استقطب جون غراي في كتابه الصادر قبل اشهر "الفجر الزائف: أخاديع الرأسمالية الكونية" غرانتا، 1998، 234 صفحة، اهتماماً ملحوظاً في أوساط المهتمين. فالعولمة، الآن، هي الموضة الفكرية، وغراي، بدوره، له قصة مثيرة. فهو كان ثاتشرياً متحمساً، عمّد ثاتشريته بكتاب صدر في 1986 حمل اسم "الليبرالية"، كما بقرب من الدوائر الفكرية لليمين الجديد. لكنه، عند منعطفٍ ما على الطريق، أبصر النور. ويبدو ان مرضا جديا المّ بشخص وثيق الصلة به حمله على اعادة التفكير باهمية الضمان الحي. وبحماسة المتحولين وبالطاقة الفكرية لبروفيسور السياسة في اكسفورد، ومن ثم بروفيسور الفكر الأوروبي في جامعة لندن للاقتصاد، حوّل غراي نفسه، على عكس الوجهة التي سادت السنوات القليلة الماضية، عدواً شرساً لرأسمالية السوق الحرة. فكتابه قذائف على اجحافاتها وتفاوتاتها، حيث تعمل مفاعيل قوى السوق، في رأيه، على تدمير نسيج المجتمع، وكذلك الميراث البيئوي والطبيعي. ومن خلال توكيدها على تحرير السوق والتنافس، لم تكن المحافظة الثاتشرية سوى عنوان لتدمير روابط العائلة والجماعة التي يزعم المحافظون الحرص عليها. وينتهي غراي الى استشراف خطير: ما من أمل، ما من اقتراحات للإصلاح، فيما المستقبل معتم جداً. فما تفعله الرأسمالية المعولمة هو أن "تجزىء وتبعثر، فيما يفضي تعاظم ندرة الموارد وصراعات المصالح بين القوى العالمية العظمى الى جعل التعاون الدولي أصعب من ذي قبل. والأفق الانساني إذّاك هو فوضى كونية متعمّقة". النبرة الراديكالية، بل الراديكالية القصوى، لدى غراي لا توقعه في بساطة الادانة الشعارية، على طريقة "لا للعولمة". فهو أشد تعقيداً وحذلقة، اذ يكن احتراماً عميقاً لقوة السوق الكونية، ولو أنه يدين ويشجب معظم مفاعيلها. يقول: "ان الحركة التاريخية للعالم التي نسميها العولمة تتمتع بقوة دفع لا تُرد. نحن لسنا سادة التقنيات التي تسوق الاقتصاد الكوني، بل ان هذه التقنيات تشرطنا بطرق كثيرة لم نبدأ، حتى، فهمها. والمؤسسات التي تراقب مخاطرها الجانبية، او توازنها، لا تزال مفقودة". وهو ينظر بعاطفية واضحة الى الرأسمالية الليبرالية في الولاياتالمتحدة ابان الخمسينات والستينات، الا انه يسجل صعوبة استعادتها. كذلك لا يكتم استحسانه لرأسمالية السوق الاجتماعية في ألمانيا، غير انه لا يتوقع لها حياة مديدة. وتحظى سنغافورة بذكره في سياق ايجابي، بيد ان تطوراتها التي تلت صدور الكتاب تجعل هذا التثمين عرضة للشك. لكنه، بالتأكيد، معادٍ للأميركية عداءً عالماً ثالثياً. ففرض رأسمالية "دعه يمر" بزيها الأميركي على باقي العالم، أكان ذلك عبر الثاتشرية في بريطانيا او الاصلاحات التي حملها الى روسيا اساتذة هارفارد او التي نقلها صندوق النقد الى آسيا، هو في رأيه، كارثة ثقافية. ذاك ان رأسمالية السوق الحرة، وعلى عكس تصوير انصارها لها حلاً نهائياً ونهاية للتاريخ، لن تكون الا "منعطفاً آخر في تاريخ العبودية". فهي تخلق مجتمعات