كلما استرجعت دلالات وقائع الاحتفال الأول بإنشاء الجامعة المصرية ألح على ذهني المعنى المدني الذي حرصت اللجنة المؤسسة للجامعة على إعلانه للأمة، قبل عامين من بداية عمل الجامعة الوليدة، مؤكدة أن هذه الجامعة مدرسة علوم وآداب تفتح أبوابها لكل طالب علم مهما كان جنسه أو دينه. وكان المقصود من ذلك الإعلان تأكيد المعنى المدني للجامعة التي ليست لها، ولاينبغي أن يكون لها، صبغة دينية أو عرقية أو طائفية أو حزبية تنحاز لطائفة أو اتجاه أو حزب أو عقيدة، الأمر الذي كان يشير بأوضح بيان إلى أن الجامعة من الأمة كلها وإلى أبناء الأمة كلهم، بوصفها -أي الجامعة- علامة واعدة على تحقق حلم الأمة في التحرر والرقي والتقدم. وكان ذلك تجسيداً لرغبة الطليعة المؤسسة للجامعة في تأكيد استقلالها العلمي الذي لايخضع إلى أية سلطة سوى سلطة العلم، ولايتبع أوامر أو نواهي أية مؤسسة مغايرة إلا في ما يفيد العلم. وتحقق الجامعة غاياتها الخاصة، من هذا المنظور، بوصفها مؤسسة مدنية خالصة، تقوم على حرية البحث والتفكير، وحق الاختلاف وضرورة التنوع، ومواصلة الابتكار والتجديد، والبدء من حيث انتهى السابقون على سبيل الإضافة الكمية والكيفية، ومن ثم الإيمان بضرورة التجريب والمغامرة العلمية المحسوبة، جنبا إلى جنب الإيمان بمبدأ التراكم الذي يفضي إلى معنى التطور، في سياق مؤسسي يعتمد العقلانية نهجا في الرؤية، من حيث هي تفكير في النسبي بما هو نسبي، ورفض للمطلقات التي تجافي الإدراك العقلي، والالتزام بأصول التفكير العلمي الذي يضع كل شيء موضع المساءلة، ابتداء من ذات الباحث وانتهاء بموضوع البحث. وأخيرا، عدم الخلط بين معايير العلم وغيرها من المعايير التي تجاوز المغايرة إلى المخالفة أو المناقضة. مؤكد أن البيان الذي أعلنته اللجنة المؤسسة للجامعة لم يكن يعني ذلك كله، ولكنه بتأكيده أن الجامعة مدرسة تفتح أبوابها لكل طالب علم مهما كان جنسه أو دينه، وأنه ليس لها صبغة سياسية ولا علاقة لها برجال السياسة المشتغلين بها، كان يفتح السبيل إلى ذلك كله، ويؤكد المعنى المدني للجامعة بوصفها مؤسسة علمية صاعدة من مؤسسات المجتمع المدني، ومن حيث هي كيان مستقل عن تقلبات السياسة وتحزبات أحزابها، وبعيد عن إمكانات التعصب الطائفي والتمييز الاعتقادي أو العرقي أو الجنسي أو حتى الاجتماعي. ولم يتجسد المعنى المدني للجامعة في بيان اللجنة المؤسسة فحسب، وإنما تجسّد بالقدر نفسه في اللجنة المؤسسة نفسها، من حيث هى تجمع مدني خالص في أهدافه، سعى إلى استكمال بناء ما ظل ناقصا من منظومة التعليم المدني في المجتمع، وذلك في علاقة وثيقة بعملية استكمال بقية المؤسسات المدنية في المجتمع والدولة من ناحية، وفي موازاة -أو مواجهة- التعليم الديني الذي لم يكن قادرا على تطوير نفسه في مواجهة تحديات النهضة من ناحية ثانية. ولذلك كانت الجامعة المدنية استكمالا للدور التمهيدي الذي أدته بنجاح المدارس العليا المهنية التي أكدت حضور طوائف الأفندية في المجتمع، وتحقيقا لآمال هذه الطوائف التي أصبحت الفاعل الاجتماعي الأساسي في العلاقات المدنية علي كل المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والإدارية والمهنية. ويلفت الانتباه في هذا المجال أن الغالبية في اللجنة التحضيرية للجامعة كانت للأفندية، شأنها في ذلك شأن اللجنة التنفيذية التي تحولت إلى مجلس إدارة الجامعة. ولم تكن صفة "الأفندي" تشير إلى المكانة الاجتماعية أو الدور الاجتماعي في هذا السياق فحسب، وإنما