورج بوش بعد حرب الخليج الثانية تعبيرا عن ارادة اميركية، فإن العولمة تمثل الترجمة الفعلية للغلبة الاميركية المتنامية، اقتصاديا، بالتحكم في النظام النقدي العالمي، وفي منظمة التجارة العالمية، عسكريا، بقيادة الحلف الاطلسي وفرضه بوصفه المرجعية الدولية الوحيدة لحل النزاعات. وتجاوز كل المؤسسات الدولية، والحرب في كوسوفو تثبت، مرة اخرى بعد ما جرى ويجري للعراق، ان اميركا مصرة على شل عمل المنظمات الاممية المعنية بالامن والسلام، وعلى تثبيت قيادتها الاستراتيجية للعالم: ثقافيا، بالسيطرة على السوق الدولية للاتصالات، والانتاج السمعي البصري، والصحافة... الخ. وهكذا فإن كل الكلام الرائج عن الديموقراطية، وحقوق الانسان، ودور الدولة، واقتصاد السوق، والسيادة... الخ المرافق للعولمة مرهون - اي الكلام - بالمعطيات الاستراتيجية التي تعمل الولاياتالمتحدة الاميركية على ترتيبها وتثبيتها، بكل الوسائل والطرق، ل"عولمة" نماذجها واختياراتها. فبالاضافة الى المظاهر المتمثلة في حرية تنقل الرساميل، والاستثمارات،والتبادل الحر، كما تتحرك، بنشاط، لتعميمها منظمات البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، والشركات العملاقة... الخ، هناك نزوع اميركي جارف لبسط "استعمار" ثقافي وتكنولوجي. ولا يبدو في الافق ان الليبيراليين الجدد يفكرون في شيء اخر غير تعميم قيمهم الجديدة وفرضها على الاخرين، بالضغط وبالعنف والمساومة، حسب الحالات، مما حدا بالبعض الى القول باننا نشهد على "عودة البربرية". فكلما اختار بلد ما النهج الليبيرالي، سيما في شكله الجديد، كلما ازدادت الفوارق بين فئاته وطبقاته، وتصاعدت نسبة العنف والجرمية يوجد في سجون اميركا مليون وثمانمائة ألف سجين، والبطالة انهيار اقتصاديات بلدان شرق آسيا، وخصوصاً اندونسيا، نجم عنه ضياع 27 مليون فرصة عمل، وباتت العلاقة السببية بين تنامي الثروة واتساع دائرة الفقر حقيقة صادمة لكل المجتمعات، سواء تلك التي تقود حركة العولمة، او تلك التي وجدت نفسها مجرورة الى استبداد رأسمالي جديد لا تملك امامه خيارات اخرى. واذا كان الاستعمار القديم قد مارس ابشع انواع الاستغلال والاهانة والاحتقار لبلدان الجنوب، باسم تفوق الانسان الابيض، فإن "العولمة" بشروطها القاسية وضغوطها الصارمة، بدأت تفجر، امام اعين العالم، اكثر من مجتمع، وتهدد توازن واستقرار اكثر من دولة، حيث حشرت فئاتها في دوامة من العنف والاقتتال والجريمة، والابادة، والوضى. لاشك ان ما تشهده بلدان مثل اندونيسيا وروسيا والبرازيل... الخ يصعب الحكم على التطورات الحاصلة فيها بشكل تبسيطي، لكن ارتهان هذه البلدان لوصاية البنك الدولي، ومنظمات العولمة الداعمة له، لعب الدور الابرز في الانهيارات المتعددة الاشكال التي تعرفها هذه البلدان، والتي يتوقع ان تشهدها بلدان اخرى مرشحة لهذا المصير. هذا ما يدفع بالبعض الى اعتبار سياسة التبادل الحر سياسة انتحارية، وبان العولمة بدأت تبرهن على فشلها في اكثر من قارة، بل وتحرص على التمييز بين الجهات النافعة وغير النافعة، اذ تقرر الولاياتالمتحدة والحلف الاطلسي الدخول في حرب من اجل كوسوفو - او من اجل اهداف اخرى ولاشك - الموجود في اوربا، ولكنها تترك القارة الافريقية تواجه قدرها بدون ادنى اهتمام من طرف قادة العولمة. يعتمد اقتصاد السوق من ناحية اخرى، من حيث المبدأ، على شروط للمنافسة والتوازن، ويفترض قواعد، منها ان "التبادل" يتعين ان يحصل ضمن علاقات متبادلة، عادلة، بل ذات ابعاد اجتماعية. وقد تأكد تاريخيا ان المجتمعات لا تبلغ مستويات اقتصادية متقدمة الا اذا كان التوزيع يراعي انتظارات مختلف الفئات الاجتماعية. واغفال هذه الحقائق هو الذي ادى ببعض "اقتصاديات السوق المزيفة" التي صنعت اعتمادا على سياسة خوصصة متسرعة، ومصطنعة، الى الانهيار. فالاندماج الاجتماعي هو مقياس التنمية، وهذا ما لا يهتم به مثقفو العولمة، الى ان اضطر رواد منتجع دافوس في كانون الثاني يناير 1999، متأخرين، وعلى لسان رئيس المنتدى "كلاوس شواب" الى ضرورة الاعتراف بأن تجاهل الفئات الواسعة للسكان، في سياق الرأسمالية المعولمة، سيهدد، لامحالة، الاساس الاجتماعي الذي تقوم عليه الديموقراطية. غير ان مفارقة كبرى تفرض ذاتها على كل مهتم بهذا الذي يجري امامنا، وتتجلى في كون العولمة، في العمق، هي تعبير عن عهد جديد للرأسمالية، من يدينها او يحتج على ما تولده من مآسي واختلالات لا يملك ما يلزم من مقومات اقتراح بدائل مغايرة. فالرأسمالية لم تقم او تتطور قصد اسعاد الانسانية جمعاء لان روحها تتمثل في الربح والمردودية. كما ان تاريخها، المليء بالاهتزازات والازمات وبالحلول لتجاوزها، تميز بكونه ينتج فئات رابحة وفئات واسعة خاسرة. وقد اثبتت احداث السنة الماضية ان خطر الانهيار قد يصيب الجميع، سواء الدول التي نفذت توصيات "قادة"العولمة، او تلك التي ما زالت تقاوم شروطها. تمثل العولمة، مع كل التحوطات الممكنة، واقعاً عنيدا، لا يحمل معه، على مايبدو، بشائر و مؤشرات جيدة، مثلما ان مواقف الممانعة والتبرم لا تقترح، الى حد الآن، مواقف مضادة محددة للرأسمالية المعولمة. وازاء الاختلالات الكارثية التي اصبحت تنتجها سياسات العولمة، وللضغوطات الكبرى التي تمارسها على اختيارات الدول، يبقى لأصحاب القرار في البلدان الصغيرة والمتوسطة امكانية التشبث بضرورة خلق اقتصاد تضامني، وتشكيل تحالفات اجتماعية وسياسية في الداخل للاحتماء من الاضرار الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تصاحب العولمة. وليس بالامكان انجاز ذلك دون اعادة تحديد الادوار الجديدة للدولة. * كاتب مغربي.