رخيصة، لئيمة، عديمة العواطف، قليلة العلم والتعليم، حيث يُترك الناس "لحياة من البعثرة" في عالم عدمي. وأسوأ مما عداه أنها تدمّر الفضائل التي يفترض انها خلقتها: المهارة، الافتخار المدني والقيم العائلية التي غدت الآن "قطعاً متحفية لا تنتج أرباحاً". وغراي في كراهيته الخاصة والمميزة للولايات المتحدة، يشهر سلاح الاحصاءات، فيرى ان العدد الضخم من نزلاء السجون حوالي مليون ونصف المليون نتيجةٌ مباشرة للخوف والتفكك اللذين تسببت بهما رأسمالية قاسية وحكومة حقيرة. غير انه يرى في هذا نذيراً للآخرين: صحيح ان السوق الاميركية الحرة ناهضة، وان الظافرية حلت محل الانحسارية، الا ان هذا لا يدوم. صانعو السياسة الاميركان يستخدمون سلطتهم على المنظمات العابرة للقارات لكي يبشروا بفضائل رأسماليتهم، ولكي ينصحوا الحكومات بتقليد نمطهم. سجل اميركا في خلق فرص العمل وانتعاش البورصة يتم تقديمه كبرهان على اكتشاف الولاياتالمتحدة سر "الباراديم الاقتصادي الجديد". الا ان التوسع الذي شهدته السنوات ال15 الفائتة سوف يتوقف، وحين يحصل ذلك فان اصلاحات الرفاه التي ضربت شبكة الامان لملايين الاميركان سوف تفقد بريقها. وعندما يصل الركود وتبدأ البطالة بالارتفاع، ستكون الطامة الكبرى. أما زعم التوصل الى عمالة كاملة فهو، بدوره، عرضة للسؤال. انه لا يقول شيئا عن المساجين الذين كانوا ليكونوا، لو لم يُلقَ بهم في السجون، قوة طالبة للعمل. فاميركا تسجن، مع اخذ النسب في الحساب، اربعة اضعاف ما تسجنه بريطانيا، وستة اضعاف ما تسجنه بلدان اوروبية اخرى و14 ضعف ما تسجنه اليابان. هكذا اذا حسبنا المساجين، يخسر سجل العمالة الكثير. اسواق العمل الاميركية القائمة على مبدأ "استأجر وسرّح" خلقت ملايين الفرص الجديدة، لكنها فعلت ذلك بكلفة هائلة في تفكيك المواضع الاجتماعية. فالعمال الاميركان اكثر ترشيحا بكثير من زملائهم الاوروبيين للتنقل بين مكان وآخر في بلدهم. ثمار الانتاجية الاميركية يتم اقتسامها بقدر كبير من التفاوت. التفاوتات الاقتصادية ازدادت بشكل ملحوظ في السنوات العشرين الاخيرة. طبقة صغيرة من ملاكي الاسهم والحصص احرزت نجاحات ملحوظة، لكن اصحاب الدخول المتوسطة ركد اقتصادهم، وظهرت طبقة جديدة من فقراء العاملين فيما لم تتحسن ظروف من هم دون الطبقة. بنتيجة ذلك فان الولاياتالمتحدة تشبه اليوم بعض بلدان اميركا اللاتينية اكثر مما تشبه اي مجتمع اوروبي. بيد ان هذا لا يعني ان المعطيات المذكورة تخلّف وعيا موازيا لها لدى الاميركان. سنوات النمو المتواصل شغلتهم عن ذلك. لكن كيف سيتصرف المستثمرون الاميركان اذا ما هبطت البورصة بنسبة الثلثين، كما حصل في اليابان اواخر الثمانينات وفي الولاياتالمتحدة نفسها اوائل السبعينات؟ في حالات كهذه نعلم ان البلدان التي لا تملك شبكة رفاه وامان تتجه الى الحمائية، ومعالم الحمائية يبديها موقف الكونغرس الذي رفض اعطاء كلينتون صلاحية المفاوضة في ما خص الاتفاقات التجارية السريعة والطارئة. وتالياً، كيف سيتصرف الكونغرس حيال صادرات آسيوية رخيصة في حال انهيار البورصة او الكساد؟ سوف يبدو مثيراً للسخرية، حقاً، ان تتحول الولاياتالمتحدة، وهي رائدة الانفتاح التجاري، الى رائدة للانغلاق والعزلة! ربما كان ينبغي لعدد من الاقتصادات الاوروبية والآسيوية ان تُدخل قدرا من المرونة على اقتصاداتها. هذا يقر به غراي. لكن الاقتراحات الاميركية حول تحرير سوق العمل واصلاح الرفاه هي وصفة عدم استقرار اجتماعي وربما سياسي. وغالبا ما يقال انه في ظل العولمة لا بديل للاسواق الحرة، الا ان تزايد التداخل بين اقتصادات العالم لا يجعل انتشار الاسواق الحرة محتما، وطبعا لا يجعله دائما مرغوبا. فتحدي العولمة يكمن في اجرائها المصالحة بين الضغوط التنافسية للاسواق العالمية وبين حاجات التناسق الاجتماعي. وفيما تغدو الاسواق اشد حساسية، يتضح ان انتاجية اميركا غير المسبوقة انما نجمت على حساب بلدان عدة. احصائيات غراي لتبرير وجهة نظره كثيرة: وفيات الاطفال في هارلم الشرقية ليست افضل حالا منها في الاتحاد السوفياتي السابق. حوالي ثلاثة ارباع جرائم الطفولة التي تحصل في البلدان الصناعية تحصل في الولاياتالمتحدة. في 1992 اكثر من 40 في المئة من الذكور السود الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 سنة من سكان واشنطن العاصمة، كانوا في السجون او رهن الاعتقال او التحقيق او الاستدعاء. في اميركا يبلغ عدد المحامين 25 ضعف عددهم في اليابان مع أخذ فوارق النسب. هناك 28 مليون اميركي يعيشون في مناطق سكنية محمية ذاتياً. وكائناً ما كان مجال المقارنة، فإن أي طفل يولد في شنغهاي محظوظ أكثر من مثيله الذي يولد في أميركا. لكن غراي الذي يستخدم الاحصاءات بطريقة لم تعد مقبولة كثيراً الأشجار اذ تحجب غابات، يغض النظر عن أرقام أخرى وآراء أخرى. يصيب الكثير من عيوب أميركا الكبيرة ويفشل في ذكر وجه لها حميد. غالبرايث سبق له ان قال معظم هذا برصانة واقتصاد في التهم أكبر. بول كينيدي، البريطاني هو الآخر، توقّع أفول "الامبراطورية الأميركية". أصوات كثيرة في "العالم الثالث" تردد، بمناسبة ولا مناسبة، نبؤاتها المقرونة بالشتائم. غراي لا يقول شيئاً عن الافتخار المدني والمساءلة الديموقراطية التي تتميز بها حياة المدن الاميركية الصغرى، والتي كثيراً ما يُساء استخدامها على ما نرى مع كينيث ستار. يتجاهل الوطنية الأميركية التي يمكن انتقادها من زاوية فائضها أكثر مما من زاوية ضعفها. يتجاهل أيضاً القدرة الهائلة على تحريك الرساميل التي أدى حِراكها الى جعل الرأسمالية الاميركية طليعة تقنيات المعلومات والعلوم البيولوجية والكيميائية. يتجاهل اميركا الثقافة والافكار والسينما وصناعة وقت الفراغ... العداء لأميركا يعمي صاحبه. مرات كثيرة يلوح في الكتاب كأن التراكم السلبي الذي أنجزته الشيوعية في روسيا، أو التخلف والضعف البنيوي المتوارثين في بلدان "العالم الثالث" بريئان تماماً من الحال