كانت تشير - فضلا عن ذلك- إلى ما يكتمل به الدور الاجتماعي من معنى سياسي يقترن بالانتساب إلى نوع جديد من التعليم الموازي للتعليم الديني التقليدي، هو التعليم المدني الذي أعدّ الأجيال التي بدأت بأمثال علي مبارك طليعة الأفندية. والصلة بين طوائف الأفندية في الأجيال المتعاقبة التي تخرجت من المدارس المدنية التي استكملها علي مبارك هي صلة المثاقفة التي استبدلت بالعصبيات العرقية والجنسية والاعتقادية القديمة نوعا من التحيزات المدنية الجديدة لفئات المطربشين من مثقفي الأفندية الذين اقتربوا من المستنيرين من أبناء الأرستقراطية الحاكمة في المسعى المدني لتحديث المجتمع والدولة، فتكونت بهم الجمعيات الأهلية في كل اتجاه، وتولدت من ممارساتهم الثقافية المشتركة فكرة إنشاء الجامعة التي أصبح المطربشون غالبية شبه مطلقة في لجنتها التحضيرية ثم لجنتها التنفيذية. وإذا توقفنا عند الجلسة التاريخية الأولى التي اجتمع فيها المؤمنون بفكرة الجامعة، في تمام الساعة الرابعة من ظهر يوم الجمعة الثاني عشر من تشرين الأول أكتوبر سنة 1906، وتقرر فيها الإعلان عن إنشاء الجامعة وبداية الاكتتاب العام لها، لم نجد من بين الستة والعشرين الحاضرين سوى واحد فقط يحمل لقب شيخ، وهو الشيخ عبدالعزيز جاويش الذي جلس جنبا إلى جنب سعد زغلول بك الذي انتخب وكيلا للرئيس العام، وقاسم أمين بك الذي أصبح سكرتيرا للجنة، وحسن سعيد بك الذي اختير أمينا للصندوق، فضلا عن الذين اختيروا أعضاء للجنة الجامعة، وهم: محمد عثمان أباظة بك ومحمد راسم بك وحسن جمجوم وحسين السيوفي بك وأخنوخ أفندي فانوس وزكريا أفندي نامق ومحمود الشيشيني بك ومصطفى كامل الغمراوي بك. ولم يكن بين هؤلاء جميعا باشا واحد، فالأكثرية كانت من البكوات أبناء الشرائح العليا من الطبقة الوسطى مع بعض كبار ملاك الأرض الزراعية من الأعيان المستنيرين الذين لم يكونوا بعيدين عن "حزب الأمة". ويلفت النظر انتفاء صفة التحزب عن أعضاء اللجنة، فمن هؤلاء الأعضاء من كان أقرب إلى الحزب الوطني، ومنهم من كان أميل إلى حزب الأمة، ومنهم من كان بعيدا عن الصفة الحزبية، وهم الغالبية التي ارتبطت في ما بينها على أساس يجاوز الأفق الحزبي المحدود إلى الأفق الوطني الأوسع الذي يتصل بأحلام الجميع في استقلال الأمة وتقدمها. ولا تخظيء العين المتأملة في هذا التجمع أمرين. يتصل أولهما بضآلة عدد الأفندية من ناحية ووجود قبطي واحد في ما يبدو من الأسماء بين أعضاء اللجنة. لكن وجود ممثلين قلائل للأفندية كان أمرا طبيعيا، يرتبط بالأوضاع الاجتماعية من ناحية، فضلا عن أن غالب البكوات في اللجنة كانوا من الأفندية الذين ارتقى بهم العمل المدني في الدولة في سلم المراتب الاجتماعية. ويشبه ذلك بمعنى من المعاني ضآلة التمثيل القبطي الذي لم يكن يعني سوى نوع من الحذر عند الأقلية التي لا تندفع اندفاع الواثق مثل الغالبية في هذا النوع من المشروعات، ولكنها لا تتردد في الإسهام، ويتزايد عددها تدريجيا مع تأكد خطى المشروع الوطني وبروز أهدافه المدنية. وذلك ما حدت بالضبط، إذ تصاعد عدد الأقباط في اللجنة بعد ذلك، وسار هذا التصاعد جنباً إلى جنب تأكيد الطابع المدني للجامعة، خصوصا في علاقته بأفكار الطليعة الصاعدة من أبناء الطبقة الوسطى الذين جعلوا من حلم إنشاء الجامعة المدنية الوجه الآخر من استكمال الصفات المدنية للدولة. أما الأمر الثاني فخاص بعدم وجود المرأة ممثلة في لجنة الجامعة. ولكن ذلك أمر طبيعي تماما في سياقات العصر الاجتماعية والثقافية والسياسية. وعلينا أن لا ننسى أن أول مدرسة لتعليم المرأة أنشئت في مصر على يدي علي مبارك 1823-1893 نتيجة تعليمات الخديو إسماعيل 1830-1895 وإلحاحه، ورغم معرفته بكثرة المعارضين لإنشاء مثل هذه المدرسة من المعادين للتعليم المدني للمرأة بوجه عام. والمسافة الزمنية بين اكتمال إنشاء المدرسة السنية لتعليم البنات وبداية عملها سنة 1873 والاجتماع الأول للجنة المؤسسة للجامعة سنة 1906 مسافة قصيرة لا تجاوز ثلاثا وثلاثين سنة، لا تسمح بتراكم أجيال من المتعلمات اللائي لم يكن مسموحا لهن بالتعليم في المدارس العالية. ولم يتغير الأمر كثيرا مع اللجنة الثانية المؤسسة للجامعة، تلك التي اجتمعت في يوم الجمعة الثلاثين من تشرين الثاني نوفمبر سنة 1906، بعد انسحاب سعد زغلول الذي تقلد وزارة المعارف العمومية، لكنه حضر الاجتماع للنظر في انتخاب الرئيس وأعضاء اللجنة النهائية. وشارك في الاجتماع إلى جانب أخنوخ أفندي فانوس، مرقس أفندي فهمي، ومرقس أفندي حنا ليؤكدا التمثيل الأكبر لأقباط الأمة. وزاد عدد الأفندية بحضور عبدالسلام أفندي زكي وزكريا أفندي نامق ومحمد أفندي أسعد وأحمد أفندي رمزي ومحمود أفندي طاهر حقي، كما لو كانوا يؤكدون حضور دائرة أوسع من ممثلي الطبقة الوسطى. وينتخب الحضور قاسم أمين بك صاحب "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" نائبا للرئيس، كما ينتخبون محمد فريد بك 1868-1919 سكرتيرا للجنة، عرفانا بدور مصطفى كامل 1874-1908 زعيم الحزب الوطني في الدعوة إلى إنشاء الجامعة. ويدفع قاسم أمين بعمل اللجنة إلى الأمام، ويفلح في إقناع الأمير أحمد فؤاد باشا الملك فؤاد الأول في ما بعد ليصبح رئيسا للجنة التي يعاد تشكيلها من جديد على نحو أكثر فاعلية، فتنجح في جذب أثرياء الأمة إلى التبرع للجامعة بالمال أو بالأطيان. وتقيم اللجنة الجديدة اجتماعها الأول في سراي حسن زايد بك بالمنوفية، تكريما له على تبرعه بخمسين فدانا من أجود أراضيه ووقفها على الجامعة الناشئة. وفي الاحتفال الذي أقيم بسراي حسن زايد بك، والذي ذكرت تفاصيله جريدة المؤيد في عددها الصادر في الثامن عشر من نيسان أبريل سنة 1908، يقف قاسم أمين نائب الرئيس ويلقي خطبة بليغة يؤكد فيها المعنى المدني للجامعة من منظور العلم الذي تحتاج إليه الأمة في تطلعها إلى التقدم، ويبرز ما يشعر به أبناء الأمة، وبخاصة شبابها الناهض، من الحاجة "إلى التمتع بثمرات العلم الحر الخالص من كل قيد". ويمضي مع إبراز معنى "العلم الحر الخالص من كل قيد" بوصفه علم التقدم الذي لا سبيل إلى تحقيقه إلا بالجامعة. وفي الوقت نفسه، يؤكد أهمية أن يسمو فهم هذا العلم عن المعنى الضيق للتعليم، فيقول: "نحن لا يمكننا أن نكتفي الآن بأن يكون طلب التعليم في مصر وسيلة لمزاولة صناعة، أو للالتحاق بوظيفة، بل إننا لنطمع أن نرى بين أبناء وطننا طائفة تطلب العلم حبا للحقيقة، وشوقا لاكتشاف المجهول، فئة يكون مبدؤها التعلم للتعليم. نود أن نرى من أبناء مصر، كما نرى في البلاد الأخرى، عالما محيطا بكل العلم الإنساني، وإخصائيا أتقن فرعا مخصوصا من العلم، ووقف نفسه على الإلمام بجميع ما يتعلق به، وفيلسوفا اكتسب شهرة عامة، وكاتبا ذاع صيته في العالم، وعالما يرجع إليه في حل المشكلات ويحتج برأيه. أمثال هؤلاء هم قادة الرأي العام عند الأمم الأخرى، والمرشدون إلى طرق نجاحها، والمدبرون لحركة تقدمها، فإذا عدمتهم أمة حل محلهم الناصحون الجاهلون والمرشدون الدجالون".