كان قبول الأمير أحمد فؤاد باشا رئاسة لجنة الجامعة إعلانا غير مباشر عن رضا الخديوي عباس حلمي الثاني من ناحية، وتقبل الأرستوقراطية الحاكمة مبدأ الاشتراك مع طليعة الطبقة الوسطى في استكمال بناء التعليم المدني بتأسيس الجامعة من ناحية ثانية. وكان تجاوب هذين الأمرين إيذانا ببداية الخطوات العملية لتنفيذ مشروع الجامعة. وهي الخطوات التي اكتملت مرحلتها الأولى بحفلة افتتاح الجامعة رسمياً في الحادي والعشرين من كانون الاول ديسمبر 1908، وظل المقصد الأساسي مرتبطاً بالسعي إلى تأسيس جامعة مدنية خالصة، مستقلة عن كل سلطة حكومية أو غير حكومية، لا تخضع إلى توجيهات أو تعليمات من خارجها، ولا يملك شأنها إلا مجلس إدارتها وجمعيتها العمومية التي حرص رئيس مجلس الجامعة الأمير أحمد فؤاد باشا على إعلان استقلالهما معاً. وأتصور أن معاني الاستقلال المدني للجامعة لم تكن تفارق أذهان أعضاء لجنتها التي تحوّلت إلى مجلس إدارة مع بداية عمل الجامعة، فقد عملت هذه اللجنة على إرسال البعثات إلى الجامعات المتقدمة في أوروبا من قبل أن تبدأ الجامعة المصرية عملها، وذلك تكوينا لأساتذة المستقبل المتخصصين، وترسيخا لمعنى الحرية الفكرية والعلمية بالتنشئة في جامعات لها تاريخها في الحفاظ على هذه الحرية وتأصيلها. ومن الطريف في هذا المجال ما كتبته جريدة "المؤيد" بعددها الصادر في الثاني عشر من ايلول سبتمبر سنة 1908 قبل افتتاح الجامعة رسميا بحوالي شهرين عن حفلات توديع الإرسالية الجامعية الأولى. وكانت الحفلة الأولى في محطة القاهرة للسكة الحديد، وغصت المحطة بالمودعين من طلبة المدارس العليا وأعضاء ناديهم وأعضاء لجنة الجامعة المصرية. وقبيل قيام القطار، ألقى حضرة الأديب عبدالحميد أفندي حمدي كلمات وداع، وكذا ألقى حضرة الأديب الشيخ إبراهيم الدباغ أبياتاً رقيقة. وبعد ذلك صاح الحاضرون مرارا: "لتحي إرسالية الجامعة! لتحي الجامعة الحرة!". ولم يكن الهتاف لرسل "الجامعة الحرة" سوى الوجه الآخر من الإلحاح على المعنى المدني للجامعة، وهو الإلحاح الذي حرصت اللجنة على إشاعته بين الجمهور، فأصدرت بيانا لمناسبة اقتراب افتتاح الجامعة، نشرته الصحف المختلفة، أبرز ما فيه أن المعرفة بالعلوم العصرية التي هي السبيل الوحيد للتقدم تتمثل "في اختيار الأساليب المدنية التي هدت إليها التجربة، وأرشد إليها الاختبار الطويل، وبها دون سواها يكون النجاح التام، ووصول الناشئة إلى المقصود من أقرب طريق". ويمضي البيان قائلا إن القواعد الصحيحة التي يقوم عليها البنيان الكبير للجامعة لا تكون إلا بإدخال المعارف التي لم تنل في مصر حظها من العناية إلى الآن، فهي العلوم العالية التي تجعل الإنسان كبيرا في نفسه، كبيرا في قومه، وتجعل الأمة كبيرة بين الأمم الكبيرة. ومعنى الحرية منسرب في تحصيل هذه العلوم التي تشعر الإنسان بحضوره الحر الفاعل، وتشعر الأمة بقدرتها على الحضور المكافئ لغيرها. ويبدو أن هذا المعنى للحرية لم يقتصر على حرية مجاوزة الدائرة المتوارثة للتعليم الديني فحسب، وإنما امتد إلى مجاوزة القيود السياسية التي يمكن أن تهدد بها الدولة إمكانات الحرية