المأسوية لتلك الدول، والتي لم تصنعها الا الرأسمالية الأنغلوساكسونية وعولمتها. وبالمعنى نفسه يلوح كأن الولاياتالمتحدة ورأسماليتها مسؤولتان عن أزمة الرفاه ودولته، والقدرة على ادامتهما في أوروبا الغربية. هذا التبسيط الآحادي الذي يعفي الشعوب بثقافاتها واقتصاداتها، بتخلفها وفساد أنظمتها، من اية مسؤولية، ينبغي أن يُقلق الشعوب المعفاة من المسؤولية بدل أن يُفرحها ويُريحها لأن الشر الوحيد محصور في العولمة الأميركية. على الجبهة الاوروبية، يلاحظ بحق بعض الجوانب التدميرية للثاتشرية، لكنه لا يعترف لها بأي فضل تحديثي، مستعملا الاحصائيات مرة اخرى. ينعي نفوذ "الاجماع الواشنطوني" على انماط الرأسمالية الآسيوية من دون ان يتفحص كيفية اشتغال قوى السوق المعولمة في بلدان سيئة الحكم كاندونيسيا وتايلندا، ومن غير ان يسجل كيف ان هذا الاحتكاك يمكن ان يساعد على تفكيك الرقابة السلطوية واساءة استخدام الموارد والتبديد البيئوي. وحيال الأزمة المالية والسياسية التي انفجرت بعد صدور كتابه، لا يمكن الا الموافقة على جلد جون غراي للحكومات الخاضعة ل"كازينو المضاربات بالعملة"، الا ان ما لا يمكن الموافقة عليه هو التغافل التام عن دور هذه الحكومات في ادارتها الاقتصادية غير الكفوءة واقتراضها المتعاظم وفسادها الراسخ. يعلن تفضيله لسوق المانية اجتماعية مع هجوم على الضبط الكوني، لكنه لا يفصّل اقتراحاته التي تمر مرور الكرام، مؤثراً تكرار القول بان رأسمالية السوق الحرة مكتوب عليها أن تدمرها القوى التي أطلقتها. كان يمكن القول ان جون غراي، ومن يفكرون مثله، ينبّهون بشرية كوكبنا بالمعنى الذي استفادت منه الرأسمالية من الماركسية. لقد سقطت الاطاحة وبقي التحذير. لكنْ قياسا به يبدو كارل ماركس في "البيان الشيوعي" شديد التفاؤل. فهو، على الاقل، قال ان الاشتراكية ترث الرأسمالية وتكون نظاماً اعدل بما لا يقاس. أما غراي فبالغ التشكيك بقدرة اي عمل سياسي على تخفيف آلام العولمة وشركاتها المتعدية الحدود والمتهربة من الضرائب. وهو يرفض ان يلحظ اي تفصيل يبعث على شيء من التفاؤل: انه اطلاقي يرفض الاذعان الى التفصيل، ويرفض التدرجية، كما يرفض الاقرار بمبدأ ليبرالي في التفكير هو قوة التقليد والسابقة والعادة. وفي ميله الى مطاردة الأفكار ذهاباً بها الى مآلات صارمة وحتمية، يخالف الشكوكية المتسامحة لبطله الفكري اشعيا برلين الذي ترك الباب مفتوحاً لتدخل الحياة وطوارئها واللامتوقع فيها، ومن ثم احتمالات "انحراف" بعض الأمور عن مساراتها النظرية المفترضة و"المنطقية". وهنا، خصوصاً، يندرج اعلانه الجازم حول الافلاس الحتمي للسوق الحرة. فقمة كيوتو للتغير المناخي، مثلا، لم تكن انتصارا، الا انها كانت نقلة الى الامام. والشرق الاوسط لم يعد هو نفسه بعد التوصل الى سلام على رغم رداءة الحال التي يعانيها السلام راهناً. وأوروبا بعد وحدتها، ومن ثم عملتها المشتركة، ستنتج عناصر أخرى للتعاطي السياسي لا يجوز استبعادها