في ما بين أواخر كانون الثاني يناير وأوائل شباط فبراير من هذه السنة تابعنا اجتماعين بالغي الأهمية. اجتماع في دافوس في سويسرا، والآخر في مونتيغو باي في جامايكا. اجتماعان لم تفصل بينهما فقط قارات ومحيطات ولكن أهداف ولغات. في الأول لغة المال تتحدث، وفي الثاني لغة السياسة. في الأول جناة وفي الثاني ضحايا. في الأول أشخاص يمثلون شركات عملاقة متعددة الجنسية معظمها تتجاوز ميزانياته دولاً بكاملها، وفي الثاني أشخاص يمثلون حكومات في دول بعضها يقترب سكانه من الألف مليون نسمة. موضوعات عديدة ومختلفة نوقشت في الاجتماعين. فقط موضوع بذاته جمع بين الاجتماعين هو "العولمة". لكنها في الاجتماع الاول عولمة الفاعلين، وفي الثاني عولمة المفعول بهم. بعد اجتماع دافوس خرج أحد المشاركين الجدد، وهو صاحب حيثية ينتمي بذاته الى عالم الجنوب - عالم الدول النامية المفعول بها - لكي يقرر جازماً: أن "ثورة" العولمة أمر غير قابل للإيقاف لا عودة عنه ولا بديل منه. العولمة صيغة اختارها الكبار في السوق العالمي وعلى الصغار ان يلتزموا قواعدها. واللاعب في قانون العولمة عليه الالتزام بقواعد الديموقراطية والشفافية وفتح كل الحدود أمام حركة التجارة العالمية. أما اللاعب الذي لا يلتزم فسيتم طرده خارج الملعب ولن يسمح له بالمشاركة في اللعبة الا بعد تقديم ما يثبت التزامه بقواعدها من دون قيد ولا شرط. كلام كبير وخطير وموجه أساساً الى دول العالم الثالث في عالم الجنوب. بدءًا من آسيا الى افريقيا الى اميركا اللاتينية. فقط المشكلة هي أن مثل هذه اللهجة الصارمة الجازمة المتأكدة المتوعدة المهددة خرجت متأخرة عن موعدها بضع سنوات على الأقل. وفي اجتماع دافوس هذه السنة خصوصاً، لم تستطع كل ثلوج سويسرا زاهية البياض ان تخفي عن اصحاب المولد انفسهم دماء مئات الملايين من الضحايا الذين سقطوا لتوهم في زلزال الأزمة الطاحنة التي عاشتها دول جنوب شرق آسيا منذ تموز يوليو 1997. دول كانت تسمى حتى ذلك التاريخ "النمور الآسيوية" فوجدت نفسها على حين غرة وقد انسخطت الى قطط، أو حتى فئران مذعورة. في سياق تلك الأزمة كتبتُ هنا في تلك الصفحة أتساءل: كيف يمكن ان نجد شعوباً بكاملها تنام ليلاً وهي آمنة وغنية ومزدهرة ودائنة ومشرقة المستقبل، لكي تستيقظ صباحاً فتجد نفسها عاطلة وفقيرة وجائعة ومدينة ومتسولة؟ في اجتماع دافوس قرأنا التساؤل نفسه على لسان رئيس وزراء كندا الذي قال: إنني لا أفهم حتى الآن ان تكون هناك دولة قوية إقتصاديا في الصباح، وفجأة تنهار في المساء وتصبح على شفا الإفلاس، الأكثر من هذا دفع المواطنون العاديون ثمن الانهيار الذي صنعته قوى عالمية باسم "العولمة". لم يكن ما كتبتُه هنا قبل 18 شهراً ابتكاراً، ولا ما قاله رئيس وزراء كندا اخيراً اختراعاً. فقط هو توارد خواطر في بديهيات تسعى الى التعمق في ما هو تحت السطح والتدبر بقلق وروية في آفاق المستقبل، إن اجتماع دافوس هو لقاء سنوي معتاد ينظمه المنتدى الأقتصادي العالمي، الذي هو أصلا أحد المنتديات المألوفة للشركات متعدية الجنسيات. وإن يكن منتدى دافوس أصبح أبرزها اخيرا لأسباب عدة من بينها علاقته الوثيقة بمجلس العلاقات الخارجية الاميركي في نيويورك. و"العولمة" في حد ذاتها اصطلاح شاع بكثرة خلال السنوات القليلة الأخيرة، وبالذات في اعقاب سقوط الماركسية وتفكك الاتحاد السوفياتي وشيوع فكرة "نهاية التاريخ" التي عبَّرت في حينها عن ذروة احساس اليمين الاميركي المحافظ بنشوة الانتصار وفرصة التمدد بسرعة الى آفاق حجبتها سنوات الحرب الباردة والتناطح عالميا بين نظامين اقتصاديين متنافسين. لقد أصبحت "العولمة" هي كلمة الشفرة التي تدعو الى ثلاثة أشياء محددة: الخصخصة والليبرالية والتحرير المالي. في الخصخصة المقصود هو