ثلاث ساعات قضتها الجالية العراقية والعربية في لندن، مساء السبت، مشدودة إلى التراث الأصيل بصوت سيد المقام العراقي حامد السعدي، ففي القاعة الكبرى في "كنزنغتون تاون هول" وسط لندن، وبدعوة من النادي العربي في بريطانيا، أحيا السعدي أمسيته "الادائية" لا الغنائية، بصحبة "فرقة الجالغي البغدادي" المكونة من كل من صهيب عازف الجوزة وباهر عازف السنطور، نجلي الفنان العراقي الراحل هاشم الرجب، وفاضل السعدي عازف الطبلة، شقيق قارئ المقام. وسط جمهور مغترب قد لا يلتقي إلا في مناسبة نادرة كهذه، جاء بصحبة أولاده الذين ربما لا يدركون معاني مفردات كثيرة في المقام العراقي، فضلاً عن "الجالغي" نفسه. ولكن الجميع، كباراً وصغاراً، حيّوا قارئ المقام، وصفقوا له، استمعوا وانسجموا مع العزف المنفرد والجماعي المتناغم للسنطور والجوزة والطبلة. وفي مشهد استعاد عشرينات القرن العشرين، ليس من خلال "السدارة الفيصلية" التي اعتمرها أعضاء الفرقة، مذكّرين بالملك فيصل الأول، أول من استبدلها ب "الخوذة" في العراق، وإنما من خلال "الجالغي" الذي يعني بالتركية "العَزْف". إذ نقل اعضاء الفرقة الجمهور وجالوا به بين عدد من المقامات وتنويعاتها، من مجموع نحو خمسين مقاماً. كلها تبتدئ ب "التحرير" وتنتهي ب "التسليم"، وبينها مجموعة من القرارات والجوابات والقطع النغمية الراقية، في فن عُرف ب "المقام العراقي" وهو نمط من الغناء الكلاسيكي ورثته مدن العراق من عصور ماضية، ويقوم على تراكيب نغمية خاصة ومعقدة، لكل منها المقامات قصة أو طرفة، معظمها وقع في العراق ابان العهد العثماني. فمن قصة بنوط عُملة تركية قديمة تعادل ليرة ذهبية "باعوني هلي والوعدة سنة"، وهي قصة تزويج فتاة بوعد مَهَر، عبارة عن "نوط" يوَفِه الزوج بعد سنة من زواجه، إلى حكاية "الرَوْزَنة" في الموصل، وهي عبارة عن فتحة تصل بيوت العراق القديمة مع بعضها بعضاً، وكان بعض العُشاق يستغلونها للقاءاتهم، حيث يمنع الخاطب من رؤية خطيبته حتى يوم زفافه. إلى قصة "من كايلك قال لك تشري شعير/ تخسر ما تخسر بالجير هذا نصيبك"، وهي تروي يوم تشارك الشاعر الشعبي المعروف مُلا عبود الكرخي مع رائد المقام محمد القبانجي، في تجارة الشعير والتمر البلح العراقي. فخسر الاثنان وأنشد كل منهما بحق الآخر أبياتاً يسخر منه ويعاتبه على تركهما مهنتيهما الغناء والشعر والانشغال بتجارة التمر والشعير الخاسرة. هذه وغيرها من قصص "المجرشة" و"قهوة عزاوي" التي تحولت إلى مقامات، أدّاها السعدي مذكّراً بالرّواد الأوائل من أمثال رشيد القندرجي ومحمد القبانجي وزهور حسين وناظم غزالي وغيرهم من مؤدّي المقام العراقي وقرائه. بعد مقدمة من الشاعر انطون رعد عن سحر بابل وحضارة ما بين النهرين كمقدمة لفن المقام، أخذ العازفون الثلاثة مقاعدهم وبدأوا عزفاً تراثياً بآلات يعود عمرها إلى نحو أربعة آلاف سنة، كما يشير بعض الألواح الطينية المكتشفة في وادي الرافدين. وبعد عشرين دقيقة أطلّ السعدي على وقع تصفيق حار. وبدأ الأداء ببستة "الليلة حلوة... حلوة وجميلة". واكمل محلقاً في أجواء العراق، التي لا يفسدها سوى طيران الحلفاء في هذه الأيام. وما أن قرأ السعدي "فكأنا في سفح لبنان نُبدي... وعلى الشام والعراق نعيد" حتى هاجت القاعة وماجت، فكرر المقطع مراراً يصعد وينزل فيه، وفقاً لروحية المقام وتركيبته النغمية، حتى أكمله ببستة "داري". وفاجأ السعدي جمهوره اللندني ب "هدية"، إذ أدى "صَبْحة" للمرة الأولى. ودفعاً لاستغراب البعض، اوضح السعدي قصة صبحة بائعة اللبن الرائب في مدينة "الجعارة" وهي الحيرة عاصمة دولة المناذرة، فروى عن المُتيم بها مُلاّ كامل، الذي كان يتمشى مع شيخ الشعراء الشعبيين في العراق الحاج زاير الدويج، فرأى "صبحة" فجأة، فقال: "دادة ضيعونة الشبكهة" أي هنيئاً لمن ضم صبحة إلى صدره، وطلب من الحاج زاير ان ينشد، فأنشد: "من تطب للسوك صبحة/ تصير بالدلال فرحة". أي حينما تدخل السوق صبحة يفرح لها القلب!