سلفاً. وفي 1960 كان معدل الدخل الفردي في كوريا الجنوبية 250 دولارا، وهي الآن، رغم أزمتها الكبيرة، تصدّر سيارات. كذلك تحررت جنوب افريقيا التي لم تكن الرأسمالية العالمية بعيدة عن المساهمة في عتقها من النظام العرقي وهكذا دواليك. وغالباً ما عملت التجارة الحرة على المساهمة في تحرير امم من الاستبداد والانظمة السلطوية. انها، اذن، نظرة سلبية الى ما هو أسود في حاضرنا، لكن يصعب القول بأي اسهام جدي ينجم عنها ويخدم النقاش حول المستقبل. احيانا يبدو كتابه خطبة مسهبة وعنيفة سمعناها كثيرا من قبل. تشاؤم غراي حيال العولمة، نقطة اختلاف أخرى عن التقليد الكينزي. فقد كانت وجهة النظر المعروفة لماينرد كينز ان المشكلات الاقتصادية ستعثر على حلها بمرور الزمن، عبر ادوات رأسمالية. صحيح ان خمسين سنة انقضت على رحيل الاقتصادي البريطاني الكبير فيما لم تجد المشكلات الاقتصادية "حلولاً" لها، لكن الصحيح ايضا ان الذين يعيشون الآن على سطح الكرة الارضية اكثر من ضعف الذين كانوا يعيشون يومذاك، فيما المعدل الوسطي لمستويات المعيشة، على تفاوتاتها الرهيبة، ارفع بما لا يقاس مما كانت عليه. ثم ان ما يعتبر الآن دخلاً منخفضاً يوفّر مستوى معيشة أفضل بما لا يقاس مما كان مستوى منخفضاً في الثلاثينات أو الخمسينات. وغني عن القول ان هذا ما لم تُحرزه الاشتراكية، بل احرزته الرأسمالية تحديداً بتجديداتها التقنية المتواصلة. التفصيل والتدرج يفوتان غراي هنا ايضاً. ما من شك في ان العولمة تطرح، في ما تطرح، مشكلة كبرى تطول اكلافها الاجتماعية الضخمة. فهي، فعلاً، وعلى ما اشار كثيرون، يبدو انها تعمل كما يعمل مبدأ الاختيار الطبيعي: تدمر الذين يفشلون في التكيف، وتكافىء، وأحياناً بسخاء مبالغ فيه، أولئك الذين ينجحون. هذا ما يستبعد وجود اية اخلاقية ضمنية كامنة في عملها، اذ الداروينية حيادية أخلاقياً، وبسبب هذه الحيادية تبدو مخيفة للبشر الذين يضعفون او لا يتكيفون، وفي النهاية يفشلون. والجانب الاخلاقي هذا، او بالأحرى الافتقار اليه، يبقى عيباً كبيراً ماثلاً في العولمة حين يُنظر اليها من وجهة نظر انسانية: انها تطرح ثمارها بنتيجة عملية تنافسية لا بنتيجة اختيار أخلاقي. وحين ينظر غراي الى الآثار السلبية هذه، والى أوضاع سوق بعينها، لا يرى الا ما يُذعره: خراب الجماعات، انهيار العائلة، التفاوت الاقتصادي، انتشار المخدرات وكون 400 الف اميركي، غالبهم من السود، في السجون بسبب المخدرات. ومن الطبيعي ان يعترض على هذه الشرور التي تنشرها السوق تماماً كما تنشر، في المقابل، السلع المادية وفرص العمل والثراء. السوق من سماتها، اذن، عدم الرحمة التي في الطبيعة. وكثيراً، في التاريخ، ما عملت الآثار السلبية لقوى السوق المفتوحة على تهديد استقرار الجنس البشري وسلامه، فيما كان التنافس ينتج القدرتين: على البقاء وعلى التكيّف. هذا الجدل لا يحبه غراي الذي لا يبدو صاحب احتجاج ممزوج باقتراح، كدعم مؤسسات معينة تحد من عمل الطبيعة العمياء في الحقل الاقتصادي، او تطوير شبكات الأمان الاجتماعي بالضد من الوعي الريغاني - الثاتشري، او توطيد رقابة الدولة والبحث في الامكانات العملية المتاحة، او التي يمكن جعلها متاحة، على الصعيد هذا. كذلك لا يتناول امكانات رفع درجة مساهمة البلدان المتخلفة في العولمة ما دام انه هو نفسه يقرّ باستحالة تجاهلها الدولة، شبكة الأمان، الثقافات الخاصة التي ربما كان متسامحاً حيالها، معرفة الانكليزية الخ.... انه، في المقابل، يبدو ذا غضب عدمي يدفعه الى التعاطف مع عالم بائد، يقول هو نفسه باستحالة استرجاعه. ويبدو، بشيء من القسوة، ان غراي انما يقف مع المتضررين من التحديث والحداثة لمجرد انهم كذلك، فيما ترعبه الطبيعة المتسارعة وغير المألوفة للحياة. فهو يقرع الناقوس: "نحن نقف لا على شفير عصر من الكثرة يصنعه انصار السوق الحرة، بل على شفير عصر تراجيدي حيث تتولى قوى السوق الفوضوية والموارد الطبيعية المتضائلة دفع الدول ذات السيادة الى منافسات أكثر فأكثر خطورة". يذكّرنا بالذين أرادوا وقف الصناعة نتيجة حوادث السير على سكة الحديد! في المعنى هذا فإنه يجد آباء له في التقليد السياسي والاجتماعي البريطاني ربما كان أهمهم الناقد الراديكالي وليم كوبيت. قبل قرنين جمع كوبيت لائحة بمظالم الحياة الزراعية وارفقها بسجاليات حادة ضد التغيرات الاجتماعية التي كانت تؤشّر الى ولادة اقتصاد السوق الحرة. ففي مطالع القرن التاسع عشر وكانت حركتا تسوير الأراضي العامة والتصنيع تباشران كنس بعض طرق الحياة التقليدية، تزعم الاعتراض الثقافي مدافعاً عن المقتلعين من الارض. لكن ما عانته انكلترا في عهد كوبيت يعانيه العالم بأسره اليوم حيث يهاجر البشر كلهم من الارياف الى التجمعات المكتظة وغير الصحية، وتبدو المصانع الجديدة وحوشا تهاجم الطبيعة والبشر، فيما تنتشر عمالة الصغار ومدن الصفيح، ويتكرر المشهد الديكنزي في امكنة لا حصر لها من العالم. الا ان ادانة هذه النتائج ومحاولة السيطرة عليها شيء، والاعتقاد بان النظام الذي اوصلنا الى ما وصلنا اليه، سوف يتركنا نستنقع في الفوضى والعبودية، شيء آخر أقرب الى رؤيوية ألفية، تحاذي الوقوع في التحليل التآمري لفعل السوق، وتشبه في خلاصاتها المسدودة خلاصات مالثوس السكانية المسدودة أيضاً قبل قرن ونصف القرن، والتي ثبت خطؤها بالكامل. ان "الفجر الزائف" هو هجوم على كل وجه تقريباً من وجوه العولمة، خصوصاً تداخل رساميل السوق الرأسمالية العالمية وتحرير التجارة. ولئن اعترف مؤلفه بأن "السوق الحرة الكونية منتجة بطريقة باهرة"، الا ان مأخذه على النظام الاقتصادي العالمي يقود، بالتالي، الى جبهة الأفكار والثقافة: فهو يفترض ان كل المجتمعات مسوقة لأن تتطابق مع النموذج الأنغلو أميركي للسوق الحرة، على رغم الأذى الذي يلحقه هذا النموذج بالبلدان التي تبنّته. فالمدافعون عن النظام الكوني ل"دعه يمر" لا يدركون ان انظمة اخرى ربما كانت أفيد لشعوبهم. ولئن أصاب غراي في ازدرائه مفكرين كفوكوياما في افتراضهم ان المجتمعات كلها سوف تتجه الى اقتصادات السوق الحرة الليبرالية والديموقراطية، الا ان محاجّة غراي مدعاة لبعض الريبة هنا أيضاً. فهو يرى ان اشكالا عدة من الرأسمالية ومن البنى السياسية يمكن ان تلائم ثقافات مختلفة. وهذا قد يكون صحيحاً الا ان ثمة فارقاً بين الاعتقاد بان النموذج الاقتصادي الاميركي غير قابل للزرع في العالم، والقول، كما يفعل الكاتب، بانعدام وجود معيار عقلاني واحد لتقييم شرعية الانظمة الاخرى والحكم عليها. الواضح، في السياق هذا، ان غراي يحيل شرعية التنوير الى كاريكاتور اذ يقدمه كوصفة تفضي الى المساواة النسخية بين المجتمعات الآخذة به. والحال ان القول بان الشرعية التي تنهض في معزل عن ارادة شعبها ليست شرعية، تبقى معيارا كونيا أنُسب الى التنوير أم لم يُنسب. لكن على الضد من هذه الوجهة العقلانية يبدو غراي وكأنه يقترح معايير أخرى لامتحان الشرعية. فعنده، وعلى ما نعهد في دعاة الخصوصية، لا يوجد مبدأ مجرد يمنح المشروعية لنظام سياسي، وكل ما يمكننا الرجوع اليه هو مدى ازدهار الشعب المعني في ظل هذا النظام. والشيء نفسه ينسحب على القيم. فما من نظام، يمينياً كان او يسارياً، يجوز له السعي الى قيم مرفوضة كلياً من اكثرية شعبه. الا ان القيم لكي تكون ذات معنى ونفع، ينبغي ان تفتح الباب، او تخلق الاجواء الملائمة لانفتاح الباب، امام صدوعٍ في هذه الاكثرية ووعيها. وهذه بدايات السياسة الديموقراطية والحديثة. ومرة أخرى فإن غراي على حق لا لبس فيه حين يحذّر من الباس العالم كله ثقافة السوق الرأسمالية، الانغلو ساكسونية، من دون تمييزات وخصوصيات. لكن من الذي قال غير فوكوياما والمنشغلين بنقده، أن المطروح على العالم بعد ربع قرن استقراره أو عدم استقراره على سيناريو فردوسي؟ فالأرجح، وبسبب العولمة، ان يشهد مجتمعاتٍ وانظمة اقتصادية متنافسة أكان ذلك بين مناطق اقليمية أو في داخل كل منها. اليابان اليوم فيها من مطاعم الماكدونالد اكثر مما في اميركا، قياسا بعدد السكان، وهذا ما لم يحل دون انتشار ثقافتها حيث فيدواتها للاطفال، مثلا، تغزو الكرة الارضية. ولا يستطيع والت ديزني ان يوقف انتشار الثقافة الاوروبية ومعاييرها، حتى ان كلينتون في المعركة التي خاضها من اجل الضمان الصحي لم يكتم تأثره بالنماذج الأوروبية. فالعولمة تنجب، في مقابل ما تحدثه من تداخل اقتصادي وسياسي، تداخلا ثقافياً يصعب الجزم بغلبة كاسحة لأحد عناصره بما يلغي العناصر الأخرى. هذا الالغاء لا يحصل الا في سيناريو خرافي. انه سيكون عالماً اكثر تنوعاً، ومن ثم اكثر تحدياً للنموذج الغربي نفسه. وعند ذاك يزداد الغنى الذي يسمح برفض النموذج الأميركي، او على الاقل وجوهه الأشد اظلاماً التي يتحدث عنها غراي مطولاً. لكن ما السر وراء هذا الارتباط الوثيق بين الابتداء بنقد المفاعيل السيئة للعولمة والانتهاء بنقد العالمية والعقلانية؟ * كاتب ومعلّق لبناني.