ان تقوم الدولة ببيع قطاعها العام الى القطاع الخاص "أياً كانت جنسيته". في الليبرالية المقصود هو الأخذ بقوانين السوق الحرة والتعددية السياسية، في التحرير المالي المقصود هو فتح حدود كل دولة على مصراعيها أمام حركة رأس المال دخولاً وخروجاً. لم يكن هناك، أصلاً، جديد في كل هذا، فتلك كانت النقطة التي انطلق منها في البداية النظام الرأسمالي في مرحلة الثورة الصناعية 1750 - 1850 لكن المشكلة هي أن تلك البداية انتجت في الواقع رأسمالية متوحشة سحقت ملايين بعد ملايين من البشر، وصوّرتها بدقة روايات تشارلز ديكنز. من هنا اضطر السياسيون داخل الدول الرأسمالية ذاتها الى فرض الكوابح والقيود. وآخرها ما جرى فرضه في سنوات فرانكلين روزفلت في الولاياتالمتحدة ولودفيغ ايرهارد في المانيا. وفي كل مرة اضطرت الرأسمالية لقبول تلك القيود صاغرة، لأن السياسيين اكتشفوا - بعد كوارث اقتصادية كبرى - انه لا بد من إنقاذ الرأسمالية من نفسها. وفي سبيل هذا الانقاذ لم يتردد السياسيون في استعارة بعض ادوات الاقتصاد الاشتراكي نفسه، لكي يجعلوا بلادهم اكثر مناعة وحصانة ضد الماركسية.. وهي موهبة لم يتعلمها الماركسيون ابداً من الرأسمالية. وفي سياق الحرب الباردة لم تتردد الولاياتالمتحدة، كقائدة للعالم الرأسمالي، في مساندة نماذج اخرى غير النموذج الرأسمالي الاميركي ذاته. نماذج اكثر التزاما بالمسؤولية الاجتماعية واكثر قدرة ايضا على تحسين سمعة الرأسمالية عالمياً. في المسرح الاوربي مثلا كانت المانيا. في المسرح الآسيوي كانت اليابان. وكل منهما قدم نموذجاً رأسمالياً للتنمية تقوم فيه الدولة بدور المايسترو الحقيقي، بل والمقيد بشدة لحركة رأس المال والسلع، وايضا الضامن لفترة كافية من الحماية للاقتصاد الوطني، وحقوقاً معمول بها في الرعاية الاجتماعية والصحية للمواطنين. مع نهاية الحرب الباردة بدأ التغيير في قواعد اللعبة. الآن يعود النموذج الاميركي لتصدر المسرح زائحاً الآخرين - حتى من الحلفاء - جانباً، مقرراً انه من الآن فصاعداً على الجميع الأخذ بالنموذج الاميركي - والنموذج الاميركي كما هو - في النمو الاقتصادي. والاميركيون هم بالسليقة مبشرون يعتقدون أن لديهم تفويضاً من السماء بمعرفة الحقيقة. تلك خلاصة يقررها مفكر اقتصادي اميركي هو ادوارد لوتواك في آخر مؤلفاته الصادر قبل اسابيع بعنوان "الرأسمالية التوربينية: الفائزون والخاسرون في الاقتصاد المعولم". انه - باختصار - يرى ان الاميركيين دائما في حال هوس... سواء كان الهوس هو بفكرة أو فيلم سينمائي وتقليعة ازياء أو غذاء للرشاقة أو حتى تدخين السكائر. قبل مئة سنة كان الناس يدخنون الغليون.. إن لم يكن لسبب فتقليداً للانكليز اصحاب الامبراطورية العالمية المنتصرة في حينها. لكن الاميركيين تحمسوا لنشر تدخين السكائر. انهم لم يدخنوا السجائر هم انفسهم فقط ولكنهم ألحوا بالسكائر على العالم كله من خلال التسويق والدعاية والاعلان والمسابقات وافلام السينما والرشاوى. واخيراً تحول هوس الاميركيين من تدخين السكائر الى تحريمها. لكن الدعوة الى التحريم في هذه المرة مقصورة على المجتمع الاميركي فقط، لأن شركات السكائر الاميركية تريد ان تعوض نقص مبيعاتها في الولاياتالمتحدة بزيادة مبيعاتها في دول العالم الثالث خصوصاً فتستمر الارباح. والهوس الأميركي أخيراً تحول إلى "العولمة" أو فتح الأسواق وتحرير التجارة الدولية وحركة رؤوس الاموال. فكل النخبة المسيطرة في الاقتصاد الاميركي تقول إنها اكتشفت أخيرا أن لديها "الصيغة الوحيدة الرابحة للنجاح الاقتصادي. صيغة تصلح لكل بلد، غنياً او فقيراً ولكل شخص، قوياً أو ضعيفاً، وبالطبع صالحة للنخبة الاميركية ذاتها من ممثلي الشركات الكبرى والصيغة هي ان الخصصة زائد الليبرالية