الجامعية الوليدة. وأحسب أن هذا البعد الأخير - على الأقل - هو ما حرص الأمير أحمد فؤاد على تأكيده بحسم. وكان ذلك ردا على التقرير الذي كتبه السير إلدون جورست عن الجامعة الجديدة، حين ذكر أن من بين مبادئ هذه الجامعة أن تكون إدارتها مطابقة لرأي الحكومة المصرية. وقد أثارت جريدة "المؤيد" الناطقة بلسان "الحزب الوطني" هذا الأمر، وأعلنت خوفها من تعرض استقلال الجامعة للخطر، وذهب مراسلها إلى دولة الأمير أحمد فؤاد الذي صرح له بأنه من يوم أن تولى رياسة الجامعة وهي جامعة وطنية حرة، وليست تحت رعاية الحكومة أو تدخلها في شيء. وقد اتبع الأمير فؤاد هذا التصريح بأن أعلن في مجلس الجامعة الذي انعقد في يوم الأربعاء العشرين من آيار مايو سنة 1908 أنه يعلن على رؤوس الأشهاد، مكررا ما قاله سابقا ومرارا، من أن الجامعة المصرية مستقلة تمام الاستقلال، وليس لأي سلطة أو جهة من الحكومة أدنى تدخل في أعمالها، وأن كل القرارات التي قررتها لجنة الجامعة والتي ستقررها إنما أصدرتها وستصدرها بتمام الاستقلال بما يوحيه ضميرها وإخلاصها في خدمة هذا الوطن العزيز، وتفانيها في رفع شأنه، وتكوين رجاله الذين سيكونون أعظم ذخيرة له في مستقبل الأيام. والواقع أن هذا الإعلان الذي سبق الافتتاح بأشهر معدودة كان بمثابة رسالة واضحة إلى أطراف ثلاثة، أولها: الحكومة بإعلان مبدأ استقلال الجامعة عنها، وهو الأمر الذي ظلت ولا تزال تكافح من أجله الطليعة المرتبطة بالجامعة إلى اليوم. وثانيها: الاستعمار البريطاني الذي تأسست الجامعة بجهود محاربيه الوطنيين. وعلى رغم محاولته المتكررة عرقلة مشروع التأسيس، إدراكاً منه أن جامعة وطنية مستقلة تؤجج مطلب الاستقلال وتضيف إليه ما يزيده قوة ورسوخا، فإن الطليعة الوطنية أفلحت في إحباط محاولة العرقلة، وتآلفت بما جعل تنفيذ المشروع ممكنا. وثالثها: السلطة الدينية ممثلة في الأزهر والمشايخ التقليديين الذين رأوا في الجامعة المدنية التي لا دين لها سوى العلم -كما وصفها سعد زغلول- ما يهدد مكانتهم التقليدية في المجتمع من ناحية، ويقوّض سطوة نفوذهم الاجتماعي من ناحية ثانية، ويجذب طوائف الشباب الأزهري المتمرد على التقاليد الجامدة من ناحية أخيرة. ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن يبدأ الهجوم على الجامعة من المجموعات التقليدية للمشايخ، في موازاة دعاة الدولة الدينية الذين نطقت صوتهم مجلة "المنار" لصاحبها الشيخ محمد رشيد رضا الذي ازداد تعصبا بعد وفاة شيخه المستنير الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية الذي كان من الدعاة الأوائل لمشروع الجامعة. والحق أن المعاني المدنية والسياسية لاستقلال الجامعة ما كان يمكن أن تتجسد في مشروع فعلي لو لم يكن دعاة إنشاء الجامعة هم دعاة المجتمع المدني والمطالبين بدولة مدنية عصرية مستقلة، وهم دعاة الحرية الفكرية في مواجهة المؤسسات التقليدية، ودعاة الحرية السياسية المقترنة بالممارسة الديموقراطية التي أخذ الجميع يتحدثون عن أهميتها. وكان هؤلاء من أبناء طليعة الطبقة الوسطى التي اكتمل نموها بوجود المدارس المدنية المحلية من ناحية، واستكمال التعليم في الجامعات المدنية في الغرب الأوربي من ناحية ثانية. ولذلك كانت الصفة المدنية هي الصفة المتكررة التي جمعت ما بين المجموعات التي تكونت منها اللجان الأولى المؤسسة للجامعة، منذ أن اجتمعوا للمرة الأولى في منزل سعد بك زغلول قبل أن يصبح وزيرا للمعارف بأشهر قليلة. والواقع أن المعنى المدني لاستقلال الجامعة، في أحوال صدامها مع القوى المعادية لها، ما كان يتأكد إلا بطلائع الطبقة الوسطى المتحالفين مع أبناء الأرستقراطية المستنيرة. وكان الصدام الأول مع المجموعات الدينية التقليدية التي سرعان ما هاجمت الجامعة التي منحت درجة الدكتوراة للأزهري الآبق طه حسين سنة 1914، عن أطروحته في الأدب العربى التي كان موضوعها عن أبي العلاء المعري، وهي الأطروحة التي نشرها في العام اللاحق تحت عنوان "تجديد ذكرى أبي العلاء". ويحكي طه حسين عن هذا الصدام في الجزء الثالث من "الأيام" ذاكرا بالعرفان موقف سعد زغلول المدافع عن حرية البحث العلمى في الجامعة. وكان ذلك حين تقدم عبدالفتاح الجمل، عضو الجمعية التشريعية عن بورسعيد، باقتراح أن تقطع الحكومة معونتها عن الجامعة لأنها أخرجت ملحدا. وكان سعد زغلول رئيس لجنة الاقتراحات، فلما عرض عليه الاقتراح دعا المقترح للقائه، وطلب إليه أن يعدل عن اقتراحه، فلما أبى قال له: إن أصررت على موقفك فإن هناك من سيقدم اقتراحاً آخر يطلب فيه من الحكومة أن تقطع معونتها عن الأزهر لأن طه حسين تعلم في الأزهر قبل أن يتعلم في الجامعة فاضطر الرجل إلى سحب اقتراحه. وكانت هذه الواقعة العلامة الأولى على أن استقلال الجامعة في ما يتعلق بحرية البحث العلمي سيكون محل ريبة متصلة من المجموعات التقليدية المحافظة التي لا تتردد في استخدام تهمة التكفير لاستئصال الحرية البحثية، أو على الأقل تقييدها بحدود ونواهٍ قمعية لا تؤدي إلى ازدهار البحث العلمي الحر، أو انطلاق الفكر الجامعي في أفقه اللامحدود من البحث الذي لا يعرف قيداً. ويؤكد لنا التتابع التاريخي أن العلامة الأولى لسنة 1914 كانت البداية التي أعقبتها الضجة التي أثارتها أطروحة منصور فهمي الذي أرسلته الجامعة إلى فرنسا في البعثة الأولى التي غادرت مصر قبل افتتاح الجامعة سنة 1908 . ونجح منصور فهمي طالب مدرسة الحقوق الخديوية السابق في الحصول على إجازة الدراسات العالية في الفلسفة من كلية الآداب في باريس. وعاد إلى مصر بأطروحة عن "المرأة في الإسلام". وما إن شاعت أخبارها حتى ثارت ثائرة الطوائف التي عادت إلى الثورة نفسها سنة 1926، عندما أصدر طه حسين كتابه "في الشعر الجاهلى"، وظلت تعاود الثورة في السلسلة القمعية نفسها التي انتهت بالفصل بين نصر حامد أبو زيد وزوجه بحكم محكمة نقض. ولا أحسب أن هذه السلسلة ستتوقف في القريب العاجل، ما ظلت أحوالنا هي أحوالنا، وماظلت الجامعة بعيدة عن اكتمال حلم استقلالها الفكري الذي حلم به رجال من صنف سعد زغلول وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد الذين لم يتصوروا الجامعة سوى مؤسسة مدنية حرة مستقلة للبحث العلمي، بعيداً عن سلطة الدولة وسلطة المجموعات الدينية المتعصبة على السواء.