زائد العولمة تساوي رأسمالية توربينية. تساوي الرخاء". والمشكلة - في رأي ادوارد لوتواك - هي ان الاميركيين حينما يصيبهم الهوس بفكرة، حتى لو كان ذلك حدث قبل دقائق فقط، فإنهم على الفور يريدون من العالم كله ان يشاركهم الهوس نفسه في التو واللحظة. وسواء على مستوى وزارة التجارة الاميركية، أو وزارة الخارجية، أو حتى وزارة الدفاع، وسواء من خلال البيت الابيض أو صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، وسواء بدأ الحديث بالسياسة أو بالاقتصاد، ويلح الاميركيون على دول العالم اخيرا بضرورة الأخذ فورا بالهوس نفسه هوس الخصخصة وفتح الاسواق والتحرير المالي. باختصار: هوس العولمة. لكن قبل ان يهنئ الاميركيون انفسهم على ضخامة المكاسب التي حققوها لأنفسهم اقتصادياً على مستوى العالم من خلال الإصرار على "العولمة" جاء زلزال دول جنوب شرق آسيا، ابتداءً من صيف 1997. ومن هناك انتقل الى روسيا ثم الى البرازيل مهدداً في الطريق باكتساج المزيد من الدول يوماً بعد يوم. والدول الوحيدة التي نجت من الزلزال حتى الآن كانت من طراز الصين والهند وكلاهما رفض الانسياق في الهوس الاميركي او دول مثل ماليزيا التي قللت من خسائرها من خلال رفض الانجرار الى فخ برامج صندوق النقد الدولي، مفضلة الاعتماد على نفسها وإعادة فرض القيود الصارمة على حركة رأس المال الاجنبي منها واليها تمرداً على مقتضيات "العولمة". فعلى حين غرة اكتشف السياسيون ان هوس "العولمة" بالمفهوم الاميركي الرائج معناه ببساطة ان تعيش مجتمعاتهم حياتها على كف عفريت. هناك مصانع ومرافق ومزارع كلها منتجة. كلها متطورة. هناك ملايين من العاملين كلهم منضبطون ومتعلمون هناك - حتى - فائض تجاري ضخم ومتراكم ومتجدد. هناك ايضا عشرات البلايين من الدولارات ارصدة احتياطية يملكها البنك المركزي. مع ذلك ففي لحظة مأساوية اكتشف الجميع ان هناك عشرات البلايين من الدولارات اقترضها القطاع الخاص في الداخل من الرأسمالية الدولية في الخارج بغير علم الدولة أو حتى إخطار البنك المركزي، ألم يكن هذا أحد متطلبات "العولمة" بالإلحاح الاميركي؟ والآن في قلب الزلزال، وبكلفة مروعة، اصبح على الدولة ان تلتزم هي نفسها بتسديد تلك القروض الفلكية من تعب وشقاء دافعي الضرائب من المواطنين العاديين الذين لم يكن لهم أي ذنب في الموضوع من اساسه. اكثر من ذلك، أصبح على الدول الضحايا ايضا ان تبيع مؤسساتها الوطنية - قطاعان خاص وعام - الى الاجانب تحديداً، برخص التراب، في التو واللحظة. حتى هنري كسينجر وزير الخارجية الاميركي السابق، والمرتبط عضوياً بشركات اميركية كبرى دولية النشاط، اضطر الى الخروج محذراً من ان يؤدي ما جرى في دول جنوب شرق آسيا الى موجة غير مسبوقة من العداء لأميركا والاميركيين. اما كلاوس شواب رئيس منتدى دافوس، منتدى الشركات متعدية الجنسيات نفسه، فقد كان هو ايضا احد من حذروا قبل سنتين تحديداً من ان "العولمة" قد تؤدي الى انتكاسة مفاجئة لا يمكن السيطرة عليها، وأن قيام الرأسمالية المعولمة الجديدة بتجاهل مصالح غالبية السكان سيشكل تحدياً لمجمل البناء الاجتماعي الذي تقوم عليه الديموقراطية". والآن حتى ميشيل كامديسو رئيس صندوق النقد الدولي، حتى جيمس ولفنسون رئيس البنك الدولي، اصبحا يتحدثان للمرة الاولى عن اهمية مراعاة "البُعد الاجتماعي" في ما تمارسه رأسمالية "العولمة" الجديدة. كلام جميل. ولا ليلى مراد في ايامها وأفلامها تقدر تقول حاجة عنه، عيبه فقط انه يقال بعد خراب مالطا. وفي كل الحالات هو لن يصلح عزاء بالمرة لمئات من الملايين من البشر الذين اصابهم خراب البيوت نتيجة لحظة هوس فرضتها قوى "العولمة"، هذا ينقلنا من الجناة الى الضحايا. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية.